المصري اليوم:

الأيديولوجيا والفصيل: أنماط الصراعات الداخلية فى حركة طالبان الأفغانية

07 October 2023


فى أفغانستان تحت حكم حركة طالبان، يشتد الخلاف حول كيفية إدارة بلد ابتُلِىَ بالنظام الثيوقراطى، فيما يُسمَّى «الإمارة الإسلامية»، التى تبقى شؤونها الداخلية سرية إلى حد كبير؛ حيث يكشف المشهد السياسى الحالى فى كابول ما يشبِه حكومة أشرف غنى السابقة، مما أثار إحساسًا لدى الأفغان بأنهم رأوا ذلك المشهد من قَبْل، فمنذ وقت ليس ببعيد، أدى الصراع على السلطة بين أشرف غنى وعبدالله عبدالله، إلى خلق نوع من الحُكم المُزدوَج، حتى إن البعض سَخِرَ من الاثنين لإدارتهما حكومتين موازيتين فى كابول.

ويبدو أن أداء طالبان ليس أفضل بكثير من الحكومات السابقة، فوفقًا للروايات الداخلية، يعمل القصر الرئاسى فى كابول داخل أربعة مبانٍ متجاورة، لكل منها مجال سيطرته الخاص، وتتطلب بروتوكولات الأمن الصارمة إجراء عمليات تفتيش جسدى عندما ينتقل موظفو أحد الأقسام إلى القسم الآخر.

وكان رئيس الوزراء، محمد حسن آخوند، يمارِس السلطة على جزء من القصر قبل مرضه، بينما يشرف الملا برادر والملا يعقوب على جزء آخر؛ ويترأس نائب رئيس الوزراء، المولوى عبدالكبير، الذى عينه زعيم طالبان فى مايو 2023 قائمًا بأعمال رئيس وزراء الحكومة لفترة مؤقتة، الجزء الثالث، بينما يقع الجزء الرابع تحت سلطة سراج حقانى، من شبكة حقانى.

إن الحدود التى تَرسِم حدود هذه الإقطاعيات الصغيرة داخل القصر ليست مجرد انقسامات هيكلية، بل هى تعبير رمزى عن الطموحات والولاءات المتغيرة التى تتخلل أروقة السلطة فى كابول، فداخل جدران القصر الرئاسى، تتلاقى الطموحات والأيديولوجيات والأجندات الشخصية لخلق نسيج من المؤامرات والمناورات السياسية. وداخل صفوف طالبان السرية، تتعارض وتتصادم الفصائل المختلفة والأشكال المختلفة للأيديولوجيات.

خطوط الصدع داخل طالبان

تكشف هذه الصراعات الداخلية فى حركة طالبان الأفغانية عن الديناميكيات المُعقَّدة لإدارة السلطة والعلاقات الخارجية منذ عودة الحركة إلى الحكم فى أغسطس 2021، وهى صراعات تنشأ من عدة عوامل، أبرزها الاختلافات الأيديولوجية بما تتضمنه من رؤى متضاربة وتفسيرات متباينة للشريعة؛ والولاءات القبلية بما تتضمنه من تنافس على السلطة والموارد؛ والطموحات الشخصية للقادة الرئيسيين، التى تتلاقى وفق الحاجة مع المنافسات والعلاقات الإقليمية، بما يُنتِج مقاربات متباينة فى الحكم والعلاقات الخارجية.

إن خطوط الصدع الداخلية داخل طالبان لا تَظهر فقط فى صدام المعتدلين نسبيًّا مع المتشددين فى معركة إدارة شؤون الدولة، بل تظهر أيضًا على المستوى الخارجى، حيث تستغل الدول المجاورة والقوى الدولية هذه الانقسامات داخل طالبان لتحقيق مصالحها الخاصة.

ولقد تم الكشف عن الانقسامات داخل طالبان علنًا لأول مرة بعد نبأ وفاة الملا عمر فى عام 2015، حيث أثارت وفاته صراعًا على السلطة داخل التنظيم، فلم تُضيِّع حركة طالبان فى كويتا الباكستانية أى وقت لتأكيد سلطتها من خلال الإعلان بسرعة عن انتقال زعامة الحركة إلى الملا منصور، وهو الإعلان الذى لم تَقبله شخصيات رئيسية داخل طالبان، مثل حسان رحمانى، ومحمد رسول، اللذين اعترضا على هذا التعيين علنًا، ما أدى إلى ظهور النزاعات الداخلية لطالبان فى المجال العام.

ولم يكن ظهور الصراعات الداخلية على السلطة والموارد مفاجئًا لأن طالبان الأفغانية عبارة عن شبكة مُعقَّدة من الفصائل المختلفة لكل منها مصالحها الخاصة، فمنذ وفاة الملا عمر، كانت هذه الصراعات سمة للحركة تعكس مدى الاختلافات الأيديولوجية والانتماءات والولاءات القبلية والإقليمية المتغيرة، فضلًا عن الطموحات الشخصية لكبار قادتها، وهو ما برز فى الخلافات حول قضايا عديدة عقِب وصول الحركة مجددًا إلى الحكم فى أغسطس 2021، وأثَّر فى تماسكها ووحدتها وإضعاف قدرتها حتى على الانطلاق فى مسائل الحُكم وتقديم الخدمات للشعب الأفغانى، وعلى التفاوض مع الجهات الخارجية للمساومة أيضًا، مما يزيد من تعقيد المشهد السياسى المتقلب بالفعل فى أفغانستان.

لهذا، فإن فهم ديناميكيات الصراعات الداخلية داخل حركة طالبان يساعد على متابعة وتطور وجهات نظر الحركة بشأن الحكم والعلاقات الخارجية والأمن الإقليمى وما إلى ذلك. وعلى الرغم من أن الحركة حافظت على ما يشبه الوحدة، خاصةً عند مخاطبة العالم الخارجى، واستطاعت تاريخيًّا إدارة الانقسامات الداخلية، فإن اصطفاف فصائلها المتنافسة على أُسُس الانتماءات القبلية والأيديولوجية وعلى التنافس على السلطة والموارد، يُمكِن أن يؤدى إلى تفاقم الصراعات الداخلية، حيث تسعى الفصائل إلى حماية مصالحها وتأكيد هيمنتها، وقد تستغل الجهات الخارجية خطوط الصدع العرقية والقبلية داخل طالبان لتعزيز مصالحها الخاصة من خلال تعزيز علاقاتها مع فصائل محددة، ما قد يؤدى لمزيدٍ من الانقسامات والصراعات القائمة داخل طالبان

الولاءات القبلية والصراع على الموارد

تسهم المنافسات والولاءات القبلية فى تغذية الصراعات داخل الحركة؛ حيث تنتمى فصائل مختلفة داخل طالبان إلى قبائل أو مناطق محددة، ويمكن أن تؤدى هذه الانتماءات إلى صراع على السلطة والتنافس على الموارد، وحتى الاقتتال الداخلى أحيانًا.

ولهذا المتغير آثار عميقة على طالبان، فمثلًا، منذ إنشائها فى أواخر التسعينيات، كانت حركة طالبان تحت تأثير مجموعة مختارة من الأفراد من قبيلة «درانى»، وقيادة أعضاء بارزين من قبائل «نورزاى» و«إسحاقزاى» الفرعية، وأدت هذه المجموعة دورًا مهمًّا فى إدارة الشؤون المالية لطالبان وتعزيز تجارة الأفيون داخل مناطقها. ومن الشخصيات البارزة المرتبطة بهذه المجموعة: بشير نورزاى، وأختر محمد منصور، وعبدالغنى برادر، وغول آغا إسحاقزاى (المعروف أيضًا باسم هداية الله بدرى)، وحاج خيرالله باركزاى؛ حيث كان هؤلاء الأفراد على صلة وثيقة بمؤسس طالبان الراحل الملا عمر.

بالطبع تتقاطع الولاءات القبلية مع الطموحات الشخصية مع الصراع على الموارد، خاصةً تجارة المخدرات، ولذا ليس غريبًا أن ترتبط عناصر قيادية من طالبان بتجارة الأفيون. على سبيل المثال، أصدر قادة طالبان بعد وصولهم إلى السلطة مُجددًا فى عام 2021 فتاوى تحظر زراعة وإنتاج وبيع المنتجات المرتبطة بالمخدرات، وشجبت الحركة هذه الأنشطة باعتبارها غير إسلامية، وحذرت الفتاوى من أن أولئك الذين يتبين أنهم شاركوا فى هذه الأنشطة سيتعرضون للمحاكمة بموجب أحكام الشريعة الإسلامية التى حددتها طالبان.

وعلى الرغم من هذا الموقف الرسمى، شهدت زراعة الأفيون زيادة كبيرة، مما أدى إلى زيادة كبيرة فى الدخل المرتبط بالمخدرات لإدارة طالبان. ووفقًا لعدة مصادر، شَغَلَ القائد الطالبانى داوود مزمل منصبًا بارزًا داخل فصيل قندهار التابع للحركة، وأدى دورًا حاسمًا فى إدارة وتشغيل تجارة المخدرات داخل شبكة طالبان. كما تورَّط زعيم طالبانى آخر، هو قيوم ذاكر، إلى جانب شبكته المكونة من إبراهيم صدر، وغول آغا إسحاقزاى، وداوود مزمل، فى الاستفادة من تجارة المخدرات وتسهيلها عبر أفغانستان.

يشير إدراج داوود مزمل فى هذه الشبكة إلى أنه لم يشارك فقط فى الجوانب العملياتية، بل كان له أيضًا نفوذ وسلطة فى عمليات تهريب المخدرات التى تقوم بها طالبان. كما أن تورط قيوم ذاكر وإبراهيم صدر وغول آغا إسحاقزاى يشير إلى تسهيل أعضاء رفيعى المستوى داخل التسلسل الهرمى لطالبان تجارة المخدرات والاستفادة منها.

ووفقًا لتقرير صدر عن مكتب الأمم المتحدة المعنى بالمخدرات والجريمة (UNODC)، شهدت زراعة خشخاش الأفيون فى أفغانستان زيادة مذهلة بنسبة 32% فى عام 2022 مقارنة بالعام السابق. وبلغ إجمالى المساحة المزروعة 233 ألف هكتار. كما أشار التقرير إلى النمو الكبير فى دخل الأفيون، حيث ارتفع من 425 مليون دولار فى عام 2021 إلى 1.4 مليار دولار فى عام 2022، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 330%. ويشكل هذا المبلغ ما يقرب من 29% من إجمالى قيمة القطاع الزراعى فى عام 2021.

أنماط الخلافات الداخلية فى حركة طالبان

بالإضافة إلى تسبُّب الولاءات القبلية والصراعات على الموارد فى ظهور تنافس داخل حركة طالبان، تؤدى العوامل الأخرى إلى مزيد من الانقسام، وأحيانًا الصراع، داخل الحركة، ومن أبرز هذه العوامل بإيجاز ما يلى:

1- الاختلافات الأيديولوجية:

أحد المصادر الرئيسية للصراع الداخلى هو الصدام بين المتشددين والبراجماتيين، فبينما يدفع المتشددون نحو سياسات صارمة ويقاومون الحلول الوسطى مثلما كان حال الحركة فى تسعينيات القرن الماضى، يُعطى البراجماتيون الأولوية للاعتبارات العملية والنفعية السياسية، ويسعون إلى المفاوضات والمشاركة مع الجهات الفاعلة الخارجية. ويؤدى هذا الانقسام إلى سياسات ومقاربات متضاربة داخل الجماعة، كما برز فى الخلافات حول تعليم الفتيات وقبول المسؤولين الحكوميين السابقين فى إدارة طالبان.

وتتمثل أبرز شخصيات الفصيل البراجماتى فى: (وزير الدفاع الملا يعقوب، ووزير الداخلية سراج الدين حقانى، ونائب رئيس الوزراء الملا عبدالغنى برادر، ووزير الإعلام مولوى خيرالله خيرخواه). أما أبرز الشخصيات فى الفصيل المتشدد، والذين لهم تأثير قوى فى زعيم طالبان، الملا هبةالله آخوند زادة، فهم: (وزير العدل عبدالحكيم حقانى، ووزير الشؤون الدينية نور محمد ثاقب، ووزير الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر النائب محمد خالد حنفى).

2- الطموحات الشخصية وصراع القادة:

ينخرط قادة طالبان أيضًا فى صراعات شخصية مدفوعة بالطموح السياسى وتعزيز النفوذ والسلطة؛ وهو ما برز مثلًا فى الصراع بين سراج الدين حقانى، والملا يعقوب- نجل الملا عمر- باعتبارهما فاعلين جديدين فى حركة طالبان.

وقد تتخذ النزاعات الداخلية أشكالًا عنيفة أحيانًا، كما ظهر فى شبهة ارتباط عناصر متطرفة من طالبان وشبكة حقانى بمقتل قادة رئيسيين بالحركة مثل الملا بير آغا، قائد وحدة الرد السريع فى طالبان، الذى لقى حتفه فى يوليو 2022، وداوود مزمل، حاكم ولاية بلخ، الذى قُتل فى مارس 2023.

3- الانقسام الفصائلى وعملية صنع القرار:

تبقى عملية صنع القرار داخل حركة طالبان متمركزة حول ضرورة التوفيق بين أقوى الفصائل التى تشكل العمود الفقرى للحركة الآن، وهما: أولًا، أعضاء مجلس شورى كويتا، والذى بقى سرِّيًّا فى الفترة السابقة على عودة طالبان إلى السلطة، وهو الفصيل الأساسى الذى يمثل مصدر شرعية الحركة، وينتمى إليه زعيم الحركة الحالى، الملا هبة الله آخوند زادة. وثانيًا «شبكة حقانى»، التى يشغل زعيمها سراج الدين حقانى حاليًا نائب زعيم حركة طالبان، وتمتلك العديد من الشخصيات المؤثرة فى صنع القرار، وتُقيم علاقات وثيقة مع باكستان. 4- التحالفات الخارجية:

تضيف التأثيرات والعلاقات الخارجية مزيدًا من التعقيد للصراعات الداخلية، فقد كان، ولا يزال، لبعض قادة طالبان صلات مع دول مجاورة مثل باكستان وإيران، بما يؤثر فى وجهات نظرهم وأفعالهم. وقد تسهم هذه التحالفات الخارجية فى حدوث انقسامات داخل الجماعة، حيث تصطف الفصائل المختلفة مع جهات فاعلة أجنبية مختلفة.

أخيرًا، من الأهمية إدراك أن الصراعات الداخلية داخل طالبان ليست ثابتة، بل إنها ديناميكية ومتغيرة. ومع تحوُّل ديناميكيات السلطة وظهور قادة جُدُد، قد يتغير توازن القوى داخل الحركة. كما يمكن للعوامل الخارجية، مثل مشاركة الدول المجاورة والجهات الفاعلة الدولية، أن تشكل أيضًا مسار هذه الصراعات.

بالطبع تؤثر هذه الصراعات الداخلية فى عملية صنع القرار داخل طالبان، وعلى وحدة وتماسك الحكومة، وعلى استقرار أفغانستان، وعلى جهود الحصول على الاعتراف والدعم الدولى. ولهذا، فإن حل هذه الصراعات الداخلية وإيجاد آليات للتوازن داخل الحركة تمنع تجزئتها وتحد من خلافاتها الأيديولوجية، ستكون له آثار إيجابية على مستقبل أفغانستان، ولكن ذلك يعتمد على قدرة الحركة على التوفيق بين خلافاتها، وبناء هياكل حكم شاملة، والانخراط بشكل بَنّاء مع المجتمع الدولى.

المصدر:

*Ahmed Ali, Faith and faction: internal conflicts among Afghan Taliban, Pak Institute for Peace Studies Pvt Ltd. (PIPS), Jun 7, 2023.

https://www.pakpips.com/article/7681

* عرض: جبران محمد

*لينك المقال في المصري اليوم*