المصري اليوم:

تحديات التغيير فى معادلات الشرق الأوسط

17 August 2023


يُعد «التغيير» من العوامل القليلة، بل وربما العامل الحاسم الوحيد، والقوة المستمرة التى تشكل المشهد الجيوسياسى العالمى. وقد يختلف حجم التغيير ووتيرته ونتائجه النهائية حسب عوامل عديدة تحمل دائمًا آثارًا من الماضى ودلالات على المستقبل.

ونشهد اليوم تغييرًا سريعًا ومتزامنًا على المستويات العالمية والإقليمية والمحلية، وغيرها من المستويات، كنتيجة لعوامل متعددة، منها التقدم التكنولوجى المستمر فى الاتصالات، والتواصل المكثف، والعولمة. ولهذه التطورات آثار غير محدودة على إمكانية الوصول إلى الأسواق، وتبادل المعلومات، وما أبعد من ذلك. بالإضافة إلى ذلك، هناك العديد من العوامل المحلية والإقليمية الخاصة التى تسهم فى تطور المشهد، منها على سبيل المثال لا الحصر، الموقع الجغرافى الاستراتيجى، والتركيبة السكانية الشابة، والوضع الاقتصادى، والتفاوتات وعدم التكافؤ، فضلًا عن التجانس أو التنوع العرقى.

التغيير والمقاومة فى الشرق الأوسط

إن التحول فى قطبية النظام الدولى، مع صعود الهويات مرة أخرى فى ظل حضارات وثقافات مترابطة عالميًا قد خلّف تبعات على علاقات الدول الإقليمية، كما أدت هذه التطورات دورًا حاسمًا فى تحديد أشكال الأنظمة المحلية والاستقرار، خاصة فى الشرق الأوسط.

فى عالم سريع التغيير، لا يُمثل الشرق الأوسط- بتاريخه الطويل وثقافاته المتنوعة وتقاليده العريقة- أى استثناء، فلطالما شهدت هذه المنطقة تغييرات مستمرة، إلا أنها لم تستوعب هذه التغييرات بسرعة فى كثير من الأحيان، ولاسيما عندما لا تنبع من الداخل.

لقد استمرت دول الشرق الأوسط على مر التاريخ فى تأكيد ارتباطها بعلاقات قوية مع الدول الأجنبية الكبرى باعتبارها ركيزة أساسية فى سياساتها الخارجية، فركزت معظم دول شمال إفريقيا، مثل موريتانيا والمغرب والجزائر وتونس، على إقامة علاقات مع أوروبا الغربية، أما الدول الواقعة شرقًا، والمطلة فى الغالب على البحر الأبيض المتوسط، مثل ليبيا ومصر وإسرائيل وفلسطين وتركيا وسوريا والأردن والعراق، فمالت إلى التركيز بدرجة أكبر على إقامة علاقات مع الولايات المتحدة وروسيا على مدار فترات مختلفة. وفى الوقت ذاته، حافظت دول الخليج العربى على علاقات وثيقة مع الغرب.

ونتيجة لذلك، تتأثر مصالح دول المنطقة ومواقفها الجيوسياسية تأثرًا مباشرًا وكبيرًا بفترات الفوضى أو التحول التى يمر بها النظام الدولى.

ومع التحول العالمى الحالى نحو التعددية القطبية، نلحظ اتجاهًا واضحًا وإيجابيًا فى العالم العربى نحو توسيع العلاقات وإعادة توازنها. ويُمثل هذا التحول خروجًا عن أنماط التحالفات السابقة ورغبةً فى تنويع الشراكات كرد فعل لتغير الواقع الجيوسياسى.

ومن بين أبرز المؤشرات على هذا التوسع الدولى تطوير دول الشرق الأوسط علاقاتها مع الصين وروسيا، ما يدل على رغبة العالم العربى فى تأسيس روابط جديدة، وتنويع علاقاته لتعزيز الفرص الاقتصادية والتعاون الأمنى وتوسيع نفوذه الدبلوماسى على الساحة الدولية.

بيد أنه من المؤسف أن أحد أهم الأمور الأخرى المشتركة بين دول الشرق الأوسط هو تورط أغلبها فى «نزاعات سياسية أو حدودية» مع واحدة أو أكثر من جيرانها. وتعاملت دول المنطقة فى العموم بحكمة مع هذه القضايا، بعيدًا عن النهج التصادمى، وبقيت النزاعات كامنة فى الغالب، ولكن لأنها «عرضة للاشتعال» فى أى وقت، سيحد ذلك فى النهاية من التعاون الإقليمى، حيث تُقيّم الدول العلاقات الإقليمية باستمرار، ما يخلق بيئة إقليمية معقدة ومراوغة.

وتُعد هذه المراوغات الإقليمية المستمرة من بين أسباب عدم وجود منظمة حكومية إقليمية فى الشرق الأوسط، فحتى جامعة الدول العربية، ذات العدد الأكبر من الدول الأعضاء، تواجه تحديات متزايدة فيما يخص فاعليتها، بينما تبذل المنظمات دون الإقليمية مجهودًا أكبر لتحقيق أهدافها.

تنتشر هذه السمات بين معظم دول الشرق الأوسط، بالرغم من أنها كانت أقل وضوحًا تاريخيًا فى تركيا وإسرائيل وإيران، وهى دول تتسم بقدراتها الأمنية المتطورة. ومع ذلك، فإن العديد من الدول العربية أظهرت أخيرًا إصرارًا وعزمًا، حيث بذلت بنشاط وإبداع جهودًا دبلوماسية دولية وإقليمية تعكس قدرًا أكبر من المرونة والثقة والاستقلال.

تحولات من العالم للإقليم

فى ضوء ذلك، شهدت العقود القليلة الماضية العديد من التحولات فى الشرق الأوسط:

■ تحول التوازن الجيوسياسى نحو تركيا وإسرائيل وإيران، وهى دول اتبعت فى الماضى سياسات إقليمية عدوانية أو عنيدة، محاولة وضع نفسها فى مراكز القيادة فى المنطقة. ولكن تعين أخيرًا على تلك الدول تغيير استراتيجياتها بعدما تبين عدم فاعلية سياساتها الإقليمية العدوانية. وتحاول أغلب الدول الثلاث حاليًا الحفاظ على إنجازاتها، ومواجهة التحديات، والتكيف مع البيئات السياسية المتغيرة من خلال أساليب أكثر دبلوماسية وجاذبية للفاعلين الإقليميين.

■ زادت المؤشرات الدالة على تبنى المنطقة- ولاسيما الخليج العربى- «التغيير» على نحو أكثر ثقة وإيجابية فى السنوات الأخيرة، وهو ما تجلى على المستوى المحلى، وكذلك فى إقامة علاقات ودية مع الولايات المتحدة والصين وروسيا. ومن الأمثلة على ذلك استضافة الرياض مؤتمرات قمة إقليمية مع واشنطن وبكين، وكذلك استضافة روسيا الاجتماع الوزارى للحوار الاستراتيجى السادس مع الخليج.

■ اتخذت النزاعات فى المنطقة صبغة إقليمية، بالتزامن مع تراجع دور الفاعلين الدوليين. كما اتجهت «دبلوماسية حل النزاعات» نحو مزيد من المبادرات الإقليمية، ولاسيما فى شمال إفريقيا وليبيا وشرق البحر المتوسط وسوريا والخليج العربى وإيران والسودان، وهو اتجاه إيجابى يشير إلى زيادة توجه الفاعلين الإقليميين نحو الاضطلاع بدور أكثر فاعلية فى البحث عن حلول للنزاعات فى مناطقهم، فنجد أن المغرب استضاف هذا العام اجتماع المصالحة الليبية، بينما عقدت مصر اجتماعات للدول المجاورة للسودان، واجتماعات أخرى للفصائل الفلسطينية، كما استضافت السعودية اجتماعات لبحث شؤون السودان، وأبرمت اتفاقًا مع إيران، واستضافت اجتماعًا لجامعة الدول العربية عادت سوريا من خلاله للجامعة. كما تبذل الإمارات جهودًا دبلوماسية هادئة بشأن قضايا مياه النيل الشائكة. ومن الأمثلة المهمة الأخرى على هذا الاتجاه عودة العلاقات الودية بين تركيا والعديد من الدول العربية من شمال إفريقيا إلى الخليج، وظهور ملامح لتحسن فى العلاقات بين دول الخليج العربى وإيران. ويوضح كل ذلك النهج المتطور الذى تتبعه المنطقة للتعامل مع القضايا الخلافية داخل حدودها. وبمقدور هذا النشاط- إذا ما استُثمر بحكمة- أن يوازن ويحقق الاستقرار فى الجغرافيا السياسية الإقليمية، وبالتالى أن يدفع الفاعلين الآخرين نحو المزيد من التكيف.

■ تنامى التركيز على التنمية الاقتصادية فى الشرق الأوسط. وهو ما اتضح فى إعطاء الأولوية للمساعى التى تهدف إلى تعزيز كفاءة البنية التحتية، وإصلاح الاقتصادات الوطنية وتحديثها، وإنشاء مراكز لوجستية إقليمية لشرق إفريقيا وغرب آسيا، بالإضافة إلى اتجاه صحى نحو تعزيز المهارات البشرية، وهو تطور مهم فى دول أغلب سكانها من الشباب. لذا يمكننا القول فى الأساس إن هناك مؤشرات على استيعاب المنطقة واستعدادها للمستقبل.

التحديات المقبلة

يواجه مستقبل الشرق الأوسط بالفعل تحديات كبرى تجب مواجهتها لتحقيق التنمية والاستقرار المستدامين فى المنطقة. فقد يؤدى انتشار الصراعات الإقليمية فى نهاية المطاف إلى تعطيل قطارات التنمية. وهناك تحدٍ آخر يكمن فى التعامل مع عدم التكافؤ والفروقات الاقتصادية المتزايدة فى المنطقة، والتى هى الأكبر فى العالم، فالمنطقة تعانى من ارتفاع مستمر فى معدلات البطالة، ولاسيما بين الشباب من الذكور والإناث. ولقد تفاقمت تلك التحديات الاقتصادية بسبب تداعيات جائحة «كوفيد- 19»، وبسبب الوضع فى أوكرانيا. فقد أشار تقرير لمنظمة العمل الدولية إلى أن معدلات البطالة قد ارتفعت فى المتوسط إلى 21.4% بين الذكور و42.5% بين الإناث فى عام 2022، حيث وقعت أغلب هذه النسبة على نحو غير متوازن على الفئة الأعلى من حيث المستوى التعليمى ممن يبحثون فى الغالب عن وظائف آمنة ومستقرة فى القطاع العام. ومن المثير للاهتمام أن البنك الدولى قد وصف الشباب فى العديد من الدول (مثل البحرين والكويت واليمن والإمارات العربية المتحدة والعراق وقطر والمملكة العربية السعودية والأردن ومصر وتونس) بأنهم يُمثلون أعلى النسب المهتمة بالتوظيف فى القطاع العام.

ومع ذلك، فإن الطلب على وظائف القطاع العام فاق بكثير عدد الوظائف المتاحة، مما أدى إلى نمو فى قطاع الاقتصاد غير الرسمى وهو الأكثر ضعفًا، وفى الغالب الأقرب إلى خط الفقر. يستدعى هذا الأمر اتخاذ إجراءات عاجلة لتعزيز القطاع الخاص، وكذلك تعزيز سياسات التأمين الاجتماعى الذى يتضاءل حاليًا. وصار من الضرورى وجود نظام قوى يستجيب للأزمات المفاجئة لدعم منخفضى الدخل، ويتضمن ذلك توسيع نطاق تأمين العمال غير الرسميين بموجب سياسات الحماية والتأمين الاجتماعى بهدف تعزيز إنتاجيتهم.

على الجانب الآخر، لا ينبغى تجاهل تحديات مثل الأمن الغذائى، وندرة المياه وإدارتها، وآثار تغير المناخ، فضلًا عن التسليح النووى وانتشاره. وتشير استضافة دولة الإمارات العربية المتحدة مؤتمر الأطراف (كوب 28)، بعد عام واحد من استضافة مصر مؤتمر (كوب 27)، بوضوح إلى أن المنطقة تدرك هذا التحدى، وتدرك الحاجة إلى تقديم حلول شاملة ومنطقية كرد فعل له، وهو ما يشير بدوره إلى استعداد المنطقة للإسهام فى الجهود العالمية للتصدى لتغير المناخ وعواقبه.

بالإضافة إلى هذه التحديات، نجد تحديًا آخر (إن لم يكن أهمها) وهو الحاجة إلى مزيد من البحث عن الهوية الوطنية داخل دول المنطقة وتحديدها، خاصة بعد سنوات من «البحث عن الذات» تفاوتت ما بين القومية والعلمانية والأصولية، والطائفية والإصلاحية والحداثية.

تستطيع المنطقة أن تعزز الشعور بالانتماء والهدف المشترك من خلال تعزيز العقود الاجتماعية الأكثر استجابة لاحتياجات الشعوب، والتى تحترم العرق والتنوع مع إجلال الهوية الوطنية، وهو أمر لا غنى عنه من أجل إقامة مجتمعات مرنة ومستقرة.

ومن خلال الإجراءات الاستباقية والتعاونية يمكن للمنطقة أن تتطلع إلى مستقبل أكثر تفاؤلًا.. مستقبل يعزز التنمية والسلام والازدهار لشعوبها.

* نبيل فهمي

وزير الخارجية المصري السابق

*لينك المقال في المصري اليوم