تحدٍّ جديد:

مخاطر انتشار جدري القردة عالمياً

23 August 2024


صنفت منظمة الصحة العالمية في 14 أغسطس 2024 فيروس جدري القروة كـ"حالة طوارئ صحية عالمية"، وقد جاء قرار منظمة الصحة العالمية مدفوعاً بتزايد حالات الإصابة بين الأطفال والبالغين في أكثر من 12 دولة بأعراض هذا الفيروس، ولاسيما مع انتشار سلالة جديدة له؛ وهو الأمر الذي أعاد المخاوف من احتمال تحول الفيروس إلى وباء وجائحة عالمية على غرار جائحة "كورونا"، وأعاد المخاوف من احتمال لجوء العالم إلى إغلاق جديد. 

ماهية المرض:  

توضح البيانات المتاحة حول فيروس جدري القردة المنتشر عالمياً في الوقت الراهن مخاطره الصحية؛ وهو ما قد يمثل تحدياً للأنظمة الصحية في العديد من البلدان، وتتضمن البيانات الأساسية لجدري القردة ما يلي: 

• التعريف: تُعرف منظمة الصحة العالمية جدري القرود المعروف اختصاراً بـ"إمبوكس" بإنه مرض يسببه فيروس جدري القردة (يُختصر عادةً باسم MPXV)، وهو فيروس تابع لفصيلة الفيروسات الجدرية، التي تشمل الجدري وجدري البقر والوقس وفيروسات أخرى. والفرعان الحيويان الجينيان للفيروس هما الفرع الحيوي الأول والثاني. 

• الأعراض: يتسبب جدري القردة في إصابة الأشخاص بالعديد من الأعراض مختلفة الحدة، ففي حين تكون في غالبية الوقت أعراضه محتملة؛ فإنه قد يسبب للحوامل والأطفال والأشخاص الذين يعانون من نقص المناعة أعراضاً شديدة الخطورة، ويجعلهم يحتاجون إلى رعاية في مرفق صحي (حجر صحي)، وقد يتسبب المرض في بعض الحالات بالوفاة؛ إذ تشير البيانات المتاحة إلى أن المرض تسبب في وفاة ما بين 0.1% و10% من الأشخاص الذين أصيبوا به. ومن المهم ملاحظة أن معدلات الوفيات في البيئات المختلفة قد تتباين بسبب عدة عوامل، مثل: إتاحة الرعاية الصحية ومستويات المناعة. 

• طرق العدوى والانتشار: يصيب جدري القردة معظم الفئات العمرية، وبالرغم من أنه ليس فيروساً تنفسياً، فإن جدري القردة ينتقل عن طريق إفرازات الجهاز التنفسي، كما قد ينتقل إلى البشر من الحيوانات البرية المصابة بالفيروس من خلال التلامس المباشر مع الدم وسوائل الجسم والآفات الجلدية أو المخاطية للحيوان المصاب، أو تناول اللحوم من حيوان مصاب، كما قد ينتقل عبر تلامس الأشياء بعد استخدامها أو لمسها من شخص مصاب، كما قد ينتقل بين البشر نتيجة التلامس الجسدي أو ممارسة الجنس، أو قد تنقله الأم الحامل إلى الجنين. 

• العلاج والتطعيم: قد يتعافى الأفراد المصابون في كثير من الأحيان بعد الإصابة بالفيروس في غضون 3 أسابيع، وقد يحتاج بعضهم إلى الرعاية الصحية. ويحتاج المصابون بجدري القردة إلى التطعيم باللقاحات المتوافرة؛ إذ يوجد لقاحان ضد الجدري، الأول معروف باسم (Jynneos mpox) وهو لقاح من جرعتين، وهو اللقاح الوحيد الذي أذنت به إدارة الغذاء والدواء الأمريكية خصيصاً لهذا الاستخدام، وهو من إنتاج شركة (Bavarian Nordic) الدانماركية، ولكن الإمدادات من هذا اللقاح محدودة للغاية، ومكلفة، وقامت الولايات المتحدة بتوزيعه مجاناً في 2022، ثم أتاحته تجارياً في الولايات المتحدة. واللقاح الآخر يعرف باسم (ACAM2000) وينطوي على مخاطر أعلى من حيث التسبب في آثار جانبية وهو غير مناسب للتحصين الشامل. 

ولا يحتاج جدري القردة إلى التطعيم الشامل على غرار التطعيم ضد "كوفيد19" وفقاً لتوصيات منظمة الصحة العالمية؛ إذ تدعو المنظمة إلى استخدام لقاح شلل الأطفال لتطعيم المخالطين المقربين لمرضى جدري القرود والعاملين الصحيين المعرضين لخطر التعرض للفيروس. 

تطورات متسارعة:

تشير بيانات منظمة الصحة العالمية إلى أن جدري القردة ليس وليد اليوم، ولكن تعود بداياته إلى عام 1958 حينما تم اكتشاف فيروس جدري القردة في الدانمارك لدى قرود احتجزت لأغراض البحث، ثم لاحقاً وتحديداً في عام 1970 تم اكتشاف أول حالة إصابة بشرية بالفيروس في الكونغو لدى طفل يبلغ من العمر تسعة أشهر، وتشير المنظمة إلى أنه في عام 1980 تم القضاء على جدري القردة ونهاية التطعيم ضد فيروسه في جميع أنحاء العالم، ولكن هذا لم يمنع عودة المرض، الذي ظهر بشكل مضطرد في وسط إفريقيا وشرقها وغربها، ومنذ عام 2022 بدأت موجات جديدة عالمية لانتشاره.

ويأتي تحول الفيروس والمرض إلى حالة طارئة عالمياً، في ضوء ظهور سلالة جديدة من الفيروس (سلالة 2) والتي استطاعت الانتشار خارج الكونغو، وهي تنتقل عن طريق الاتصال الجنسي وبأعراض أقل، كما يتزامن هذا التحول مع تفشي فيروس "حمى الضنك" المتوطن في وسط وغرب إفريقيا، وهو يشبه مرض الجدري ولكنه أقل عدوى وينتشر الفيروس في المقام الأول من خلال الاتصال الوثيق بالحيوانات أو الأشخاص المصابين، واستهلاك اللحوم الملوثة. 

ومنذ مطلع العام الجاري، تم تأكيد أكثر من 18 ألف حالة إصابة في جميع أنحاء إفريقيا؛ إذ أعلنت وكالة الصحة التابعة للاتحاد الإفريقي، أنه تم تسجيل إجمالي 18737 إصابة محتملة أو مؤكدة بجدري القردة منذ مطلع العام في إفريقيا، بينها 1200 حالة في أسبوع واحد. وفي وقت سابق من الأسبوع، أعلنت مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها في إفريقيا، أن تفشي جدري القردة يشكل حالة طوارئ صحية عامة، بعد حدوث أكثر من 500 حالة وفاة، ودعت إلى مساعدات دولية لوقف انتشار الفيروس.

استجابة عاجلة:

في أعقاب الإعلان عن تصنيف جدري القردة كحالة طوارئ صحية عالمية، تزايدت الأصوات المطالبة بضرورة توفير لقاحات التعطيم ضد الجدري، ولاسيما وأن تلك اللقاحات متوافرة في الدول المتقدمة وليست في الدول الإفريقية الأكثر إصابة به، كما أن أسعار تلك اللقاحات مرتفعة بشكل ملحوظ، فعلى سبيل المثال، طالب وزير الصحة في الكونغو الديمقراطية، روجر كامبا، بتوفير ما يقارب من 3.5 مليون جرعة من لقاحات جدري القرود لوقف تفشي الفيروس؛ إذ تحتاج الكونغو إلى تطعيم 2.5 مليون شخص للسيطرة على المرض.

 هذا وقد أكدت شركة التكنولوجيا الحيوية الدانماركية، "بافاريان نورديك"، أنها تعتزم زيادة إنتاج لقاحها المضاد لجدري القردة والعمل مع منظمات الصحة الدولية لضمان الوصول العادل للقاح. وأضافت أنها أبلغت المراكز الإفريقية لمكافحة الأمراض والوقاية منها بقدرتها على تصنيع 10 ملايين جرعة من اللقاح بحلول نهاية عام 2025، وتوريد ما يصل إلى مليوني جرعة في العام الحالي. وقالت الشركة إنها تعمل على توسيع شبكة إنتاجها لتشمل إفريقيا، وإنها مستعدة للعمل مع المراكز الإفريقية وكذلك مع منظمة الصحة العالمية لجعل اللقاح في متناول جميع البلدان . 

حدود التحول إلى جائحة:

أثار إعلان منظمة الصحة العالمية حالة الطوارئ الصحية العالمية بشأن جدري القردة العديد من المخاوف من احتمالات تحول الفيروس إلى جائحة أو باء على غرار "كوفيد19"، كما أثار المخاوف من احتمال اللجوء إلى حالة الإغلاق العام والضغط على الأنظمة الصحية الحالية التي لم تتعاف بعد من أزمة "كورونا"، ولكن يشير العديد من الخبراء إلى أن تلك المخاوف قد لا تكون واقعية أو واردة نظراً للاختلاف الجوهري في البيانات الأساسية بين "كوفيد19" وجدري القردة (كما هو موضح بالجدول رقم 1)؛ وهو الأمر الذي قد يؤثر في نهج الاستجابة الدولية إزاء التعامل مع الحالة الصحية الطارئة. 


ويتضح من الجدول السابق، أن هناك فرصاً أفضل متاحة للمجتمع الدولي لتحقيق استجابة فعالة ضد جدري القردة، مقارنة باستجابته لأزمة "كورونا"؛ إذ إن توافر اللقاحات التي تم اختبارها، وبطء سرعة انتقال العدوى، وبطء إنتاج المتحولات من الفيروس، قد يسمح بإتاحة الوقت الكافي للعديد من البلدان لاتخاذ الإجراءات اللازمة للوقاية من المرض أو السيطرة على تفشيه.

ويتضح كذلك أن هناك فرصاً للتخفيف من ضغط انتشار الفيروس على الأنظمة الصحية؛ إذ قد لا يحتاج المرض إلى حجر صحي واسع النطاق كما حدث في حالة "كورونا"؛ مما قد يسهم في توفير نفقات من أجل توفير وشراء اللقاحات أو إنتاجها محلياً، فيما تقل احتمالات الإغلاق العام كالتي حدثت في أثناء وباء "كورونا"، طالما هناك مستوى من السيطرة على انتشار العدوى وعدم حدوث تحولات جينية متسارعة لمتحورات الفيروس. 

 تقييمات: 

في ضوء ما سبق يمكن الإشارة إلى عدد من التقييمات إزاء المخاطر المحتملة للحالة الصحية العالمية الطارئة بشأن جدري القردة وتحديات مواجهتها: 

• يمثل جدري القردة تحدياً جديداً أمام الأنظمة الحالية في أعقاب التعافي من أزمة "كورونا"؛ إذ يمثل انتشار جدري القردة لحظة كاشفة لحجم استعدادات الأنظمة الصحية للتعامل مع مستجدات الأوبئة والحالات الاستثنائية، ويفترض أن تكون الدول قد استفادت من تجربة "كورونا"؛ لتحسين أداء أنظمتها الصحية وإعادة هيكلة بنيتها التحتية لتوفير استجابة أفضل لمثل تلك الظواهر.  

• يمثل جدري القردة تحدياً أمام مخصصات الصحة والرعاية الصحية؛ إذ إن الاستجابة الوقائية له تتطلب توفير التمويل الكافي والموارد اللازمة لمواجهة تفشي المرض خاصة في الدول ذات الاقتصاديات الضعيفة، ولاسيما وأن أسعار اللقاحات باهظة ومحدودة. 

• سيكون مرض جدري القردة دليلاً آخر للكشف عن حجم التنسيق بين الهيئات الصحية العالمية والمحلية لضمان استجابة فعالة وسريعة للانتشار، وتضافر الجهود لتحقيق مستوى مناسب من الاستجابة الدولية والإقليمية الطارئة.

• يعيد جدري القردة طرح العديد من التساؤلات حول عدالة توزيع اللقاحات بين الدول الغنية والفقيرة، كما يثير جدري القردة كذلك التساؤل حول تطوير البحث العلمي وإنتاج اللقاحات في دول العالم الثالث، ومدى قدرة تلك الدول على تطوير أنظمتها الصحية والبحثية. 

ختاماً، يخضع تطور مخاطر جدري القردة على المستوى الإقليمي والدولي لوسائل استجابة الدول لتلك الطارئة، ومدى تحقيق التعاون والاستجابة الجماعية، وتعزيز العمل على تحقيق عدالة توزيع اللقاحات بين الدول، وتشجيع الدول على إنتاج اللقاحات بما يتجاوز محدودية إنتاجها، كما سيكون هناك إلزام أخلاقي وصحي إزاء ضرورة توفير التمويل للدول ذات الاقتصاديات الضعيفة لتحقيق استجابة وطنية سريعة لمكافحة المرض قبل انتشاره خارجها.