هجوم نوعي:

لماذا قطعت مالي علاقتها الدبلوماسية بأوكرانيا؟

07 August 2024


قرّرت الحكومة الانتقالية في مالي، الأحد 4 أغسطس 2024، قطع العلاقات الدبلوماسية مع أوكرانيا بمفعول فوري، على إثر ما قالت باماكو إنه إقرار المتحدث باسم وكالة الاستخبارات العسكرية الأوكرانية أندريه يوسوف، بضلوع أوكرانيا في هجوم شنّته جماعات إرهابية مُسلّحة في أواخر يوليو، أسفر عن مقتل عناصر من فاغنر الروسية بالإضافة لخسائر فادحة بين الجيش المالي. في حين نفت وزارة الخارجية الأوكرانية تلك التُّهم، ووصفت قرار قطع العلاقات بأنه قصير النظر ومُتسرع.  

وكانت حركة "الأزواد" المُتمردة في شمال مالي قد أعلنت، في 27 يوليو 2024، أنها كبّدت القوات المالية وعناصر فاغنر الروسية، المتحالفة مع الجيش المالي؛ خسائر فادحة في منطقة كيدال شمال البلاد؛ إذ زعمت قتل وأسر العشرات من الجنود خلال صد هجوم لتلك القوات. في الوقت ذاته، قالت "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" الموالية لتنظيم القاعدة، أنها قتلت 50 عنصراً من قوات فاغنر و10 جنود ماليين في كمين نصبته في منطقة كيدال.

تطورات نوعية:

تُعد الخسارة التي مُنيت بها قوات فاغنر والقوات الحكومية في الهجوم الذي تبنته حركة الأزواد أو الكمين الذي نصبته جماعة نصرة الإسلام والمسلمين هي الأكبر في صفوف تلك القوات خلال الأشهر القليلة الماضية؛ إذ تُشير البيانات الأولية إلى أن الهجوميْن جاءا في إطار التطورات التالية:

1. حملات أمنية ضد مناطق تمركز المتمردين: شنّ الجيش المالي وقوات فاغنر المتحالفة معه حملة أمنية وعسكرية لتطهير المناطق النائية من المتمردين الطوارق في منطقة كيدال، في أواخر يونيو 2024؛ إذ تركزت جهود الحملة في إجراء عمليات حول بلدة إبيبارا الواقعة في موقع استراتيجي بين مدينة كيدال والحدود الجزائرية.

انتقلت الحملة الأمنية والعسكرية للجيش المالي وفاغنر إلى منطقتيْن منفصلتيْن (إساكو شرقي كيدال، ومنطقة الحدود الجزائرية) في منتصف يوليو 2024، وقامت قوات الحملة بدوريات في تلك المنطقة لبضع ساعات قبل الانسحاب منها إلى قواعدها في أقصى الجنوب؛ نتيجة ضعف القدرة على الاحتفاظ بالمواقع على طول الحدود، وهو الأمر الذي سمح بعودة المسلحين مرة أخرى لتلك المناطق.

تجنب المسلحون في بداية الحملة الأمنية الاشتباك مع قوات الجيش وعناصر فاغنر، ولكن في 25 يوليو 2024، صدّ المسلحون قافلة عسكرية وأمنية كانت تسعى لاستعادة قاعدة عسكرية شاغرة في مدينة تينزاوتين الحدودية، واستمر القتال بالقرب من القاعدة لعدة أيام؛ إذ أوقف المسلحون القافلة جنوب تينزاوتين في اليوم الأول وأجبروا قوات الأمن على التراجع إلى كمين مميت في اليوم التالي؛ مما تسبب في معظم الضحايا.

2. خسائر داخل الجيش المالي وفاغنر: أفادت مصادر روسية مُطّلعة أن ما لا يقل عن 20 مُقاتلاً روسياً لقوا حتفهم، وكان الجيش المالي في البداية قد أكّد أنه فقد جندييْن وطائرة هليكوبتر، لكنه اعترف بـ"عدد كبير" من الخسائر في 29 يوليو.

ومن غير المعلوم حتى الآن؛ إذا كان الكمين الذي وقع فيه معظم الضحايا قد نفذّته حركة الأزواد أم "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين"، التي قالت إن مُسلحيها تمكنوا من "استدراج قافلة من الجيش المالي ومُرتزقة فاغنر في كمين مُعقّد" جنوبي تينزاوتين، بعد انسحابهم من المنطقة التي حاولوا استعادتها من المتمردين (حركة الأزواد)، وبالرغم من عدم وجود أدلة على التنسيق والتحالف بين جماعة نصرة الإسلام والمسلمين وحركة الأزواد؛ فإن السلطات المالية ألمحت إلى وجود تعاون وتحالف بين الطرفين.

3. تُهم بتعاون أوكراني مع المُتمردين: أفادت تقارير عدّة بأن السلطات الأوكرانية تتعاون مع المُقاتلين الذين ينشطون في شمال مالي، وتزوّدهم بمعلومات استراتيجية وتدربهم على استخدام الطائرات من دون طيار، كما أدلى، أندريه يوسوف، المتحدث باسم جهاز الاستخبارات العسكرية الأوكراني، بعد يومين من الهجوم المذكور أعلاه، بأن أجهزته تتعاون مع المقاتلين الذين ينشطون في شمال مالي. ووفقاً له، فقد "تلقوا معلومات مُفيدة، وليس فقط تلك التي سمحت لهم بتنفيذ عملية عسكرية ناجحة ضد القوات الروسية في مالي". وفي المقابل، فقد نفت كييف أي علاقة لها بالهجمات، كما سبق الإشارة أنفاً.

سياق مُركّب: 

تأتي تلك التطورات الأمنية بمنطقة كيدال في وقت تشهد فيه مالي ومنطقة غرب إفريقيا العديد من السياقات السياسية والأمنية لعل من أبرزها: 

1. تأسيس كونفدرالية الساحل والصحراء: تأتي تلك الهجمات بعد ثلاثة أسابيع من إعلان دول منطقة الساحل (مالي، بوركينا فاسو، النيجر) توقيع مُعاهدة تأسيسية لـ"كونفدرالية دول الساحل"، وتولي مالي رئاستها في العام الأول؛ بهدف تحقيق اندماج أكثر عمقاً بين الدول الثلاث، وتضع الكونفدرالية تحقيق الاستقرار الأمني ومُكافحة التمرد والإرهاب على رأس أولوياتها من خلال تعزيز التعاون الأمني والعسكري بين الدول الثلاث. 

2. شنُّ المتمردين هجمات ضد قوات الجيش والمُتعاونين: أعلن متمردو الطوارق في شمال مالي مؤخراً عن تشكيل تحالف يعرف باسم "الإطار الاستراتيجي الدائم للدفاع عن شعب أزواد"، ويقوده بلال أغ الشريف؛ وذلك بهدف قتال القوات الحكومية المالية والقوات المتحالفة معها سعياً لاستعادة السيطرة على بعض المناطق والمدن في شمال مالي.

وجدير بالذكر أنه قد حدث تراجع نسبي لحجم العمليات المسلحة والإرهابية في مالي منذ مطلع العام؛ نتيجة العمليات العسكرية التي يشنها الجيش وعناصر فاغنر في شمال البلاد، وانتقال تركيز الجماعات الإرهابية بشكل أساسي لشن هجمات إرهابية مُكثّفة في كل من بوركينا فاسو والنيجر. 

3. هدنة بين فرعيْ داعش والقاعدة في المنطقة: تزايد الحديث عن وجود هدنة غير معلنة بين فرع تنظيم داعش "ولاية الساحل" وفرع تنظيم القاعدة "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" تهدف لمنع وتقليل الاشتباكات التي كانت دائرة بين الطرفين في إطار التنافس على النفوذ بين الطرفين في مالي، وزادت حدّتها في عام 2023 قبل أن تتراجع منذ مطلع العام الجاري. 

4. انسحاب غربي مُقابل وجود روسي: شهدت منطقة غرب إفريقيا انسحاباً كاملاً لبعثة الأمم المتحدة المعنية بمكافحة الإرهاب في مالي أواخر 2023، ومن قبلها إنهاء مهمة "برخان" الفرنسية لمكافحة الإرهاب في غرب إفريقيا، واستبدال تلك المهمات بمهمة لقوات فاغنر الروسية للمشاركة في جهود مُكافحة الإرهاب، وسط تُهم واسعة ضد فاغنر بارتكاب انتهاكات ضد المدنيين في العديد من المدن المالية، وفي هذا يُشار إلى أن انسحاب المهام الدولية من مالي زاد من تركيز أنشطة المتمردين والجماعات الإرهابية ضد معسكرات فاغنر في شمال البلاد. 

التوجه العام لدول غرب إفريقيا باستبدال المهام الدولية الغربية بدور رئيسي لروسيا من خلال عناصر شركة فاغنر أو ما يعرف بـ"الفيلق الإفريقي"، ولاسيما بعد سحب الولايات المتحدة قواتها العاملة في النيجر، ودخول العناصر الروسية إلى القواعد التي كانت تقيم فيها القوات الأمريكية، كما تم نقل معدلات عسكرية روسية ومستشارين لمهام التدريب إلى بوركينا فاسو. 

دلالات واضحة:

تحمل التطورات الأخيرة في شمال مالي عدداً من الدلالات الواضحة والبارزة، والتي تمثل الإجابة عن التساؤلات السابقة، ولعل من أبرزها: 

1. ليس الهجوم الأول: لا يُعد هذا الهجوم الأول من نوعه على قوات فاغنر والقوات المالية الحكومية، ولكنه يأتي ضمن سلسلة مُتعددة من الهجمات والهجمات المضادة بين أطراف الصراع المسلح، ولاسيما وأن معركة الاستهداف أصبحت أكثر تركيزاً بعد الانسحاب الأممي والفرنسي من مالي؛ ومن ثم تحولت بوصلة الجماعات المسلحة للاشتباك مع قوات فاغنر وصد هجماتها.

يتسم التطور (الكمين) الأخير للجماعات المسلحة ضد قوات فاغنر بأنه تكتيكي ونوعي، ويبدو أنه اعتمد بالفعل على معلومات دقيقة حول تحركات القوافل العسكرية الروسية في مالي، وكان الغرض منه إيقاع أكبر عدد ممكن من الضحايا بين صفوف القوات الروسية والحكومية، والعمل على الترويج لهذا الهجوم؛ بهدف إحراج السلطات المالية وقوات فاغنر؛ وهو ما تم بالفعل؛ وهو الأمر الذي يرجّح حصول تلك الجماعات بالفعل على معلومات من الاستخبارات الأوكرانية. 

2. اختراق أمني: بالرغم من نجاح مالي وحلفائها الروس في تقليل حجم العمليات الإرهابية، واستعادة العديد من المناطق شمال مالي خلال الأشهر الماضية؛ فإن الكمين الأخير كشف افتقار القوات الحكومية المالية وعناصر فاغنر للأدوات التقنية والعسكرية اللازمة لإحكام السيطرة والرقابة على المناطق التي تتم استعادتها، وهو تحدٍّ أكبر لجهود مكافحة الإرهاب في البلاد؛ وهو ما يعني أن استعادة الأراضي أو المدن ليست كافية لتحقيق الاستقرار في البلاد، ولكن هناك حاجة لقوة مدربة وتقنية عالية للحفاظ عليها.

3. تحالف داعش والقاعدة مع الأزواد: على الرغم من غياب أدلة تؤكد وجود علاقة تحالف أو تعاون بين الجماعات المسلحة في مالي، فإن هناك نماذج معاصرة لوجود هذا النمط من العلاقات؛ إذ تحالفت "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" مع حركة الأزواد في 2013 من أجل السيطرة على مدن الشمال في مالي؛ وهو ما تم بالفعل، كما أن "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" ذاتها نسيج من جماعات وفصائل مُسلحة تحالفت في 2017 لتشكيل قوة مُوحّدة، كما يذكر أيضاً في هذا الصدد التنسيق الميداني النسبي بين فرعيْ القاعدة وداعش في بعض المدن المالية وتقاسم النفوذ والنشاط فيها.  

مسارات مُتوقعة: 

تُشير التطورات الأمنية والعسكرية الأخيرة في شمال مالي، إلى أن الوضع الأمني قد يتعرض للعديد من المسارات الميدانية من أبرزها ما يلي: 

1. تعدد التدخل الخارجي لأطراف الصراع: وذلك من خلال تكثيف بعض الدول الغربية، ولاسيما المناهضة للنظام العسكري الحاكم في مالي، دعم ومُساندة المُتمردين والمُسلحين بالمعلومات والسلاح وربما التدريب من أجل مُهاجمة قوات فاغنر الروسية في مالي، ومُحاولة إضعاف سلطة الحكومة المالية، والدفع بعودة قوة مُعارضة سياسية للنظام المالي الحالي، كما أن هذا الاتجاه قد يجد في تقارير الدعم الأوكراني متغيراً مشجعاً على ذلك. 

ومن جهة أخرى، قد تزيد أوكرانيا من جهودها في دعم المتمردين في شمال مالي؛ بهدف إضعاف وإفشال فاغنر في منطقة غرب إفريقيا، ولاسيما وأن أوكرانيا جعلت من استهداف المليشيات شبه العسكرية الروسية هدفاً استراتيجياً عبر فتح جبهة في إفريقيا؛ وهو ما يعني إمكانية تدخلها في ساحات أخرى، يدعم ذلك وجود تقارير تشير بالفعل إلى وجود أوكراني في السودان لاستهداف أي وجود روسي. 

ومن المرجح أن يزيد الدعم الخارجي للمسلحين والمتمردين مدّة الصراع في شمال مالي، ويعقد من جهود مكافحة الإرهاب في المنطقة، ويفاقم الأزمة الأمنية في البلاد؛ إذ يُتوقع مع تزايد الدور الغربي، تصاعد مقابل للدور الروسي في دعم القوات الحكومية بأسلحة حديثة ومستشارين أكفاء؛ إذ إن إمداد المسلحين في مالي بطائرات مسيرة قد يُغيّر معادلة القوة ويضغط بشكل رئيسي على القوات الحكومية والقوات الروسية الداعمة لها. 

وأيضاً يتوقع أن يُسهم تكوين "كونفدرالية دول الساحل" في توفير موارد إضافية لتخصيصها في مجال مكافحة الإرهاب، كما أن تأسيس قوة موحدة لمكافحة الإرهاب قد يُسهم في تعزيز جهود حماية الحدود بين البلدان الثلاثة.

2. مسار تحالف الجماعات المُسلحة: مع تزايد الضغط الحكومي وضغط قوات فاغنر على معسكرات المُتمردين والجماعات الإرهابية في شمال مالي، قد تتجه تلك الجماعات المسلحة للتنسيق أو التعاون، غير المعلن، في تنفيذ ضربات منسقة ضد القوات الحكومية والعناصر الموالية لها؛ وهو الأمر الذي قد يُسهم في توفير موارد وتبادل للمعلومات بين الجماعات المسلحة في مناطق النفوذ والانتشار.

وتتزايد فرص تحقيق هذا المسار المتوقع مع توافر مصالح مشتركة قوية بين الجماعات المسلحة في إلحاق الضرر بالقوات الحكومية وحلفائها في شمال مالي، ومع توافر بعض الروابط العرقية بين الجماعات المسلحة والمتمردين، فقائد جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، إياد غالي، من الطوارق، كما أن بعض قيادات الجماعة ينتمون لتلك القبائل ولديهم صلات اجتماعية قوية. 

وجدير بالذكر أنه خلال السنوات الماضية قلت الاشتباكات بين حركة الأزواد وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين، حتى بعد تفكك تحالفهم في أواخر 2013. 

3. المسار التفاوضي والسياسي: في حالة تفاقم الأوضاع الأمنية والعسكرية في المنطقة، قد تتجه بعض الأصوات في مالي للمطالبة بالعودة لتحقيق مصالحة سياسية والتفاوض مع الجماعات المسلحة من أجل بناء السلام ونزع السلاح وإعادة الدمج، وهو المسار الذي كانت السلطات في مالي قد قطعت شوطاً فيه خلال السنوات الماضية قبل أن يتوقف مع التغيرات السياسية في البلاد خلال العاميْن الماضييْن، وهذا المسار هو الأقل تكلفة بالنسبة للحكومة المالية وللجماعات المسلحة، ولكن يظل هذا المسار غير جدي على المدى القريب بسبب بقاء ميزان القوة لصالح القوات الحكومية المسيطرة على النفوذ في شمال البلاد، وقدرتها على تطهير معاقل المتمردين؛ وهو الأمر الذي يجعلها غير مُستعدة لتقديم تنازلات في الوقت الراهن. ويتوقف هذا المسار على معادلات القوة خلال السنوات المقبلة، ومدى قدرة كل طرف من أطراف الصراع على تحقيق وفرة في ميزان القوة لصالحه. 

وفي التقدير، فإنه بالرغم من الهجوم الذي نفذّته الجماعات المسلحة في شمال مالي ضد القوات الحكومية وعناصر فاغنر الروسية المتحالفة معها؛ فإنه لا تجب المبالغة في تقدير حجم وقدرة المتمردين والجماعات الإرهابية في تحقيق وفرة لميزان قوتهم خلال الفترة المقبلة؛ وذلك بسبب استراتيجية الحسم التي تتبعها السلطات المالية وقوات فاغنر في عمليات مكافحة الإرهاب. 

فعلى النقيض من الاستراتيجية الأمريكية والغربية في استخدام هجمات نوعية مثل (توجيه ضربات بالطيران المسير، أو المداهمات المحدودة، أو بالتركيز على قتل قيادات الجماعات المسلحة) فإن عناصر فاغنر تستخدم تعاملاً شمولياً قد لا يراعي بعض القواعد الإنسانية في بعض الحالات من أجل استعادة السيطرة الكاملة على الميدان.