سيناريوهات قادمة:

تأثيرات مخاطر المناخ في هشاشة الأمن في خليج البنغال

01 September 2023


تُعد منطقة خليج البنغال شديدة الخصوصية عند الحديث عن التغيرات المناخية وعدم الاستقرار السياسي. وهي المنطقة التي تضم أربع دول هي: بنغلاديش والهند وميانمار وتايلاند، تواجه جميعها تحديات مناخية وتهديدات أمنية إقليمية متصاعدة، فضلاً عن أنها ساحة خصبة للمنافسة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين ضمن استراتيجيات فرض السيادة على منطقة جنوب وجنوب شرق آسيا بشكل خاص ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ بشكل أوسع. 

إحصائياً، تُعد منطقة خليج البنغال من أكثر المناطق عرضة للكوارث الطبيعية والتغيرات المناخية العنيفة. ومن المتوقع أن تؤدي تقلبات المناخ والموجات المتتابعة من الجفاف، وارتفاع درجات الحرارة، والرطوبة والأعاصير والفيضانات، إلى هشاشة الاستقرار السياسي، واتجاه المجتمعات نحو العنف والحروب الأهلية خصوصاً في المدن شديدة الكثافة السكانية مثل تشيناي وكالكوتا بالهند، ودكا في بنغلاديش، ويانغون بميانمار، وبانكوك في تايلاند، والتي تعتمد على محاصيل ومنظومات زراعية تحتاج إلى مناخ ثابت ومستقر، وهذا ما يخلق سلسلة متكررة من الأزمات المتعلقة بالأمن الغذائي بشكل خاص والأمن البشرى بشكل عام. 

1. تشابك المناخ والأمن

خلال العقدين الماضيين، جذبت النزاعات المسلحة وعدم الاستقرار السياسي الناتج عن التغيرات المناخية اهتماماً دولياً كبيراً في منطقة خليج البنغال. حيث تغلغل التأثّر بالمناخ داخل منطقة خليج البنغال وأسس علاقة سبيبة لا يمكن تجاهلها مع اختلال استقرار المنطقة. 

وتتمثل أهم مظاهر التغيرات المناخية بمنطقة خليج البنغال في الجفاف الشديد وارتفاع درجات الحرارة والأعاصير مع ارتفاع منسوب البحر وتقلبات في هطول الأمطار مسببة فيضانات سريعة وجارفة وهو الأمر الذي أثر في الإنتاج الزراعي، ويهدد الأمن الغذائي لمدن بأكملها، خاصة المدن الساحلية لخليج البنغال التي تعتمد بالأساس على الزراعة لكسب العيش، والتي على رأسها المناطق الساحلية البنغلاديشية ومنطقة دلتا الغانج (تُعرف باسم منطقة أفواه نهر الغانج) والجنوب الشرقي الساحلي الهندي ومنطقة دلتا إيراوادي الميانمارية والتايلاندية الساحلية. 

وبذلك تواجه الزراعة الساحلية في منطقة خليج البنغال العديد من التحديات المناخية بسبب ما يُسمى بالأنشطة الزمنية للمحيطات والبحار "Temporal Ocean-Sea Activities"، والتي ينتج عنها هواء مالح وغمر وتعرية الأراضي الزراعية الساحلية لخليج البنغال. فضلاً عن زيادة ملوحة المحيط، وبالتبعية زيادة ملوحة التربة الزراعية الساحلية. مما ينتج عنه الصراع على الأراضي والمياه وخسارات في رأس المال والعمالة، ومن ثم ميل العديد من سكان خليج البنغال نحو الهجرة لتدني نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي.

وبالحديث عن قابلية التأثّر بالمناخ وأمن المنطقة، تقع كل من ميانمار وبنغلاديش والهند وتايلاند ضمن الدول الأكثر هشاشة وفقاً لمؤشر الدول الهشة 2023، وَيُعْزَى ذلك إلى الأزمات المتكررة في الحكم والفساد المؤسسي، والاضطرابات الاقتصادية، وعدم الاستقرار الداخلي وانتهاكات حقوق الإنسان، والانقلابات العسكرية وانعدام الأمن، والحروب الأهلية وانتشار معدلات الجريمة، والعنف المجتمعي. وسوف تتشابك المخاطر المناخية مع هشاشة دول المنطقة لتُضاعِف من خطر الصراعات وانعدام الأمن والعنف السياسي وهجرة العمالة المتأثرة بالتغيرات المناخية.

2. السيناريوهات الثلاثة

مع حلول 2050، سيؤدي ارتفاع درجات الحرارة إلى مضاعفة المخاطر المناخية والأمنية والغذائية في منطقة خليج البنغال. وهذا ما أدى بالعديد من مراكز التفكير والبحث الاستراتيجي المعنية بالصراعات المناخية إلى رسم خريطة سيناريوهات لمنطقة خليج البنغال. يأتي أهمها فيما يلي: 

‌أ. سيناريو ميانمار وتأثير الدومينو 

يتمثل هذا السيناريو في فرضيات جيوسياسية مفادها أنه إذا تمزقت دولة واحدة في منطقة خليج البنغال سياسياً وتحت تأثير مخاطر الكوارث الطبيعية العنيفة في المنطقة، فإن دول الجوار ستتمزق مثلها وفقاً لتأثير الدومينو. وبما أن ميانمار هي الدولة الأكثر هشاشة وضعفاً في خليج البنغال فإنها هي الأَوْلَى بتأثير الدومينو. وبالتالي، يتوقف هذا السيناريو في حدوثه على تفاقم الأزمة السياسية في ميانمار وفقدان الحكومة العسكرية شرعيتها مع دخول الجيش والجماعات العرقية في حرب أهلية دموية لانهاية لها. 

وسيؤدي تفاقم الانفلات الأمني وزيادة العنف إلى انعدام الاستجابة السياسية لمخاطر الكوارث الطبيعية التي ينتج عنها تدهور كبير في التربة الساحلية والصناعات الزراعية، ومن ثم فقدان الوظائف ومحدودية فرص الرزق وتضخم الفقر وانتشار التطرف وتعاظم احتمالية التجنيد في الجماعات المسلحة المتمردة أو مع عصابات تهريب البشر والمخدرات البنغلاديشية أو التايلاندية أو حتى المنتشرة في الهند. 

وكنتيجة منطقية، ستتصاعد أعداد اللاجئين من الهند وتايلاند وبنغلاديش، وبالتالي ستتغير التركيبة الديمغرافية ما يؤدي إلى تفاقم التوترات العرقية المحلية، ولاسيما في الهند. علاوة على ذلك، ستتزايد الاشتباكات المسلحة على الحدود الهندية الميانمارية تارة ومثيلتها البنغلاديشية الميانمارية تارة أخرى. مع تزايد احتمالية تفكك ميانمار إلى دول عرقية متعددة.

وفقاً لهذا السيناريو، ستصبح الهند أكثر المتضررين في دول منطقة خليج البنغال، ليس بسبب الحروب الحدودية لخليج البنغال أو موجات اللجوء والتوترات العرقية فحسب، وإنما بسبب أنها حليف أمني واستراتيجي للولايات المتحدة. فإذا تدهورت العلاقات الصينية الهندية أكثر، فقد تميل الصين إلى دعم حركات التمرد والنزعات العرقية لجعل الهند أكثر اضطراباً. وقد يؤول ذلك إلى حرب عسكرية مع الصين وتورط كل من بنغلاديش وميانمار وتايلاند في تلك الحرب. وبالطبع، ستستمر المخاطر والتغيرات المناخية في التأثير سلباً اقتصادياً وأمنياً في كل دول منطقة خليج البنغال في ظل تصاعد الحروب الإقليمية.

‌ب. سيناريو السدود الصينية على نهر يارلونج تسانجبو 

في العام الماضي، أعلنت الصين عن تحقيق أهدافها المتمثلة في أن تصبح محايدة للكربون بحلول عام 2060. وبينما كانت منطقة خليج البنغال تصارع تداعيات وباء "الكوفيد" والكوارث الطبيعية، أعلنت الحكومة الصينية أنها ستسعى إلى الحد من انبعاثات الكربون ببناء سدود ضخمة في منطقة المنعطف العظيم the Great Bend لإنشاء أكبر محطة طاقة كهرومائية على نهر يارلونج تسانجبو "Yarlung Tsangpo"، وهو نهر عابر للحدود يتدفق من التبت إلى ولايتي أروناتشال براديش "Arunachal Pradesh"، وأسام "Assam" في الهند، ومعروف هناك باسم براهمابوترا، ثم يخرج إلى خليج البنغال عبر بنغلاديش باسم نهر جامونا. وسيتبع هذا بناء سد رئيسي على نهر براهمابوترا وأنهار إقليمية أخرى مع الصين. ولكن كيف ستؤثر السدود الصينية الضخمة في منطقة المنعطف العظيم ونهر يارلونج تسانجبو على التغيرات المناخية وعدم الاستقرار السياسي في منطقة خليج البنغال؟

يعتقد الخبراء أنه بسبب الموقع الجيوستراتيجي الحرج للسدود في منطقة غير مستقرة من الحدود المتنازع عليها بين الهند والصين، فمن المرجح تصاعد نزاع إقليمي بين أكبر دولتين من حيث عدد السكان في العالم. أضف إلى ذلك التقلبات الجيولوجية لتلك المنطقة، فالمنعطف العظيم يقع فوق ما يُعرف باسم منطقة خياطة الإندو تسانجبو "Indo-Tsangpo Suture Zone" وهي منطقة نشطة زلزالياً في جبال الهيمالايا. وهذا ما سيتسبب في كوارث لا نهاية لها في منطقة خليج البنغال. 

من ناحية أخرى، يعتقد البعض أن التحدي الأكبر الذي يواجه المشروع ليس تقنياً فحسب بل سياسي أيضاً. حيث سيؤثر في حياة أولئك الذين يعيشون في منطقة المصب. حيث تحبس السدود الرواسب التي كانت ستنتقل في اتجاه مجرى النهر، وتتسبب في انحصار التنوع البيولوجي للثروة السمكية في خليج البنغال، وتآكل ضفاف الأنهار، وموجات جفاف شديدة، وأخيراً فقدان الإنتاجية الزراعية. وعليه، فمشروع السدود الصينية، إذا تحقق، سيؤجج التوترات الأمنية المناخية المحتملة في خليج البنغال، خصوصاً في بنغلاديش والهند. 

ووفقاً لهذا السيناريو، فإن الآثار الضارة لتغير المناخ ستتسبب في تصاعد التوترات البينية في المنطقة واتجاه الجهات الفاعلة الدولية للعمل مباشرة مع الدول منفردة بشأن الأمن المناخي بدلاً من التعاون على نحو مشترك. وسيتقلص تأثير المنظمات الإقليمية كرابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) ومبادرة خليج البنغال للتعاون التقني والاقتصادي متعددة القطاعات (BIMSTEC) بشأن المخاطر المناخية والهجرة. وقد يحاصر المتضررون من المناخ (أي مهاجرو المناخ) داخل خليج البنغال مع عدم وجود أي دولة آمنة داخل المنطقة. وعليه، ستتغير وجهات مهاجري المناخ إلى مناطق آمنة مناخياً وسياسياً أكثر مثل أستراليا ونيوزيلندا أو إلى دول الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي.

‌ج. سيناريو التعاون بين المنظمات الإقليمية والقوى العظمى

يقوم هذا السيناريو على فرضية التعاون لموجهة المخاطر المناخية في خليج البنغال من خلال إعطاء الأولوية للتكيف وتمويل الخسائر والأضرار في المنطقة. يتحقق ذلك من خلال تقارب تعاوني بين القوى الكبرى كالولايات المتحدة والصين واليابان وكوريا الجنوبية بالشراكة مع الهند وسنغافورة وماليزيا والدول المطلة على الخليج للتقليل من عواقب الكوارث والتغيرات المناخية في منطقة جنوب وجنوب شرق آسيا على وجه الخصوص ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ بشكل أوسع.

يدرك هذا السيناريو تشابه أجواء النظام العالمي الحالي مع فترة الحرب الباردة، حيث تصاعد التوترات بين الولايات المتحدة والصين حول قضية سيادة تايوان التي تُنْذِرُ باحتمالية تدخل عسكري وتصادم مسلح بين القوتين في المنطقة، مع وجود احتقان بين الهند وباكستان، بلغ ذروته في صدام عسكري كبير في فبراير 2019، وما زال هذا التصادم يحد من إمكانات التعاون في منطقة خليج البنغال. أضف إلى ذلك، التوترات الحدودية بين ميانمار وبنغلاديش والتي يمكن أن تتطور إلى حرب مع تصاعد موقف معادٍ من ماليزيا وإندونيسيا ضد الحكومات العسكرية في ميانمار وتايلاند. 

وذلك في الوقت الذي لاتتفق دول خليج البنغال الأربع على موقف موحد تجاه علاقة كل دولة على حدة مع الولايات المتحدة والصين. ففي حين، تتمتع بنغلاديش تقليدياً بعلاقة أقوى مع الولايات المتحدة، على الرغم من توتر تلك العلاقات أخيراً. فقد نما وجود الصين في بنغلاديش بشكل ملحوظ من خلال القروض المشروطة ضمن مبادرة الحزام والطريق. وفي السنوات الأخيرة، ابتعدت تايلاند عن واشنطن وأصبحت أقرب إلى بكين، على الرغم من أنها تحتفظ بعلاقات جيدة مع الولايات المتحدة. وبالطبع، الهند شريك وثيق للولايات المتحدة عندما يتعلق الأمر بمواجهة الصين.

كل ذلك من شأنه أن يشل إمكانيات التعاون لمواجهة المخاطر المناخية بالمنطقة ولذلك طرح هذا السيناريو أن عمليات الدعم المناخي من القوى الكبرى ستتم من خلال المنظمات الإقليمية مثل رابطة جنوب آسيا للتعاون الإقليمي (SAARC)، ورابطة دول جنوب شرق آسيا (ASEAN)، ورابطة حافة المحيط الهندي ((IORA، وندوة المحيط الهندي البحرية (IONS)، ومبادرة خليج البنغال للتعاون التقني والاقتصادي متعددة القطاعات (BIMSTEC) وتُعد الأخيرة هي الأكثر أهمية، والتي يمكن من خلالها تفعيل كيان بشأن إدارة مخاطر الكوارث الطبيعية والتهديدات الناجمة عن تغيرات المناخ ومعالجة موجات النزوح الداخلي والهجرات بسبب تحديات الأمن المناخي في خليج البنغال ومنطقة جنوب وجنوب شرق آسيا. 

يرتكز السيناريو على فرضيات المثالية الجديدة والتعاون الدولي وذلك من خلال تطوير وإتاحة قدرات مالية وتنظيمية وتقنية لمبادرة خليج البنغال (BIMSTEC) حتى تتمتع المبادرة باستقلالية كافية لاقتراح خيارات سياسة مبتكرة حول حوكمة المناخ واستدامة الاستجابات المحلية والإقليمية لمخاطر المناخ الحالية والمحتملة والتعامل الإنساني والأمني مع موجات الهجرة مع الاستعانة بمتخصصي التغيرات المناخية وعلماء بيدولوجيا الترب الساحلية من حكومات أخرى مثل اليابان وأستراليا والولايات المتحدة.

وختاماً، نجد أنه خلال السنوات القليلة المقبلة ستتصاعد المخاطر المناخية في منطقة خليج البنغال على نحو يصعب احتواءها، فالمنطقة تُعد من أكثر بقاع العالم تأثراً بالتغيرات المناخية وتعرضاً للكوارث الطبيعية العنيفة. وفقاً للتقديرات الحالية، فالضرر الناتج عن التغيرات المناخية قد تجاوز قدرات الدول منفردة في المنطقة على الاستجابة له والتعامل معه على نحو يُجنب الأمن الغذائي والإنساني والاقتصادي تدهورات ومهالك مستعصية المعالجة على المدى القصير. فالوضع الراهن يتطلب تضافر الاستجابات المحلية والإقليمية والعالمية لمواجهة الصراعات المناخية وتدهور الأنظمة السياسية والمجتمعية في منطقة تتمتع بكثافات سكانية عالية ورأسمال اجتماعي ومساحات زراعية مهمة لدول الجوار الآسيوي والعالم.