تحييد الخلافات:

رسائل ونتائج قمة "بوتين – أردوغان"

18 August 2016


شكلت محاولة الانقلاب الفاشلة التي شهدتها تركيا في منتصف شهر يوليو الماضي نقطة تحول حقيقية في العملية السياسية داخل البلاد، وامتدت آثارها بشكل ملحوظ إلى شبكة التفاعلات الإقليمية والدولية في المنطقة. ولعل أبرز التجليات، في هذا السياق، تأكد مع زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لنظيره الروسي فلاديمير بوتين يوم 9 أغسطس الجاري، والتي تعد تدشيناً لنهج تصالحي جديد في العلاقة بين البلدين.

وأسفرت قمة بطرسبورغ بين بوتين وأردوغان عن تأكيد الجانبين على العلاقات التجارية والاقتصادية المشتركة، والإعلان عن اتخاذ خطوات جدية في هذا الشأن، مع إعطاء رسائل بتحييد أي خلافات في مواقف البلدين إزاء بعض الصراعات في الإقليم، ومنها بالطبع الوضع في سوريا، وفصلها عن أي مصالح أخرى تجمع موسكو وأنقرة، مع محاولة الوصول إلى رؤية مشتركة بشأن هذه الملفات العالقة.

الانقلاب التركي الفاشل.. نقطة تحول

كانت العلاقات الروسية – التركية قد شهدت نمواً ملحوظاً في العقد الأخير بعد تولي بوتين رئاسة روسيا، ووصول حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان إلى سدة الحكم في تركيا، بيد أن هذه العلاقات عانت تدهوراً خلال الشهور الماضية على خلفية إسقاط الطائرة الروسية من قِبل القوات التركية في 24 نوفمبر 2015.

ومثَّل هذا الحادث ضربة موجعة للعلاقات التجارية بين البلدين، لاسيما مع الحظر الاقتصادي الذي فرضته موسكو على أنقرة، والذي بسببه هبطت الصادرات التركية إلى روسيا في النصف الأول من العام الحالي، حيث بلغت قيمتها نحو 737 مليون دولار أي بانخفاض نسبته 60.5% مقارنةً بالفترة نفسها من العام الماضي. كما أدت هذه الخلافات إلى تجميد مشروعين ضخمين للطاقة؛ وهما "تركستريم" لنقل الغاز الطبيعي عبر البحر الأسود، ومفاعل أكويو النووي الذي تشرف الوكالة الفيدرالية للطاقة النووية الروسية (روزاتوم) على بنائه.

وبدأت العلاقات الروسية - التركية في التحسن، وكسبت زخماً وتسارعاً واضحين بعد محاولة الانقلاب الفاشلة ضد الرئيس أردوغان، فمن ناحية ظهرت تقارير إعلامية لتؤكد أن الرئيس التركي تلقى من روسيا إنذاراً بالانقلاب العسكري المُدبّر في بلاده، قبل ساعات من وقوعه، بعدما تمكن عسكريون روس متمركزون في قاعدة "حميميم" الجوية الروسية في سوريا من التقاط مكالمات لاسلكية دارت بين مُدبري الانقلاب، وعلى إثرها تم إبلاغ جهاز الاستخبارات التركي "بقرب حدوث انقلاب" يتم التحضير له.

من ناحية أخرى، كان بوتين قد اتصل هاتفياً بأردوغان، قبل أي من الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلنطي "الناتو"، في أعقاب انقلاب 15 يوليو الفاشل، مُبدياً دعمه له، ورفضه محاولة الانقلاب. ولا شك أن مثل هذه الخطوات وغيرها يسَّرت جهود الوساطة بين البلدين لتجاوز الفجوة بينهما، حيث كان قد سبقها توجيه أردوغان رسالة خطية إلى بوتين، في يونيو الماضي، اعتبرها الكرملين بمنزلة اعتذار عن حادث إسقاط الطائرة الروسية.

كما برزت علامات ذوبان لجليد العلاقات البلدين بعدما رفعت السلطات التركية، يوم 8 أغسطس الجاري وعشية زيارة أردوغان موسكو، الحظر الذي فرضته قبل 4 أشهر على بث موقع "سبوتنيك" الإلكتروني في أراضيها؛ وهو موقع ناطق باللغة التركية ومُمول من الكرملين.

رسائل قمة "السلطان والقيصر"

حملت قمة بطرسبورغ بين أردوغان وبوتين العديد من الرسائل الموجهة لأطراف عدة، لاسيما أن هذه هي الزيارة الخارجية الأولى لأردوغان منذ محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو الماضي. ومن ثم، فقد عمد الرئيس التركي، من خلالها، إلى تقديم رسالة للولايات المتحدة وأوروبا فحواها أنه ليس معزولاً، وأن لديه خيارات أخرى، وشركاء غير غربيين للتعاون معهم، خاصةً أن تركيا تشعر بأن حلفاءها الغربيين فشلوا في دعمها بعد المحاولة الانقلابية. كما تنتقد أنقرة بشدة تركيز العواصم الغربية على حملة التطهير التي تنفذها حكومة أردوغان في المؤسسات التركية، علاوة على رفض الولايات المتحدة تسليم فتح الله غولن الذي تتهمه أنقرة بالوقوف وراء الانقلاب الفاشل.

وقد دعمت فعَّاليات الزيارة هذا التوجه التركي، لاسيما في ظل المستوى الرفيع وتنوع المشاركين في مباحثات بطرسبورغ، حيث شملت عدداً من كبار المسؤولين العسكريين والسياسيين والاقتصاديين في البلدين.

بروز الاقتصاد في قمة بطرسبورغ

كان لافتاً حرص الجانبين الروسي والتركي على إبراز النتائج الاقتصادية لزيارة أردوغان، إذ أعلن الرئيس الروسي أن بلاده ستقوم برفع القيود الاقتصادية عن تركيا بشكل تدريجي، داعياً إلى العمل المكثف من أجل زيادة التبادل التجاري بين البلدين، حيث سيتم التركيز على تكثيف الاستثمارات والمشاريع الواعدة، وإعادة إنعاش الرحلات السياحية من روسيا إلى تركيا.

وإذا كان حجم التبادل التجاري بين روسيا وتركيا قد بلغ في عام 2014 نحو 31 مليار دولار، فقد أعرب الرئيس أردوغان عن تطلعاته الكبيرة إلى أن يصل حجم تجارة بلاده مع موسكو إلى 100 مليار دولار بحلول عام 2024، مشيراً إلى أنه تم الاتفاق على إزالة جميع العوائق التي تعترض رجال الأعمال والمستثمرين في كلا الدولتين، وعلى إنشاء الصندوق التركي - الروسي للاستثمارات المشتركة، فضلاً عن الاتفاق على بناء محطة المفاعل النووي في تركيا، وزيادة فاعلية المثلث الدولي "روسيا - تركيا - أذربيجان".

الملفات العالقة.. الأزمة السورية

على الرغم من الطفرة التي طرأت على العلاقات التركية – الروسية مؤخراً، غير أن ذلك لا يعني القفز إلى استنتاجات مفرطة في التفاؤل فيما يخص التقارب الكامل بين البلدين، في ظل تعقيدات شبكة العلاقات بين مختلف الأطراف المعنية في هذا الصدد. فتركيا وإن كانت قد أبدت بعض التشدد إزاء الولايات المتحدة وأوروبا بسبب مواقفهما بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، بيد أنهما حليفان لا يمكن لأنقرة الاستغناء عنهما، خاصةً في ظل المرونة التي يبديها أردوغان وحكومته مؤخراً في سياسته الخارجية، وسعيه لتقليل خلافاته مع محيطه الإقليمي والدولي لكي يتفرغ إلى إعادة ترتيب البيت التركي والسيطرة على الأوضاع الداخلية.

ومن ناحية أخرى، ثمة قضايا وملفات أخرى عالقة بين تركيا وروسيا، فالرئيس بوتين لايزال بعيداً عن اعتبار أردوغان شريكاً متساوياً، حيث إنه يعتبر نفسه لاعباً عالمياً، في حين أن تركيا واحدة من بين القوى الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط.

أيضاً، فإن تركيا "الإسلامية" هي عكس ما يريده الكرملين، حيث يعتقد الروس أن الكثير من المتمردين الإسلاميين في النزاع الشيشاني دخلوا إلى البلاد عبر تركيا.

أما أبرز نقاط الخلاف بين البلدين في الوقت الحالي فترتبط بالملف السوري، إذ تعارض روسيا بشدة إسقاط نظام بشار الأسد، وتزعم أنه صاحب السيادة والشرعية، رافضةً أي تدخل عسكري لإزاحته، بل وتدعمه عسكرياً، وتعمل على عدم تبني أي قرار ضده في مجلس الأمن الدولي. وفي هذا الصدد، تريد موسكو من الأتراك مزيداً من السيطرة على الحدود السورية لوقف انتقال المقاتلين والسلاح إلى جماعات تعتبرها روسيا مهددة لها، خاصةً تلك التي يمكنها مهاجمة القاعدة الروسية في اللاذقية.

وعلى النقيض، تدعم أنقرة المعارضة السورية المسلحة، ويبدو ذلك واضحاً في المعركة الحالية التي تقودها المعارضة ضد قوات الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين في مدينة حلب، حيث تخشى تركيا من أن يؤدي سقوط حلب في أيدي النظام إلى تقليل دورها في سوريا، ومن ثم زيادة نفوذ القوى الكردية. لذا، فمن بين أهداف تركيا من وراء إعادة علاقاتها مع الروس، تخفيض دعمهم للأكراد.

ولعل محورية الخلاف حول الملف السوري تبرر ما حدث خلال زيارة أردوغان لنظيره الروسي، حيث اختار الرئيسان بدء اجتماع القمة بمناقشة القضايا المتعلقة بالتجارة والاقتصاد، تاركين الملف السوري "الضاغط" إلى جلسة أخرى بحضور وزراء الخارجية والدفاع ومسؤولين من المخابرات. كما أكد بوتين، بعد اجتماعه مع أردوغان، أن الموقف مع تركيا حول سوريا لايزال تشوبه الخلافات، وأنه سيتم التباحث به لاحقاً للخروج بحل يرضي الجميع.

إجمالاً، جاءت زيارة الرئيس التركي أردوغان إلى موسكو مؤخراً تتويجاً لمساعي البلدين خلال الفترة الأخيرة إلى تقريب وجهات النظر بينهما وإعادة العلاقات إلى ما كانت عليه قبل حادث إسقاط الطائرة الروسية في نوفمبر الماضي. ويمكن القول إن نتائج هذه القمة، بالإضافة إلى تأكيدها على عودة العلاقات الثنائية وتوجيهها رسائل ضمنية إلى الغرب، كانت اقتصادية بالأساس، حيث مازال الموقفان الروسي والتركي متباعدين حيال الأزمة السورية، في ظل عدم التوصل إلى رؤية مشتركة بشأن سُبل التسوية، وإن كان هذا الملف لن يؤثر على الانفراجة في العلاقات بين البلدين.