تشريعيات تركيا:

ست خصوصيات لانتخابات برلمان 2015

05 June 2015


"كبرت وترعرت في ظل القرآن، ومكانته في نفسي معروفة لدى الجميع".. تحت هذا العنوان أتت تصريحات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الذي ظل يقود علنياً الحملة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية، أملاً في إنجاز أغلبية مريحة تعينه على تحويل مجرى النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي أو شبه رئاسي.

وقد بذل أردوغان مساعي حثيثة لاستخدام أسلحة سياسية واجتماعية لدعم حكومة داود أوغلو وانتقاد المعارضة، وبدا ذلك واضحاً في ظهور رئيس الدولة أمام الناخبين في مدينة سيرت ذات الغالبية الكردية في الجنوب الشرقي حاملاً مصفحاً، وإصراره على تشويه الصورة الذهنية للمعارضة، وفي الصدارة منهم صلاح دميرطاش رئيس حزب الشعوب الديمقراطية، وطعنه في دينه حين أضاف في تصريحات له مطلع مايو الجاري "يدرك الجميع أيضاً موقفك من القرآن ومكانته لديك".

خصوصيات انتخابات تركيا 2015

لا تقف أهمية الانتخابات التشريعية التي ستجري بعد غدٍ (7 يونيو 2015) عند خصوصية المرحلة التي تعيشها تركيا اليوم، فثمة العديد من العوامل الأخرى التي تجعل هذه الانتخابات ذات أهمية استثنائية، أولها البيئة التي أجريت فيها العملية الانتخابية، وما شهدته من احتقانات وتصاعد للعنف، حيث تجري الانتخابات وسط أجواء شديدة التوتر، وفي خضم جدل واسع النطاق بين النظام والمعارضة. وكان بارزاً هنا الهجوم الشديد لرئيس الدولة على مناهضيه، ففي الوقت الذي وصف متظاهري جيزي بارك في عام 2013 بالإرهابيين واللصوص، اتهم المعارضة بدعم "الإرهاب".

وفي المقابل تشكو الأحزاب التركية من دور أردوغان في الدعاية الانتخابية، إذ استغل موازنة الرئاسة وإمكاناتها ونفوذها الحكومي لدعم العدالة والتنمية.

من جانب آخر تصاعدت وتيرة العنف، فبعد انتحار جلال إيرانجي، النائب السابق عن حزب العدالة والتنمية، في 8 أبريل الماضي لعدم ترشحه على قائمة الحزب، تم احتجاز ومقتل المدعي العام في اسطنبول، محمد سليم كيراز، على يد مسلحين من جبهة التحرير الشعبي الثوري، هذا علاوة على التفجيرات التي طالت حزب الشعوب الديمقراطية المحسوب على الأكراد.

وترتبط الخصوصية الثانية بحرص الرئيس أردوغان على الإمساك بمفاصل المشهد التركي، وبدا ذلك في قيادته لحملة الدعاية الانتخابية لحزب العدالة والتنمية، كما ترشح نحو 14 مقرباً من أردوغان في الانتخابات، وفي مقدمتهم صهره وسائقه ومطربه المفضل.

وبدت هناك العديد من التوجهات السلطوية في تركيا الجديدة كما كشفت عنها بعض المظاهر مثل رفع قضية بحق صحيفة "جمهوريت" المعارضة بعد أن كشفت النقاب عن شحنة أسلحة سربتها المخابرات التركية إلى المعارضة السورية.

وسبقت ذلك مقاضاة صحيفة "بيرجون" المعارضة التي حمل عنوانها الرئيس يوم 11 ديسمبر 2014 كلمة "خيرسز"، أي "لص" باللغة التركية، حيث كانت تعلق الصحيفة من باب السخرية على قرار العدالة والتنمية بإعادة تدريس اللغة العثمانية، إذ ذكرت أن الدرس الأول يجب أن يكون كلمة "خيرسيز" في إشارة إلى أردوغان.

أما الخصوصية الثالثة لهذه الانتخابات فتتعلق بتنامي الصراع المعلن – والخفي أيضاً - بين أردوغان وفتح الله كولن زعيم حركة "خدمة"، حيث يمثل كولن الحائز مؤخراً على جائزة غاندي للسلام صداعاً مزمناً في رأس أردوغان، ولذلك سعى الأخير طوال الشهور التي خلت إلى خلخلة هيكل الحركة وبنيتها الفاعلة على الأرض لمنع مؤيديها من دخول الاستحقاق الانتخابي.

وخلف ما سبق تأتي الخصوصية الرابعة، وتتمثل في اتساع الرتق بين أردوغان والمؤسسة العسكرية، والتي تعد عاملاً مهماً في المشهد الانتخابي، خصوصاً بعد تبرئة محكمة التمييز في نهاية أبريل الماضي 236 عسكرياً، وإعادة محاكمتهم في قضية "أرجينيكون" أو "المطرقة" بتهمة التآمر عام 2003 لإسقاط حكومة العدالة والتنمية.

وعلى الرغم من أن أردوغان أعاد تشكيل الهيكل القضائي - في انتخابات الهيئات القضائية - التي جرت في أغسطس الماضي على مقاس طموحاته السياسية، فإن المدعي العام التركي أحرج الرئيس حين نسف قضية الجنرالات التي شغلت الرأي العام طوال السنوات الخمس الماضية، وكشفت حيثيات الحكم عن أن "الأدلة واهية وليس لها علاقة، سواء بمخطط انقلابي حقيقي أو بالمتهمين".

غير أن تبرئة العسكريين لم تكن وحدها كافية لتهدئة التوتر المكتوم بين الجنرالات ونخب الحكم، إذ تبقى جذوة الخلاف مشتعلة بعد طرح العدالة والتنمية مسودة لتعديل قانون الأمن الداخلي، تم بموجبه توسيع صلاحيات الشرطة في التوقيف والاعتقال، ناهيك عن انتزاع قوة الدرك من يد الجيش التركي، وربطها بالكامل بوزارة الداخلية التي ستكون مسؤولة عن التعيينات والترقيات وتوجيه هذه القوة العسكرية.

أما الخصوصية الخامسة فتتعلق بهذا الحضور اللافت لـ "حزب الشعوب الديمقراطية" الكردي الذي تأسس في عام 2012، حيث يخوض الحزب لأول مرة العملية الانتخابية مستقلاً، مستفيداً من النتائج الإيجابية التي حققها مرشحه صلاح الدين ديمرطاش في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في تركيا في أغسطس الماضي؛ إذ من المرجح أن يتخطى الحزب حاجز الـ 10% المطلوبة لدخول البرلمان، وأن يصبح للأكراد حصة برلمانية تمنهم من طرح قضاياهم الخاصة.

وإضافة لذلك، ثمة حضور واسع للنساء في هذه الانتخابات، حيث تشهد العملية الانتخابية ارتفاعاً غير مسبوق في عدد المرشحات الذي بلغ 470 مرشحة، تتصدرهن مرشحات حزب الشعوب الديمقراطية بإجمالي  268 مرشحة مقابل 262 مرشحاً.

وتتعلق الخصوصية السادسة بحضور البعد الدولي في مشهد الانتخابات، خصوصاً الاتحاد الأوروبي الذي أبدى امتعاضه من التوجهات السلطوية الجديدة لحكومة أردوغان. كما ألقت ذكرى مذابح الأرمن بزخمها على الاستحقاق الانتخابي، فبعد تصويت البرلمان الأوروبي على الاعتراف بمذابح الأرمن، دعت الولايات المتحدة من جهتها إلى اعتراف كامل وصريح بالوقائع المرتبطة بالمجازر التي تعرض لها أرمن الأناضول إبان الحرب العالمية الأولى. وعلى الرغم من عدم استخدام كلمة "إبادة" كما فعل البابا فرنسيس، فإن موقف واشنطن، وكذلك موسكو التي أكدت على لسان رئيسها بوتين أنه "لا تبرير لأعمال القتل الجماعي في تاريخ البشرية"، يعتبران بمنزلة دعوة رسمية لتركيا للاعتراف بالوقائع التاريخية وعدم إنكارها.

مناخ من الاستقطاب الحاد

تبدو الانتخابات التشريعية التركية الحالية مختلفة عن كل سابقاتها، إذ يظل تحويل مسار النظام السياسي مرهون بنتائجها النهائية، وإنجاز حزب العدالة والتنمية 367 مقعداً أو على الأقل 330 مقعداً لضمان الوصول إلى محطة الاستفتاء على هيكلة الحكم.

كما تعد هذه الانتخابات هي الأهم منذ وصول رجب طيب أردوغان إلى سدة السلطة في عام 2002، فقد أجريت وسط أجواء شديدة التوتر، وفي خضم جدل سياسي واسع النطاق بين أردوغان ومؤيديه وقوى المعارضة السياسية.

ووصل مناخ الاستقطاب الذروة مع فض احتجاجات عيد العمال مطلع مايو الجاري بالقوة، وتصاعد الحديث عن الفساد المالي الذي طال أردوغان ونجله وعدداً من وزراء العدالة والتنمية.

وقد بلغ هذا الاستقطاب حد التراشق بين القضاء ومؤسسة الرئاسة، وهو الأمر الذي ألقى بظلاله على المشهد الانتخابي والصورة الذهنية للعدالة والتنمية في الوعي الجمعي التركي، لاسيما مع إعلان القاضي السابق غولتيكين آفجي على حسابه على "تويتر" وقائع تتعلق بالإرهاب، وقد يحكم عليه بالسجن مدى الحياة لبثه تسجيلاً يطال الرئيس أردوغان.

والأرجح أن أجواء الاستقطاب السياسي في الداخل، وترقب الخارج الذي وجه انتقادات لسلوك أردوغان سواء ضد النشطاء السياسيين أو الأقليات كانا هما الشعار الأبرز للعملية للانتخابية، وثمة دلالات تشير إلى مخاوف الأتراك من المستقبل، وتنامي نزعات القلق مما هو قادم، خصوصاً الخلاف والخصام بين مكونات المجتمع، واتساع رقعة الاستقطاب بين نخب الحكم والمعارضة.

ظواهر جديدة في المشهد التركي

شهدت البيئة الانتخابية في تركيا إلى جانب عناصرها التقليدية بعض العناصر الجديدة التي ألقت بظلالها على المشهد الانتخابي التشريعي، أولها تصاعد عدد الأحزاب المشاركة في الاقتراع، فمن بين نحو 31 حزباً تركياً، يشارك 20 حزباً بعضها يقف مع العدالة والتنمية على أرضية الإسلام السياسي مثل حزب السعادة ذو الامتداد الأيديولوجي لنجم الدين أربكان.

ويرتبط ثاني المستجدات بفشل نظرية "تصفير المشاكل" التي طرحها أحمد داود أوغلو، إذ خسرت تركيا رهاناتها في الصراع السوري، ودخلت في أزمة مع طهران على خلفية تأييدها عملية "عاصفة الحزم" ضد الحوثيين في اليمن، ناهيك عن تشويه الصورة الذهنية لتركيا بسبب تناقل الأنباء حول دعمها تنظيم "داعش" في سوريا والعراق.

من جانب آخر زادت أوضاع الاقتصاد التركي من سخونة المشهد الانتخابي، إذ تشهد البلاد ارتفاعاً غير مسبوق في معدلات التضخم التي وصلت إلى 7,61%، وهبوطاً في قيمة الليرة في مقابل الدولار بفعل حالة عدم اليقين إزاء مردود التشريعيات المقبلة على الاستقرار السياسي والاقتصادي في تركيا.

وعلى الصعيد الخارجي، فقد شهدت تركيا تراجعاً ملحوظاً في علاقاتها بأوروبا أحد الأسواق الحيوية للاقتصاد التركي، جنباً إلى جنب مع تصاعد الاحتقان في العلاقات التركية ـ الإيرانية بعد تأييد أنقرة لعملية "عاصفة الحزم" والتحسن الملحوظ في علاقاتها بدول الخليج العربي.

آفاق المستقبل

لقد ساهمت الضغوط الداخلية مع الضغوط الخارجية، في إعطاء زخم خاص للعملية الانتخابية في تركيا، ومن غير المحتمل أن تطوي هذه الانتخابات صفحة القلق السياسي في تركيا في ظل تصاعد الاحتجاجات وصعود زخم المعارضة التي تخلت نسبياً عن مواقعها الأيديولوجية.

والواقع أن ثمة شواهد ترجح القول بأن الأوضاع في تركيا قد لا تشهد استقراراً قريباً حتى بعد إجراء الانتخابات، لاسيما أن أردوغان مُصِر على البقاء في صدارة المشهد حتى لو تراجع نفوذ حزب العدالة والتنمية وفقاً لنتائج الانتخابات، حيث تشير بعض استطلاعات الرأي إلى أن الحزب قد لا يحصل على أغلبية مريحة تمكنه منفرداً من إجراء التغييرات التي يرغب بها أردوغان في النظام السياسي التركي.

وإضافة إلى ذلك، فإن الأوضاع الاقتصادية والمجتمعية باتت تفتقد لرؤية سياسية متوازنة بسبب النظرة الأحادية لنخب الحكم في التعامل مع الأزمة الاقتصادية، وهنا يبرز انتقاد أردوغان في مارس الماضي لسياسات البنك المركزي ومحافظه أرديم باشجي لعدم خفضه أسعار الفائدة، حيث قال أردوغان: "إن أي شخص يعارض خفض أسعار الفائدة خائن". وظلت هذه الانتقادات على الرغم من تراجع أردوغان عنها مصدراً لقلق المستثمرين الذين يخشون من إمكان أن يفقد البنك المركزي استقلاله.

أيضاً يبقى مهماً معالجة الاحتقانات الاجتماعية، في ظل خصوصية الأقلية الكردية والعلوية، والتي تصاعدت مطالبهما لدرجة لم تعد معها فكرة الاحتشاد الداخلي قادرة على إيقافها أو منع تحولها إلى احتجاجات باتت تؤرق شوارع تركيا.

أخيراً، يبدو أن تركيا سوف تستمر في حالة من الغليان الكامن وارتباك التوجهات السياسية وإمكانية تصاعد الخلافات الداخلية، لاسيما إذا ما وصلت قوى جديدة إلى البرلمان تعارض توجهات أردوغان وحزب العدالة والتنمية.