الانتخابات المبكرة:

استراتيجية أردوغان بين الرهانات والمغامرة

25 August 2015


إلى أين تسير تركيا؟.. سؤال بات يطرحه ليس السياسي في تركيا فحسب، وانما حتى المواطن العادي، فعملية السلام بين الحكومة وحزب العمال الكردستاني تحولت إلى مواجهة مفتوحة تسفر كل يوم عن أعداد جديدة من الضحايا. وتركيا التي يقول عنها رجب طيب أردوغان إنها قائدة للشرق الأوسط، فشلت في تشكيل حكومة ائتلافية تجسد نتائج الانتخابات البرلمانية التي جرت في السابع من يونيو الماضي.

والمؤتمر العام لحزب العدالة والتنمية يعقد بعد نحو أسبوعين وسط انقسامات ومخاوف من حصول انشقاقات في صفوفه بعد خروج الخلافات بين أردوغان وعبدالله غل إلى العلن ومطالبة أوساط حزبية واسعة بعودة غل إلى رئاسة الحزب. والعملة التركية تشهد انهياراً غير مسبوق أمام الدولار إلى درجة أن هذا الانهيار بات يهدد تركيا بالخروج من مجموعة العشرين.

ومؤشر العلاقة مع الغرب يسير نحو مدلولات سلبية غير مسبوقة على صعيد المنظومة الأمنية والسياسية، فواشنطن وبرلين قررتا فجأة سحب صواريخ باتريوت من الأراضي التركية في لحظة إعلان تركيا وضع قاعدة إنجرليك في خدمة حرب التحالف الدولي ضد داعش في سوريا والعراق.

ومن دون شك، فإن هذه الأحداث ليست مجرد أحداث طارئة، وانما أحداث استراتيجية مهمة، ستكون لها تداعيات على موقع تركيا ومستقبلها، فالبلاد تبدو كأنها تقترب إلى الانفجار والتفتت، حيث الطموح الكردي إلى الاستقلال ولو من بوابة الحكم الذاتي الذي أعلن الكردستاني البدء بتطبيقه في العديد من المناطق الكردية في جنوب شرق البلاد.

الانتخابات المبكرة وخطة أردوغان

ما أن انتهت الانتخابات البرلمانية التي حقق فيها الكرد بقيادة حزب الشعوب الديمقراطي فوزاً تاريخياً على حساب حزب العدالة والتنمية حتى انقلب أردوغان على العملية السلمية، وأعلن أن لا وجود للقضية الكردية في البلاد وتنصل من اتفاق قصر دولمة باهجه للسلام بين الجانبين.

وانطلاقاً من هذا الانقلاب أعد أردوغان خطة مبكرة للتوجه إلى الانتخابات المبكرة، فقد تعمد التأخير لمدة شهر كامل في تكليف أحمد داود أوغلو بتشكيل حكومة ائتلافية، فيما نفذ الأخير خطة أردوغان خطوة خطوة، إذ تأخر أوغلو حتى قبل خمسة أيام من انتهاء المهلة الدستورية لتشكيل الحكومة ليقول بعد ذلك إن جهوده فشلت في تأليف الحكومة بغية تهيئة الوضع لأردوغان لعدم تكليف رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو بتشكيل الحكومة بوصفه رئيس ثاني أكبر كتلة برلمانية كما ينص الدستور.

وهكذا اتضح لأحزاب المعارضة أنها تعرضت لمفاوضات غير حقيقية لتمرير الوقت، مع أن أردوغان كان يقول مراراً إنه "لابد من العودة إلى إرادة الشعب"، في إشارة إلى قراره المسبق بالتوجه إلى الانتخابات المبكرة؛ وهو ما دفع بـ "كليجدار أوغلو" إلى اتهام أردوغان بتدبير انقلاب مدني لتعمده إفشال مفاوضات تشكيل الحكومة بغية التوجه إلى انتخابات مبكرة على أمل استعادة حزب العدالة والتنمية الأغلبية البرلمانية التي خسرها، نظراً لأنها الجسر الوحيد الذي يؤمن له الانتقال من النظام البرلماني إلى نظام رئاسي يريده أردوغان حكماً مطلقاً.

وثمة أسباب كثيرة تقف وراء قرار أردوغان التوجه إلى الانتخابات المبكرة، لعل أهمها:

1 ـ إن الرجل الذي اعتاد على قيادة البلاد وحده طوال السنوات الماضية، يعتقد أن الناخب التركي تعرض للتشويش، وأن ثمة مؤامرة حصلت تحت الطاولة لإسقاط حكمه، وهو في العمق غير مستعد للتنازل عن ما حققه حزب العدالة والتنمية وطريقة إدارته للبلاد وسياساتها الداخلية والخارجية عبر سيطرته على الرئاسات الثلاثة (الجمهورية، والبرلمان، والحكومة).

2 ـ إن الحكومة الائتلافية تعني وضع نهاية لتطلعات أردوغان في الانتقال إلى النظام الرئاسي، ووضع حدود لتدخلاته في مجمل تفاصيل السياسة التركية الداخلية والخارجية، لاسيما تجاه الأزمة السورية، وهو ما لن يقبل به، خاصة أن الرجل يعتقد أنه قاب قوسين أو أدنى من تحقيق أجندته السياسية.

3 ـ إن تمسك الأحزاب التركية بفتح ملفات الفساد وإعادة التحقيق في فضائح الفساد المالية التي طالت وزراء ومستشارين ومقربين من أردوغان بما في ذلك نجله بلال، أثارت مخاوف جدية لدى أردوغان، وعليه من الطبيعي أن يرفض إعطاء مثل هذا الشرف لخصومه في المعارضة، خاصة أنه اعتاد على الحط من قيمة هذه المعارضة والاستهزاء بها.

4 ـ إن قضية الفوز في الانتخابات المبكرة لا تبدو قضية صعبة في نظر أردوغان، فالرجل يعتقد أن المدة الدستورية لإجراء الانتخابات، أي بعد ثلاثة أشهر من انتهاء المهلة الدستورية لتشكيل الحكومة، تبدو مهلة كافية لتدارك الخلل الذي أصاب حزب العدالة والتنمية، حيث شُكِلت لجان لتجاوز هذا الخلل وترتيب البيت الداخلي للحزب من جديد، وسط تسريبات تقول إن الحزب سيلغي في مؤتمره العام العديد من بنود نظامه الداخلي، لاسيما البند الذي يقضي بعدم إشغال قيادي منصبه لثلاث دورات متتالية، مما يعني إتاحة فرصة بقاء القادة القدامى في سدة المشهد السياسي من أمثال الرجل القوي بولنت أرينج وعلي باباجان ومحمد علي شاهين وغيرهم من الذين يشكلون الرعيل الأول للحزب، مع أن ما سبق قد يدخل الحزب في أزمة قيادات، خاصة وأن البرلمانيين الذين فازوا في الانتخابات الأخيرة قد لا يجدون أسمائهم في قوائم الترشيح  للانتخابات المبكرة، وهو ما قد يخلق انشقاقاً في قيادة الحزب.

استراتيجية أردوغان.. رهانات أم مغامرة؟

السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه هنا، هو كيف سيستعيد حزب العدالة والتنمية الأصوات التي يحتاجها للفوز بالأغلبية البرلمانية من جديد؟

ثمة من يعتقد أن استراتيجية أردوغان الأساسية هنا هي خلط أوراق الداخل للتأثير على اتجاهات التصويت لدى الناخب التركي، وتدخل الحرب ضد حزب العمال الكردستاني في إطار خطته لتحقيق هذا الرهان. ولعل توقيت الحرب بعد الانتخابات مباشرة يؤكد حقيقة هذا الأمر، وإلا ما الذي تغير حتى ذهب أردوغان إلى هذه الحرب وأطلق العنان لطائراته في قصف مواقع الكردستاني في الداخل وفي جبال قنديل شمالي العراق في الوقت الذي كان الحزب الكردستاني يعلن التزامه بالهدنة التي أعلنها من طرف واحد، وكان زعيمه عبدالله أوجلان يؤكد من معتقله في أمرالي أن وقت الرصاص انتهى ودخلنا مرحلة السلام ويعد خرائط طريق له.

ويهدف التصعيد ضد الكردستاني بالأساس إلى جذب أصوات القوميين الذين صوتوا في الانتخابات الماضية لصالح حزب الحركة القومية، ومحاولة مدروسة للتأثير على الناخب الكردي الذي صوت لحزب الشعوب الديمقراطي، بل ومحاولة لشل الأخير، سواءً بجره إلى العنف تمهيداً لحظره دستوريا قبل الانتخابات المبكرة أو على الأقل حظر قادته الكبار، لاسيما زعيمه صلاح الدين دميرطاش من العمل السياسي، وكأنه يقول للكرد: إما أن يحكمكم حزب العدالة والتنمية أو إنكم معرضون للقتل... فهل رهانات أردوغان منطقية؟!

الثابت أن رهانات أردوغان تبدو أقرب إلى مغامرة بل ومقامرة بمستقبل تركيا، فقصف مواقع الحزب الكردستاني دفع بالحزب إلى إعلان انتهاء الهدنة وشن سلسلة عملياته مكثفة ضد الجنود الأتراك والمقار الأمنية والحكومية، كما تحولت العديد من المدن الكردية والتركية إلى ساحات اشتباكات يومية أدت إلى تعطيل الحياة اليومية في هذه المدن، كما أن منظر جثث القتلى من الجنود الأتراك بدأ يثير ردود فعل تركية غاضبة وسط تحميل أردوغان المسؤولية عن ما يجري.

ولعل الأهم هنا أن هذه الحرب شدت من العصب القومي الكردي، إذ لم يعد من المنطق الحديث عن أن الكرد سيغيرون اتجاهات التصويت لديهم، بل يمكن القول إن ما جرى لن يدفعهم سوى إلى التصويت على أساس الهوية والانتماء القوميين، خاصة بعد ان اكتشفوا عدم جدية أردوغان في إيجاد حل سياسي للقضية الكردية وتنكره لها، وهو ما يعني أن حزب الشعوب الديمقراطي سيتجاوز من جديد العتبة الانتخابية أي نسبة عشرة بالمئة للدخول إلى البرلمان، وإذا حدث ذلك فإن نتائج الانتخابات المبكرة لن تكون مختلفة كثيراً عن الانتخابات السابقة، خاصة أن لعبة أردوغان باتت مكشوفة للناخب التركي، وهي تدخل في إطار حسابات السلطة أكثر من التمسك بالمبادئ السياسية والأخلاقية.

إن رهان أردوغان على الانتخابات المبكرة للانتقال إلى النظام الرئاسي يبدو وكأنه محاولة قسرية لتغيير البيئة الاجتماعية والسياسية والحزبية في البلاد، فالثابت أن هذه البيئة الجديدة لم تعد محكومة بأيديولوجية حزب العدالة والتنمية التي تعرضت للتكلس وفقدان البريق الأيديولوجي على وقع متغيرات الداخل والخارج. وعليه، فإن هذا الرهان يضع تركيا أمام مرحلة خطرة مفتوحة على كل الاحتمالات.

ولعل من المؤشرات الخطرة التي قد نشهدها في المرحلة المقبلة:

1 ـ تحول المواجهة المحدودة مع حزب العمال الكردستاني إلى حرب قومية بين الكرد والأتراك، وتوجه الكرد إلى إعلان حكم ذاتي في مناطقهم، خاصة أن عددهم في تركيا يبلغ قرابة 20 مليون، وهم محرومون من أبسط حقوقهم حيث لا اعتراف دستوري بهم، وهو ما قد يجلب حالة من التعاطف الدولي مع قضيتهم على غرار ما جرى لكرد العراق قبل سنوات، بما يعني أن القضية الكردية في تركيا ستدخل مرحلة جديدة في ظل تحول الكرد في عموم المنطقة إلى لاعب إقليمي مهم، خاصة بعد التحالف الذي جرى بينهم وبين الغرب في محاربة داعش.

2 ـ إن انزلاق لقضية الكردية إلى هذا المنزلق الخطر يفتح الباب أمام الأقليات القومية الأخرى كالأرمن والعرب والطائفية كالعلويين للمطالبة بحقوقهم، بما يرشح تركيا إلى مرحلة من العنف الداخلي والانقسام على الهوية القومية.

3 ـ إن دخول تركيا في مرحلة عدم الاستقرار الأمني والسياسي من شأنه هروب الاستثمارات الداخلية والخارجية، والتي تشكل قرابة 75 بالمئة من الاقتصاد التركي، وهو ما يعني احتمال انهيار هذا الاقتصاد وقيمة العملة التركية التي تشهد تراجعاً غير مسبوق على وقع الحرب ضد الكردستاني، إذ قد يتراجع مجمل الدخل التركي من 812 مليار دولار إلى نحو 600 مليار دولار، أي خروج تركيا من مجموعة دول العشرين.

4 ـ من شأن ما سبق أن يؤدي إلى تجديد الصراع  بين المؤسسة العسكرية وحزب العدالة والتنمية بوصفه يمثل الإسلام السياسي، في وقت لايزال يرى الجيش يرى أنه الحامي للأسس العلمانية التي بنت عليها الجمهورية، وسيناريوهات هذا التحرك من قبل الجيش قد يكون على شكل انشقاقات عسكرية، وربما تحركات ضد أردوغان، على غرار ما جرى لرئيس الوزراء الأسبق نجم الدين أربكان عندما أصدر الجيش بيانه المعروف والذي سمي ببيان شباط، والذي كان سبباً في استقالة أربكان من رئاسة الحكومة عام 1997.