"أثر الدومينو":

هل تصبح تشاد حلقة في سلسلة تراجع النفوذ الأمريكي بالساحل الإفريقي؟

03 May 2024


أعلن المجلس العسكري الحاكم في تشاد، برئاسة الجنرال محمد إدريس ديبي، في 19 إبريل 2024، التعليق الفوري للأنشطة العسكرية الأمريكية في قاعدة "أدجي كوسي" الجوية المتاخمة للعاصمة التشادية نجامينا. ويأتي هذا القرار بعد شهر واحد على قرار النيجر بوقف التعاون العسكري الثنائي مع الولايات المتحدة الأمريكية، في مارس من العام نفسه.

وقد أثار ذلك العديد من التساؤلات بشأن دلالات هذه الخطوة، وما إذا كانت مُرتبطة بمناورة تفاوضية من السلطات التشادية للحصول على اتفاق جديد أكثر جدوى اقتصادية، أم أنها حلقة جديدة من سلسلة تراجع النفوذ الأمريكي في منطقة الساحل الإفريقي.

تهديد جديد: 

في تهديد جديد للوجود العسكري الأمريكي في منطقة الساحل الإفريقي، لوّحت السلطات التشادية بإمكانية إلغاء الاتفاق المبرم مع واشنطن والمرتبط بتحديد القواعد الخاصة بالعسكريين الأمريكيين الموجودين في نجامينا، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:

1- تعليق الأنشطة العسكرية الأمريكية في قاعدة "أدجي كوسي": كشفت تقارير تشادية في 19 إبريل  2024 أن رئيس أركان القوات الجوية التشادية، الجنرال أمين إدريس أحمد، أمر بالتعليق الفوري للأنشطة العسكرية الأمريكية في القاعدة الجوية "أدجي كوسي" المتاخمة للعاصمة التشادية نجامينا، وهي قاعدة فرنسية بالأساس تتمركز فيها القوات الأمريكية الموجودة في تشاد، وأفادت هذه التقارير بأن هذا القرار صدر فعلياً في 4 إبريل ، لكن جاء الكشف عنه بعد نحو أسبوعين. 

ورداً على هذا الأمر، أعلن المتحدث باسم الخارجية الأمريكية أن واشنطن لا تزال تجري محادثات مع الجانب التشادي بشأن مستقبل الشراكة العسكرية بين الجانبين، لكنه توقع بأن يتم التركيز على هذه المشاورات في مرحلة ما بعد الانتخابات الرئاسية في تشاد والمزمعة في 6 مايو 2024؛ إذ تستعد نجامينا حالياً للتحضير لاستحقاقاتها الرئاسية الأولى منذ مقتل الرئيس السابق، إدريس ديبي، في إبريل 2021.

2- التهديد بإلغاء اتفاق (SOFA) بين واشنطن ونجامينا: نقلت شبكة "سي أن أن" الأمريكية عن مصادر استخباراتية في واشنطن أن رئيس أركان القوات الجوية التشادية، أمين إدريس، بعث برسالة إلى الملحق العسكري الأمريكي لوح خلالها بإمكانية إنهاء اتفاق "تسهيل وضع القوات" (SOFA) الموقع بين الولايات المتحدة وتشاد، والذي يسهل عمل الأفراد العسكريين في نجامينا، حيث يتمركز نحو 100 جندي أمريكي، وتحدد هذه الاتفاقية القواعد والشروط التي بموجبها يمكن للجنود الأمريكيين العمل داخل تشاد. 

وبينما لم تتضمن رسالة رئيس أركان القوات الجوية التشادية للملحق العسكري الأمريكي أمراً مباشراً للقوات الأمريكية بمغادرة البلاد، غير أن تقرير شبكة "سي أن أن" كشف بأنه يتعين على القوات الأمريكية مغادرة القاعدة الفرنسية في نجامينا، ولاسيما قوات العمليات الأمريكية، والتي نصت عليها رسالة إدريس بشكل صريح؛ إذ تشكل هذه القاعدة مركزاً استراتيجياً لقوات العمليات الخاصة الأمريكية في منطقة الساحل الإفريقي. 

3- عدوى الانتشار في منطقة الساحل الإفريقي: يأتي الموقف الأخير من قبل المجلس العسكري التشادي بعد نحو شهر واحد من موقف آخر مُشابه، لكنه أكثر صرامة، اتخذته النيجر إزاء الولايات المتحدة؛ إذ أعلن المجلس العسكري الحاكم في نيامي، وقف التعاون العسكري الثنائي مع واشنطن، ومطالبة القوات الأمريكية المتمركزة في قاعدتين عسكريتين استراتيجيتين في البلاد بمغادرتهما، وقد أعلنت الولايات المتحدة خلال الأيام الأخيرة موافقتها على سحب قواتها من النيجر، في مؤشر جديد على استمرار تراجع النفوذ الغربي، بما في ذلك الأمريكي، في منطقة الساحل الإفريقي مقابل تنامي النفوذ الروسي في هذه المنطقة.

وقد حذّرت بعض التقارير من إمكانية تآكل النفوذ الأمريكي في تشاد، خاصةً إذا فشلت المفاوضات مع السلطات التشادية في التوصل إلى اتفاق جديد يضمن استمرار القوات الأمريكية في نجامينا؛ الأمر الذي سيتمخض عنه خسارة الولايات المتحدة لإمكانية وصولها إلى قاعدة "أدجي كوسي" الجوية في تشاد، بعدما فقدت قاعدتها الاستراتيجية في أغاديز بالنيجر؛ وهو الأمر الذي ستكون له انعكاسات سلبية على قدرات المراقبة الأمريكية في منطقة الساحل الإفريقي.

تفسيرات مُتعددة: 

جاء الموقف الأخير من قبل السلطات التشادية بشكل مُفاجئ، حتى بالنسبة للولايات المتحدة التي عبّر بعض مسؤوليها عن مفاجأتهم بقرار المجلس العسكري الحاكم في نجامينا، ولاسيما وأن الأخيرة لطالما كانت شريكاً رئيسياً للغرب في منطقة الساحل الإفريقي، وهو ما يُفسر تعدد التفسيرات التي عمدت إلى محاولة تحليل أسباب القرار الأخير من قبل نجامينا، ويمكن عرض أبرز هذه التفسيرات على النحو التالي:

1- مُناورة تشادية للحصول على اتفاق أفضل: أشارت بعض التقارير الأمريكية إلى أن الرسالة التي بعثها رئيس الأركان التشادي إلى الملحق العسكري الأمريكي لم تأت عبر القنوات الدبلوماسية المعتادة، وهو ما عزّز الاتجاه الذي يرى بأن السلطات التشادية تستهدف المناورة مع الجانب الأمريكي من أجل الضغط لإعادة التفاوض للتوصل إلى اتفاق جديد تحصل نجامينا بموجبه على مزيد من الامتيازات والعائد الاقتصادي.

2- الاستعداد للانتخابات الرئاسية المُرتقبة في تشاد: لم تستبعد بعض التقديرات أن تكون التلويحات الأخيرة من قبل السلطات التشادية؛ تستهدف فقط كسب مزيد من الدعم الداخلي قبيل الانتخابات الرئاسية المرتقبة في 6 مايو 2024؛ إذ يستهدف رئيس المجلس العسكري الحاكم حالياً في تشاد، محمد إدريس ديبي، حسم هذه الانتخابات لصالحه، في الوقت الذي تشكك فيه قوى المعارضة في مدى نزاهة هذه الاستحقاقات.

وربما يُعزز هذا الطرح إصدار رئيس المجلس العسكري الحاكم في البلاد، محمد إدريس ديبي، أوامر لجيشه بفرض السيطرة على العنف المتزايد قبل الانتخابات الرئاسية، في حين دعت جماعات المعارضة والمجتمع المدني إلى مقاطعة هذه الانتخابات، هذا وقد عمدت الحكومة إلى منع ترشح بعض زعماء المعارضة، على غرار العقيد السابق في الجيش ورئيس "الحزب الديمقراطي للشعب التشادي"، جيميت كليمن باغاو، ناهيك عن زعيم "الحزب الاشتراكي بلا حدود"، يايا ديلو ديجيرو، والذي قُتل في مارس 2024، على يد القوات الحكومة، التي حاصرت مقر حزبه؛ إذ اعتبر أنصار ديلو، بأن نظام ديبي الابن، عمد إلى التخلص منه لأنه كان يُخطط لمنافسه ابن عمه، رئيس المجلس العسكري الحاكم، محمد ديبي، في الانتخابات المقبلة.

3- تنامي النفوذ الروسي في منطقة الساحل: ذهبت بعض التقديرات إلى إرجاع الموقف المفاجئ من قبل السلطات التشادية إلى النفوذ الروسي المتنامي في منطقة الساحل الإفريقي، فقد ألمح رئيس القيادة الأمريكية في إفريقيا، الجنرال مايكل لانغلي، إلى أن روسيا تحاول السيطرة على منطقتيْ وسط إفريقيا والساحل بوتيرة متسارعة، وذلك خلال جلسة استماع أمام مجلس الشيوخ الأمريكي في مارس 2024. 

وكانت هيئة الإذاعة والتلفزيون النيجرية قد أعلنت خلال الأيام الأخيرة أن روسيا سلمت القوات النيجرية معدات عسكرية تتضمن أنظمة حديثة من الدفاع الجوي، كما كشفت بعض التقارير عن بداية انتشار "فيلق إفريقيا" في النيجر، بالتزامن مع إعلان عدد من المسؤولين الأمريكيين، في 19 إبريل  2024، أن واشنطن وافقت على سحب قواتها من النيجر بناءً على طلب المجلس العسكري الحاكم في البلاد منذ الانقلاب العسكري الذي شهدته نيامي، في يوليو 2023. 

وعلى المنوال ذاته، نشر معهد دراسات الحرب تقريراً، في إبريل 2024، ألمح خلاله إلى أن تشاد تُعد الهدف الروسي الراهن في منطقة الساحل الإفريقي؛ إذ بدأ المجلس العسكري الحاكم في نجامينا، في الدخول في تحالفات مع المجالس العسكرية الحاكمة في منطقة الساحل، والمدعومة من روسيا، ناهيك عن اتجاه السلطات التشادية لتعزيز تقاربها مع موسكو، وهو ما انعكس بشكل واضح في الزيارة التي قام بها رئيس المجلس العسكري الحاكم في تشاد محمد ديبي، إلى روسيا في يناير 2024. 

4- ضغوط داخلية على المجلس العسكري التشادي: يواجه المجلس العسكري الحاكم في نجامينا، ضغوطاً متزايدة من قبل الداخل التشادي؛ بسبب تصاعد الدعوات لفك الارتباط عن الغرب، ولاسيما فرنسا والولايات المتحدة، وقد شهدت العاصمة نجامينا، احتجاجات متكررة بداية من عام 2021 للمطالبة برحيل القوات الفرنسية، التي يبلغ عددها أكثر من 1000 جندي في البلاد، وربما يرتبط قرار السلطات التشادية الأخيرة إزاء النفوذ الأمريكي في البلاد بمحاولة تخفيف حدة هذه الضغوط، ولاسيما في ظل إشارة بعض التقارير إلى وجود أجنحة داخل الجيش التشادي؛ تميل لدعم التقارب مع روسيا على حساب الغرب.

5- تراجع ثقة السلطات التشادية في تحالفاتها مع الغرب: أثارت السياقات الإقليمية في منطقة الساحل والانتكاسات المتتالية للغرب في هذه المنطقة حالة من الشك لدى المجلس العسكري الحاكم في تشاد، إزاء تحالفاته مع الغرب بشكل عام، وفرنسا والولايات المتحدة بشكل خاص، فقد فشل الغرب في حماية حلفائه في هذه المنطقة من الانقلابات العسكرية التي أطاحت بهم، وكان آخرها حالة النيجر، التي تمت الإطاحة برئيسها والحليف المقرب للغرب، محمد بازوم، في يوليو 2023.

ومع تزايد التقارير التي رجّحت بأن تكون تشاد هي الحلقة التالية في سلسلة الانقلابات العسكرية في منطقة الساحل وغرب إفريقيا، ربما يكون المجلس العسكري الحاكم في نجامينا، عمد إلى محاولة استكشاف بدائل للشراكات العسكرية الغربية، من خلال التقارب مع روسيا؛ إذ يبحث ديبي الابن حالياً عن دعم أكثر موثوقية في مرحلة ما بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة.

سيناريوهات مُحتملة: 

تُعد تشاد حالياً الركيزة الأساسية للوجود الغربي في منطقة "الساحل الإفريقي"، بعدما أنهت بقية الدول ارتباطها بالغرب، وعمدت بدلاً من ذلك إلى التقارب مع روسيا؛ إذ تستضيف نجامينا حالياً أكبر قاعدة عسكرية فرنسية في القارة الإفريقية، وكانت الولايات المتحدة وفرنسا تدرسان في يناير 2024، إنشاء قواعد عسكرية مشتركة في تشاد؛ الأمر الذي يعكس الأهمية الاستراتيجية التي تشكلها نجامينا للغرب. وفي هذا السياق هناك ثلاثة سيناريوهات رئيسة محتملة بشأن الموقف الأخير لتشاد إزاء الولايات المتحدة، يمكن عرضها على النحو التالي:

1- السيناريو الأول: التوصل إلى اتفاق جديد مع الولايات المتحدة: يفترض هذا السيناريو أن يكون الموقف التصعيدي الراهن من قبل المجلس العسكري التشادي مجرد محاولة للضغط على الولايات المتحدة والحصول على مزيد من الامتيازات، ولاسيما الاقتصادية. وبناءً عليه، يتوقع هذا السيناريو أن يتم التوصل إلى اتفاق جديد بين البلدين خلال الفترة المقبلة، خاصةً بعد الانتخابات الرئاسية المرتقبة في مايو 2024، وبموجب هذا الاتفاق؛ تحصل واشنطن على قاعدة عسكرية؛ تضمن استمرارها طويل الأجل في تشاد ومنطقة الساحل بشكل عام، بل وربما تتجه لتوسيع حضورها في الداخل التشادي بعد موافقتها على سحب قواتها من النيجر.

2- السيناريو الثاني: تنامي التقارب التشادي مع روسيا: يفترض هذا السيناريو أن تعمد السلطات التشادية إلى فك الارتباط بشكل تدريجي عن الغرب، ولاسيما فرنسا والولايات المتحدة، والعمل على تعزيز تقاربها مع روسيا، ويستند في ذلك إلى التقارير التي أشارت إلى وجود تحركات مكثفة لموسكو حالياً؛ بغية زيادة نفوذها في الداخل التشادي من أجل تقويض النفوذ الغربي بشكل تدريجي. وربما يدعم هذا السيناريو ما أشار إليه بعض المسؤولين في مالي، مطلع إبريل 2024، بشأن إعراب تشاد عن اهتمامها بالانضمام إلى تحالف الساحل الجديد المدعوم من موسكو، والذي يضم كلاً من مالي والنيجر وبوركينا فاسو؛ إذ يبدو أن ثمّة قلقاً متزايداً لدى السلطات التشادية من السياق الإقليمي المحيط بها، والذي بات مُوالياً لروسيا، وبالتالي ربما تلجأ نجامينا إلى الاندماج في هذا السياق، وهو ما يفرض عليها تعزيز تقاربها مع موسكو.

وبالتالي، ربما يشكل قرار نجامينا الأخير؛ بتعليق الأنشطة العسكرية الأمريكية في قاعدة "أدجي كوسي" مقدمة لمزيد من تآكل النفوذ الغربي داخل تشاد، ولاسيما في ظل تمسك موسكو بتعزيز نفوذها وإنهاء الوجود الغربي هناك؛ ومن ثم لا يمكن استبعاد أن تضطر الولايات المتحدة إلى سحب قواتها من تشاد خلال الفترة المقبلة، وربما يعقب ذلك قرار مماثل بشأن القوات الفرنسية الموجودة في تشاد؛ الأمر الذي سيشكل نقطة تحول جوهرية في ساحة التنافس الروسي الغربي بالمنطقة.

3- السيناريو الثالث: تحقيق التوازن في العلاقات الخارجية: يفرض هذا السيناريو أن تحاول تشاد تبني سياسة خارجية أكثر توازناً تحافظ على علاقاتها الوثيقة بالغرب، بما في ذلك الولايات المتحدة، مع فتح قنوات اتصال مع روسيا، وتعزيز شراكاتها مع حلفاء موسكو في منطقة الساحل، وربما يتسق هذا الطرح مع تصريحات رئيس المجلس العسكري الحاكم في نجامينا، محمد ديبي، والذي ألمح إلى أنه يسعى للتعاون مع مختلف القوى الدولية.

وعلى الرغم من نجاح الرئيس التشادي السابق، إدريس ديبي، في تبني نهج أقرب للتوازن بداية من عام 2017، عندما عمد إلى إقامة علاقات عسكرية مع روسيا، أعقبها توقيع اتفاقية للتعاون العسكري التقني في مكافحة الإرهاب والتدريب العسكري المشترك، فإن توازن القوى الراهن عالمياً وإقليمياً؛ يجعل تحقيق هذا التوزان يبدو محل شك كبير في منطقة الساحل الإفريقي، في ظل حدّة التنافس بين روسيا والغرب في هذه المنطقة؛ الأمر الذي ربما يفضي إلى مزيد من عدم الاستقرار في الداخل التشادي، بل وربما يصل الأمر إلى حد حدوث انقلاب عسكري في تشاد.

وفي التقدير، يمكن القول إنه رغم أن كافة السيناريوهات تبقى مطروحة، لكن ربما يبدو السيناريو الثاني هو الأكثر ترجيحاً في ظل التوازنات الجيوستراتيجية الراهنة في منطقة الساحل الإفريقي، حتى وإن تطلب تحقيقه مزيداً من الوقت، ولاسيما إذا فشلت المفاوضات مع واشنطن في التوصل لاتفاق أكثر نفعاً لنجامينا، ففي ظل توقع أن يستمر محمد ديبي في السلطة بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة، يرجح أن يعمد ديبي الابن إلى تعزيز تقاربه مع روسيا؛ إذ تبدو الأخيرة الأكثر استعداداً لتوفير الأمن المباشر للنظام التشادي، في ظل الضغوط الداخلية المتزايدة التي يواجهها هذا النظام، سواء من قبل قوى المعارضة السياسية الرافضة لاستمراره، أم من داخل قبيلة الزغاوة الحاكمة؛ بسبب بعض سياسات أسرة ديبي؛ بما في ذلك موقف محمد ديبي إزاء الحرب الأهلية في السودان.