الاستدارة شرقاً؟

روسيا – آسيان.. مساعٍ لدعم الشراكة المتبادلة

11 June 2016


شهد منتجع سوتشي الروسي الواقع على البحر الأسود، يومي 19 و20 مايو 2016، أعمال قمة جمعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع قادة الدول العشر الأعضاء في رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، والتي تضم إندونيسيا وماليزيا والفلبين وسنغافورة وتايلاند وسلطنة بروناي وفيتنام ولاوس وميانمار وكمبوديا.

وكانت روسيا قد بدأت منذ عام 1990 فتح آفاق التعاون مع دول آسيان، ونجحت منذ عام 1996 بتنظيم هذه العلاقات بشكل أكثر تطوراً عبر حوار الشراكة الاستراتيجية بين الجانبين. وتعد هذه القمة هي الثالثة خلال 20 عاماً من الشراكة والحوار، وسبق أن عُقدت في كوالالمبور عام 2005، ثم في هانوي عاصمة فيتنام عام 2010.

ومن المتوقع أن تعطي القمة الأخيرة زخماً قوياً لمسيرة العلاقات بين روسيا وآسيان، ما سينعكس إيجاباً على التعاون بينهما في مجالات متنوعة، خاصةً الاقتصادية والتجارية.

نتائج قمة "روسيا – آسيان"

أسفرت القمة، التي انعقدت على مدار يومين تحت شعار "روسيا - آسيان نحو شراكة استراتيجية متبادلة المنفعة"، عن توقيع "إعلان سوتشي" و"خطة عمل شاملة" لتعزيز التعاون بين موسكو وآسيان في السنوات الخمس القادمة (2016 -2020). وكشفت القمة عن موافقة موسكو على زيادة صادرات السلاح لدول آسيان، وكذلك عزم الجانبين على تبادل المعلومات لمكافحة الإرهاب.

كما اقترحت موسكو التوصل إلى اتفاقية للتجارة الحرة بين رابطة آسيان والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، الذي تقوده روسيا. وطالب "إعلان سوتشي" أيضاً بالتوصل السريع إلى وضع "مدونة السلوك" لحل النزاعات الإقليمية بين الصين وبعض أعضاء الرابطة في بحر الصين الجنوبي، مؤكداً على ضرورة إجراء محادثات بشأن قضايا الأمن القومي في المنطقة خلال مؤتمرات قمة شرق آسيا، التي تضم روسيا والولايات المتحدة والصين.

ومن ناحية أخرى، أكد الرئيس الروسي أن بلاده أعدت خريطة طريق تتضمن 57 مشروعاً تهدف إلى تشكيل تحالفات تكنولوجية وابتكارية حديثة مع دول آسيان، مشدداً على دعمه لإنشاء السكك الحديدية الحديثة في دول آسيان والشبكات الحديثة للملاحة الفضائية المعتمدة على نظام "جلوناس" الروسي العالمي للملاحة الفضائية.

ودعا الرئيس بوتين أيضاً شركات آسيان للمشاركة في برامج تنمية المناطق الروسية في الشرق الأقصى، خاصةً فيما يتعلق بتحديث شبكة السكك الحديدية العابرة لسيبيريا وتطوير الطريق البحري الشمالي الذي من الممكن أن يكون أقصر الممرات التجارية التي تربط شرق آسيا وأوروبا.

وبدا أن المشروعات الضخمة التي تنوي روسيا القيام بها في آسيان تتركز في إندونيسيا. فبعد اجتماعه مع الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو في 18 مايو الماضي، أكد بوتين اهتمام الروس بإقامة خط سكك حديدية بطول 190 كيلومتراً في كاليمانتان بتكلفة تقدر بحوالي 1.9 مليار دولار. كما ذكر مسؤولون روس أيضاً أن شركتي الطاقة الروسية العملاقة روسنفت وزاروبزهنفت تخططان لبناء مصفاة بقيمة 13 مليار دولار في جاوة. كما أعلنت شركة انترراو الروسية عزمها إقامة محطة كهرباء حرارية بقدرة 1.8 جيجاوات تبلغ قيمتها 2.8 بليون دولار في إندونيسيا.

ومن ناحية أخرى، دعا الرئيس بوتين دول آسيان للمشاركة في منتدى بطرسبرج الاقتصادي الدولي المقرر عقده في الفترة من 16 إلى 18 يونيو، ومنتدى فلاديفوستوك الاقتصادي المقرر عقده على مدى يومي 2 و3 يوليو القادم، والهادفين الى جذب استثمارات أجنبية إلى روسيا، وتطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية مع شركائها.

الاستدارة نحو الشرق

تمثل قمة روسيا - آسيان، والتي جاءت متزامنة مع الذكرى السنوية العشرين لشراكة موسكو مع الرابطة، اختباراً لمدى جدية موسكو في "الاستدارة نحو الشرق"، وسعيها لمد نفوذها الإقليمي بعد تنامي التوتر مع الغرب نتيجة الأزمة الأوكرانية.

وترغب روسيا في تحقيق منافع اقتصادية من تطوير التعاون مع دول آسيان، التي تمثل قاطرة الاقتصاد العالمي في السنوات العشر القادمة، خاصةً من خلال مبيعات السلاح والطاقة، بما في ذلك محطات الطاقة النووية.

كما تريد موسكو جذب دول آسيان للتعاون الاقتصادي معها من أجل مواجهة المبادرات التجارية التي تقودها الولايات المتحدة في المنطقة، مثل اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ. وفي هذا الصدد، تبدو دول آسيان العشرة فرصة اقتصادية هائلة تسعى روسيا إلى اقتناصها، فعدد سكانها حوالي 600 مليون نسمة، ومن المتوقع أن تصبح الرابطة رابع أكبر اقتصاد في العالم في عام 2050. كما نمت معدلات التجارة بين روسيا ودول آسيان بوتيرة عالية في العقد الأخير، على الرغم من ضآلة الرقم الإجمالي. إذ ارتفع حجم التبادل التجاري خمسة أضعاف بين عامي 2005 و2014، ومع ذلك بلغ حجم التجارة الروسية مع دول جنوب شرق آسيا 13.7 مليار دولار فقط في عام 2015.

وحلّت روسيا في المرتبة الرابعة عشرة في سلم الشراكة التجارية مع دول آسيان. وتبلغ حصة روسيا من صادرات دول آسيان أقل من 1%، بينما يصل مجموع هذه الدول من الصادرات الروسية 2.7%. ومن ناحية أخرى، لم يتجاوز إجمالي الاستثمارات المتبادلة في عام 2015 حوالي 11 مليار دولار فقط. وبالتالي توجد فرص كبيرة لزيادة التبادل التجاري والاستثماري في المستقبل، في ضوء الامكانات الكبيرة التي يتمتع بها الجانبان.

ومن جهة ثانية، يعد الوجود الاقتصادي الروسي في دول آسيان واضحاً بشدة في قطاعات النفط والغاز والطاقة النووية والتكنولوجيا العسكرية، حيث تشتري سنغافورة وماليزيا النفط والغاز الروسي، وتشارك موسكو إندونيسيا في عدد من مشاريع الطاقة، منها بناء منشآت نووية عائمة. وتعد فيتنام الشريك الرئيسي لروسيا في مجالَي النفط والغاز، وقطاع الطاقة النووية. وفي هذا السياق، تستعد روسيا حالياً لتنفيذ مشروع ضخم لبناء محطة "نين ثوان -1" للطاقة النووية في جنوب فيتنام. كما يوجد عدد من المشروعات الأخرى لبناء محطات طاقة نووية روسية في ميانمار وتايلاند.

ولا تزال الأسلحة الروسية من أبرز السلع في أسواق جنوب شرق آسيا، حيث ارتفعت نسبة دول آسيان من صادرات الأسلحة الروسية من حوالي 6% فقط في عام 2010 إلى 15% في عام 2015. وتعد فيتنام هي أكبر زبون في هذه المنطقة للأسلحة الروسية على أنواعها من الطائرات المقاتلة والسفن الحربية والصواريخ المضادة للسفن وأنظمة الدفاع الصاروخي والغواصات. وتعتبر تايلاند أيضاً سوقاً واعدة بالنسبة لمبيعات السلاح الروسية، خاصةً مع توتر علاقاتها بالولايات المتحدة منذ تولي النظام العسكري الحالي مقاليد السلطة في عام 2014. ومن المؤشرات الدالة على ذلك، إعلان تايلاند، في مايو الماضي، عزمها استبدال أسطولها الحالي المتهالك من طائرات الهليكوبتر الأمريكية من طراز شينوك بطائرات MI-17V5s الروسية. ومن جهة أخرى، تسعى إندونيسيا أيضاً في الوقت الراهن إلى زيادة مشترياتها العسكرية من روسيا، خاصةً فيما يتعلق بشراء غواصات من طراز كيلو Kilo ومقاتلات سوخوي - سو 35 متعددة المهام.

تحديات متعددة

تشير نتائج قمة "روسيا – آسيان" الأخيرة إلى أن الجهود الروسية الرامية إلى التقارب مع الرابطة من المرجح أن تؤتي ثمارها قريباً، خاصةً في المجال الاقتصادي. ولكن علينا الانتظار للتعرف على مدى نجاح هذه القمة في تعزيز العلاقات السياسية والعسكرية والأمنية بين الجانبين. فالمرتكزات الأساسية لتعزيز العلاقات الروسية بدول آسيان لا تزال ضعيفة، ومعرفة النخب السياسية ببعضهم البعض ما تزال غير قوية لأسباب متعددة، منها البعد الجغرافي وغياب الخلفية التاريخية والثقافية المشتركة.

كما أن النزاعات الإقليمية في بحر الصين الجنوبي بين الصين، حليف روسيا الاستراتيجي، وعدد من دول آسيان، خاصةً فيتنام، سوف تمثل اختباراً جدياً لتطوير العلاقات بين موسكو والرابطة الآسيوية في المستقبل. فإلى اليوم، تلتزم روسيا رسمياً الحياد الصارم إزاء هذه النزاعات، وتحجم عن دعم المطالب الإقليمية لأي طرف، وتحض المتنازعين على تسوية خلافاتهما عن طريق السياسة والدبلوماسية. ولكن إلى متي سوف يستمر هذا الموقف الروسي المحايد، خاصةً إذا ما تفاقم النزاع بين الصين وبعض دول آسيان في بحر الصين الجنوبي؟

ومن ناحية أخرى، تبدو دول آسيان مُرحبة في الوقت الراهن بدور روسي أكبر في منطقة جنوب شرق آسيا في وقت يتزايد فيه التوتر بين بعض دولها والصين. فهذا الدور من شأنه، حسب صانعي القرار في معظم دول آسيان، أن يخفف شعور الصين بأنها "قلعة محاصرة"، وبالتالي سوف تزايد إمكانية تحقيق الأمن والاستقرار في هذه المنطقة، التي تعد وبحق قاطرة الاقتصاد العالمي في العقدين المقبلين.