مُبادرة استثنائية:

هل يُمكن أن تتوصل أنقرة لاتفاق سلام مع الأكراد؟

22 November 2024


يسعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، للتهدئة مع الأكراد، وإتمام مصالحة سياسية تاريخية معهم، وذلك بجانب حليفه، زعيم حزب الحركة القومية دولت بهشلي، المشارك في الائتلاف الحكومي مع حزب العدالة والتنمية الحاكم، والمعروف بتوجهاته القومية.

ويطرح هذا الأمر تساؤلات عديدة حول فرص نجاح تلك المصالحة المُحتملة، وكذلك العوائق التي تحول دون إتمامها، ولاسيما في ظل الديناميكيات المُتسارعة داخل تركيا وخارجها، فضلاً عن السيناريوهات المُستقبلية المُحتملة لتلك المصالحة المُحتملة.  

أبعاد مُتشابكة: 

تتزامن مساعي المصالحة بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني، مع العديد من الأبعاد، التي يمكن تسليط الضوء على أبرزها في الآتي:

1. مُبادرة بهشلي: جدّد زعيم حزب الحركة القومية، دولت بهشلي، دعوته بشأن الانفتاح للتصالح مع الأكراد، من خلال دعوته زعيم حزب العمال الكردستاني، عبدالله أوجلان؛ الخاضع للسجن المؤبد منذ ربع قرن، للتحدث في البرلمان التركي وإعلان إنهاء وجود الحزب المحظور في تركيا، وترك السلاح، مُقابل إنهاء عزلته والنظر في تعديلات قانونية من أجل إطلاق سراحه، ويتوقع البعض أن تلك المبادرة قد تقود تركيا نحو حل شامل للقضية الكردية.

وتأتي تلك الدعوة في أعقاب؛ مُصافحة مُفاجئة بين بهشلي والنواب الأكراد خلال جلسة افتتاح السنة التشريعية الجديدة للبرلمان التركي في الأول من أكتوبر 2024. وتوصف مساعي بهشلي تلك تجاه الأكراد بأنها "تاريخية"، و"مبادرة غير مسبوقة"، فضلاً عن كون تجديدها يشير إلى تنسيق واضح ومُسبق بين أردوغان وبهشلي فيما يتعلق بالرغبة في تسوية القضية الكردية في تركيا.  

2. تبني "الكردستاني" الهجوم على (توساش): تزامنت عملية المصالحة مع هجوم إرهابي على مبنى شركة الصناعات الجوية والفضائية التركية المملوكة للدولة في أنقرة (توساش)، في 23 أكتوبر 2024، أسفر عن مقتل 5 أشخاص وإصابة 22 آخرين، وبعدها بيومين، أعلن مسلحو حزب العمّال الكردستاني مسؤوليتهم عن الهجوم؛ الأمر الذي دفع الحكومة التركية للرد بقوة على عناصر الحزب، فقد شنّت القوات الجوية التركية غارات جوية على 47 هدفاً تابعاً لحزب العمال الكردستاني (PKK) ووحدات حماية الشعب الكردية (YPG) في شمال العراق وسوريا، كما اعتقلت الشرطة 176 شخصاً تابعاً للحزب.

3. عزل رؤساء بلديات أكراد: بعد اعتقال رئيس بلدية إسنيورت، أحمد أوزر، في إسطنبول، والذي ينتمي لحزب الشعب الجمهوري، في 30 أكتوبر 2024، أقالت الحكومة التركية رؤساء بلديات مُؤيدين للأكراد في 3 مدن بجنوب شرق البلاد، في 4 نوفمبر 2024، بتهمة ارتباطهم بحزب العمّال الكردستاني المحظور؛ وهو الأمر الذي لاقى زخماً واسعاً في الصحافة العالمية، وخلّف احتجاجات كبيرة في الشارع التركي، لاسيما وأن الأكراد يشكلون نحو خمس سكان تركيا البالغ عددهم 85 مليون نسمة.

أهداف أنقرة: 

يسعى أردوغان من المصالحة مع الأكراد في تركيا إلى تحقيق عدد من الأهداف؛ يتمثل أبرزها فيما يلي:

1. تقويض الأنشطة الإرهابية: قد تمثل المصالحة التركية مع الأكراد، فرصة تاريخية لأردوغان لتقويض الإرهاب في تركيا وعلى حدودها، إذ أكّد أردوغان في كلمة أمام نواب حزب العدالة والتنمية الحاكم في أنقرة، في 30 أكتوبر 2024، أن الوحدة التركية مع الأكراد هي مفتاح القضاء على إرهاب حزب العمّال الكردستاني؛ وهو ما كرره بهشلي الذي أكّد أن حزب الحركة القومية يؤيد الوحدة الوطنية والأخوة في تركيا؛ بهدف إنهاء الإرهاب والذي اعتبره هدفاً وطنياً وليس انتخابياً. 

2. إتمام التطبيع مع دمشق: قد يهدف أردوغان من وراء المصالحة أيضاً لإتمام التطبيع المُتعثر مع دمشق، فحال إتمام المصالحة التركية مع الأكراد، وتوقف الدعم الأمريكي للأكراد في سوريا، قد تتم إزالة المخاوف الأمنية لتركيا في سوريا، والتي قد يتبعها انسحاب أنقرة من سوريا، أو حتى تقديم خطة زمنية واضحة للانسحاب، يقبلها الجانب السوري؛ الذي يضع الانسحاب التركي من أراضيه كشرط أساسي لإتمام التطبيع بين البلدين. 

3. تمرير دستور جديد: إن أحد التحديات التي يواجهها أردوغان حالياً هو أن الدستور التركي لا يسمح له بالترشح لإعادة انتخابه في عام 2028، ومن دون أغلبية برلمانية كبيرة بما يكفي لتغيير ذلك؛ فإنه يحتاج إلى دعم من الحزب المؤيد للأكراد للبقاء في السلطة، وتحقيقاً لهذه الغاية، جاءت دعوات المصالحة مع الأكراد؛ إذ يرى البعض أن الحكومة التركية قد تقدم تنازلات للحزب المُؤيد للأكراد للحصول على دعمه في تمرير دستور جديد للبلاد يسمح لأردوغان بالترشح في انتخابات عام 2028، لاسيما وأن بهشلي قد أعلن أن هدف الدستور الجديد للبلاد سيكون تمكين أردوغان من الترشح للرئاسة مجدداً.

4. تفادي الضغط الأوروبي: قد تهدف المصالحة أيضاً، إلى تفادي الضغط الأوروبي على تركيا فيما يخص تراجع ملف حقوق الإنسان، ففي 9 نوفمبر 2024، دعت حملة "الحرية لأوجلان" النقابية البريطانية، التي أطلقت في عام 2016 بدعم من مؤتمر النقابات العمالية، ممثلاً في 14 نقابة عمالية بريطانية كبرى، تركيا إلى إنهاء "سياسة القمع المنهجية" ضد المجتمعات الكردية واحترام الديمقراطية المحلية. 

فرص المصالحة: 

ثمّة فرص تلوح في أفق المصالحة التركية مع الأكراد، أبرزها ما يلي:

1. تجاوز الهجوم الإرهابي: قد يمثل تجاوز الحكومة لملف الهجوم الإرهابي على شركة الصناعات الدفاعية والجوية التركية؛ والذي تبناه مسلحو حزب العمال الكردستاني، فرصة كبيرة أمام إتمام المصالحة التركية مع الأكراد، فقد أشار أردوغان إلى أن الهجوم لن يعرقل حوار السلام مع الأكراد، ذلك الحوار الذي يرى فيه أردوغان "فرصة تاريخية" لإنهاء الصراع الداخلي في تركيا مع الأكراد.

2. فرص اقتصادية مُهدرة: قد تحمل المصالحة فرصة اقتصادية كبيرة لتركيا، فقد قدر خبراء في مركز دجلة للأبحاث الاجتماعية (ديتام) في مدينة ديار بكر التركية، ذات الأغلبية الكردية، الخسارة الاقتصادية لأنقرة بسبب الصراع الكردي بنحو 4.2 تريليون دولار؛ إذ تسببت الأزمة مع الأكراد في إجبار الدولة التركية على إعطاء الأولوية للإنفاق الأمني في المناطق الكردية، وتلك المبالغ الضخمة كان يمكن استغلالها في مناحٍ اقتصادية أخرى؛ لو لم يكن الصراع الكردي داخل تركيا.

3. ترحيب المعارضة: لاقت جهود المصالحة، ترحيباً كردياً، جاء على لسان الزعيمة المشاركة لحزب الديمقراطية ومساواة الشعوب، تولاي حاتم أغولاري، التي أعربت عن ترحيبها بمبادرة بهشلي، كما لاقت المصالحة أيضاً ترحيباً من المعارضة، فقد أيّد رئيس حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، أوزغور أوزال، مبادرة بهشلي، مؤكداً أن أي خطوة تهدف إلى إنهاء العنف ضد الأكراد وتوحيد تركيا "لها قيمة"، كما أكّد أن إنكار القضية الكردية سيُعيد البلاد 50 عاماً إلى الوراء.

4. الانتخابات الأمريكية: تمثل الانتخابات الأمريكية مصدر قلق كبير للأكراد، فمن غير المرجح أن تؤدي تلك الانتخابات إلى تغيير في طموحات تركيا، تجاه الأكراد؛ لذلك فقد يرضخ الأكراد لدعوات أردوغان وحلفائه للمصالحة، لاسيما وأن أول طلب من أردوغان للرئيس الأمريكي المُنتخب دونالد ترامب، في أول اتصال هاتفي بينهما، في 8 نوفمبر 2024، فور فوزه في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، كان وقف دعم واشنطن للأكراد نهائياً، فقد كانت فترة رئاسة ترامب الأولى، بمثابة كارثة للحركة الكردية؛ إذ تخلت واشنطن في عهده عن الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا (روج آفا)، والتي تُسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ومنحت تركيا، حرية التصرف في المنطقة.

تحديات قائمة: 

بالرغم من أهداف أردوغان التي يسعى لتحقيقها من المصالحة مع الأكراد، والفرص التي تحلق في أفق تلك المصالحة؛ فإن بعض التحديات لا تزال قائمة أمام إتمام تلك المصالحة، ومن أبرزها ما يلي:

1. تراجع تأثير أوجلان: قد يمثل تراجع تأثير أوجلان داخل حزب العمال الكردستاني، أحد التحديات التي يمكن أن تقف كحجر عثرة في طريق المصالحة التركية مع الأكراد، لاسيما وأن سيطرة أوجلان على الحزب بكامل هيئاته وفروعه لم تعد كما كانت في السابق رغم زعامته التاريخية المسلم بها؛ خاصة وأنه لا يزال معتقلاً ولا يملك كامل الأهلية والصلاحية لاتخاذ قرار استراتيجي للحزب. 

2. استمرار التضييق: قد يمثل استمرار التضييق الذي لا تزال تنتهجه الحكومة التركية، تحدياً كبيراً أمام المصالحة المرتقبة، فقد فتحت السلطات في تركيا، في 7 نوفمبر 2024، تحقيقاً ضد رئيس حزب الديمقراطية والمساواة للشعوب الكردي، تونجر بكرهان، فضلاً عن فرض عقوبة جديدة على أوجلان، حيث يرى البعض أن أردوغان لو كان هدفه الحقيقي إتمام المصالحة مع الأكراد، لما أصدر عقوبة جديدة بحق أوجلان.

3. الهجوم الإرهابي: على الرغم من تجاوز الحكومة لملف الهجوم الإرهابي؛ فإن بعض المحللين يعتقدون أن الهجوم الكردي في أنقرة قد يعرقل آفاق محادثات السلام، لاسيما وأن الهجوم يُشير إلى أن فصيلاً داخل الأكراد لا يزال يرفض المصالحة مع الحكومة، أو على الأقل لديه شكوك كبيرة حول مصداقية الحكومة فيما يخص المصالحة، وأن ذلك الفصيل قد يتحرك بقوة لإفساد تلك المصالحة.

وفي التقدير، في ضوء مُعطيات الموقف الراهن بشأن المصالحة التركية الكردية، وبالإضافة للفرص التي قد تُحفّز الجانبين لإتمام المصالحة؛ فإن هناك بعض الأهداف والمصالح التي يسعى الرئيس التركي أردوغان لتحقيقها من وراء تلك المصالحة؛ لذلك فمن المرجح أن تفرز الفترة المقبلة تحركات من أردوغان وحلفائه للتنسيق العلني مع الأكراد لإتمام المصالحة بينهما، أو على الأقل قد تقدم الحكومة التركية تنازلات مؤقتة للأكراد من أجل جني ثمار إتمام عملية المصالحة.