المصري اليوم:

محمد جاب الله يكتب: معضلة الأمطار: تغير المناخ والتجارة.. خسائر قناة بنما وفرص قناة السويس

17 June 2023


تواجه التجارة العالمية ضغوطًا شديدة، لكن هذه المرة ليس بسبب تداعيات تفشى جائحة «كورونا» أو الحرب الروسية الأوكرانية، وإنما بسبب التغيرات المناخية شديدة التقلب، حيث يسهم الشحن البحرى فى انبعاثات ثانى أكسيد الكربون بنسبة 20% من الانبعاثات العالمية من قطاع النقل.

وأخذت خطورة التغيرات المناخية تتزايد فى الآونة الأخيرة مع اشتداد موجات الجفاف والأعاصير والعواصف وارتفاع درجات الحرارة وسرعة الرياح والأمواج، الأمر الذى قد يؤدى إلى تعطيل عمليات الشحن، وتباطؤ حركة مرور السفن، ويهدد القنوات البحرية والطرق الملاحية التى تنقل نحو 80% من التجارة العالمية.

وفى هذا السياق، أصبح الجفاف الشديد الذى تتعرض له بحيرة غاتون بقناة بنما نتيجة للتغير فى معدل سقوط الأمطار على البحيرة بسبب التغيرات المناخية، يهدد حوالى 5% من إجمالى التجارة البحرية العالمية التى تعبر القناة سنويًا.

أهمية قناة بنما:

تقع قناة بنما فى المنطقة الوسطى بين أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية، وتربط المحيطين الأطلسى والهادى. وتُعد من أعظم الإنجازات الهندسية فى العالم، حيث تتم الملاحة داخل القناة من خلال «الأهوسة» «Locks» والتى تُستخدم فى تعديل مناسيب المياه فى المناطق المختلفة بالقناة، وذلك بسبب اختلاف منسوب المياه فى بحيرة غاتون عن منسوب المحيطين الهادئ والأطلسى بحوالى 26 مترًا فوق سطح البحر. فعلى سبيل المثال.

تدخل السفن من ميناء كريستوبال على المحيط الأطلسى فى الجهة الشرقية للقناة فى طريقها إلى الغرب، حيث تجتاز ثلاثة سدود رئيسية هى سد ميرافلوريس وسد غاتون وسد مادين، وتستخدم تلك السدود فى تعديل منسوب المياه بالقناة حتى تصل السفن إلى ميناء بالبوا على المحيط الهادى فى الغرب. وتختصر قناة بنما حوالى من 20% إلى 60% من المسافة التى تقطعها السفن للدوران حول قارة أمريكا الجنوبية؛ نظرًا لوقوعها فى المنطقة الفاصلة بين الأمريكيتين. وتخدم قناة بنما بصفة رئيسية حركة التجارة العالمية بين الموانئ الأمريكية على ساحل المحيط الأطلسى والخليج الأمريكى وشركائها التجاريين فى قارة آسيا.

ونتيجة للنمو المتزايد فى استخدام سفن الحاويات كبيرة الحجم على طرق نقل التجارة العالمية، أدركت قناة بنما أنها تعانى من مشكلة فى القدرة الاستيعابية لاستقبال السفن الكبيرة. ولاستيعاب ذلك النمو، نفذت هيئة قناة بنما مشروع التطوير عام 2016 عن طريق بناء مجموعة ثالثة من «الأهوسة» الجديدة «Neopanamax»، ما سمح بمرور سفن الحاويات كبيرة الحجم «Post-Panamax».

تغيرات مناخية:

تعانى قناة بنما من محدودية كميات المياه العذبة التى تُستخدم فى تشغيل «الأهوسة»، والتى تتأثر بمواسم الجفاف والتغيرات المناخية وذلك حتى قبل توسيعها فى عام 2016. وعلى الرغم من اتخاذها عدة تدابير للحفاظ على كمية المياه، فإن سقوط الأمطار على قناة بنما فى عامى 2016 و2019 كان أقل بنسبة 20% من المتوسط التاريخى. ومن المرجح أن يصل منسوب المياه فى بحيرة غاتون إلى أدنى مستوى له ليصل إلى 78 قدمًا فى نهاية شهر يوليو 2023، وهى ذات المستويات فى عامى 2016 و2019.

وبدءًا من 24 مايو 2023، سينخفض طول الجزء الغاطس من سفن «Neopanamax» من 45 قدمًا إلى 44.5 قدم (13.56 متر)، وسينخفض حد الغاطس أيضًا إلى 44 قدمًا فى 30 مايو 2023، كما سينخفض مرة أخرى فى منتصف شهر يوليو المقبل وحتى نهايته ليصل إلى 43.5 قدم. ويُعد الطول الطبيعى للجزء الغاطس من السفينة 50 قدمًا. وفى حين يبدو هذا وكأنه تغيير طفيف، فإنه قد يستتبعه تقليص حمولة بعض سفن الحاويات بنسبة 40%.

تداعيات سلبية:

هناك تأثيرات مُحتملة للتغيرات المناخية فى حركة التجارة فى قناة بنما، ومنها الآتى:

1- زيادة رسوم عبور السفن: أعلنت قناة بنما عن فرض رسوم إضافية على استهلاك المياه العذبة «Freshwater Surcharge» بدءًا من 15 فبراير 2020 بسبب تغير نمط هطول الأمطار، وانخفاض مستويات المياه فى بحيرة غاتون. ويتم تطبيق هذا الرسم على جميع السفن العابرة لقناة بنما، والتى يزيد طولها عن 125 قدمًا (38.1 متر)، ويتكون هذا الرسم من قسمين؛ الأول ثابت يتراوح بين (2500 و5 آلاف و10 آلاف دولار أمريكى) حسب طول السفينة، والثانى متغير ويتراوح بين 1% كحد أدنى و10% كحد أقصى من رسوم عبور السفينة، وذلك حسب مستوى المياه فى بحيرة غاتون.

حيث يكون هذا الرسم 1% كحد أدنى من رسوم عبور السفينة عندما يكون مستوى بحيرة غاتون أعلى من 85.5 قدم، بينما يصل إلى 10% كحد أقصى من رسوم العبور عندما ينخفض مستوى بحيرة غاتون عن 72.0 قدم، ومن المتوقع أن تتراوح نسبة الرسوم الإضافية المفروضة على السفن العابرة لقناة بنما خلال الفترة (25 مايو - 24 يوليو 2023) بين 7.3% و8.6% نتيجة لتوقع تفاقم الجفاف وانخفاض مستوى بحيرة غاتون لتتراوح ما بين 80.3 و78.9 قدم، وفقًا لتقديرات إدارة قناة بنما، مما سيؤدى لزيادة جديدة فى تكاليف شحن البضائع عبر القناة.

2- زيادة فترة انتظار السفن فى قناة بنما: من المرجح أن يؤدى تخفيض طول الجزء الغاطس من السفن، إلى نقص المساحة لتحميل البضائع لمعظم شركات الشحن بنسبة 40%. وهذا يعنى أن الأمر سيتطلب المزيد من السفن لنقل الكمية نفسها من البضائع، وهو ما سيزيد من أوقات الانتظار للسفن التى ترغب فى عبور قناة بنما.

3- تأثير محدود فى سفن الغاز الطبيعى المُسال: من المرجح أن تشهد ناقلات الغاز الطبيعى المُسال العابرة لقناة بنما، والتى مثلت نحو 10% من إجمالى أعداد السفن العابرة للقناة خلال العام المالى 2022، تأثيرًا محدودًا بالتغييرات فى طول الجزء الغاطس مقارنة بالسفن الأخرى؛ لأن القيود المفروضة عليها فى هذا الصدد أقل من تلك التى تحمل بضائع أو سلعًا صناعية أثقل. لكن أى اختناقات قد تحدث ستدعو للقلق، وخاصة فى الولايات المتحدة، التى من المقرر أن تبدأ فى زيادة صادراتها من الغاز الطبيعى المُسال خلال السنوات الخمس المقبلة.

موقف الشركات:

قد تلجأ شركات الملاحة البحرية إلى عدة إجراءات للتعامل مع انعكاسات التغيرات المناخية فى قناة بنما، وأبرزها ما يلى:

1- رفع قيمة نولون شحن الحاوية وأسعار تأجير السفن: أعلنت أربعة خطوط ملاحية عن إمكانية فرض قيود جديدة على حمولة السفن، أو دفع رسوم إضافية تتراوح بين 300 و500 دولار على الحاوية بدءًا من أول يونيو 2023. ومن المُحتمل أن تفرض الشركات والخطوط الملاحية العالمية الأخرى مزيدًا من القيود أو رفع قيمة نولون شحن الحاوية أو أسعار تأجير السفن، حيث شكلت سفن الحاويات 45.5% من حركة المرور فى «الأهوسة» الجديدة بقناة بنما فى العام المالى 2022، تلتها ناقلات غاز البترول المُسال بنسبة 24.1%، ثم سفن الصب الجاف بنسبة 12.4%.

2- تخفيض حمولة السفن: من المُحتمل أن تضطر بعض شركات الشحن إلى تقسيم الحمولة الثقيلة على حاويتين بدلًا من واحدة فقط، مع تأثر السفن التى تحمل بضائع أثقل على نحو أكبر. وقد تكلّف هذه الإجراءات المستوردين وتجار التجزئة حوالى 1500 دولار إضافية لكل حاوية.

3- اللجوء إلى طرق بديلة: يمكن للبضائع القادمة من آسيا إلى الولايات المتحدة، أن تسلك طرقًا بديلة عبر قناة السويس، أو يمكنها استخدام الموانئ فى جنوب كاليفورنيا، والتى قد تتضمن تحميل الحاويات على شاحنات أو قطارات متجهة إلى المراكز السكانية فى الغرب الأوسط والساحل الشرقى.

توقعات مستقبلية:

من المرجح أن يؤدى استمرار التغيرات المناخية فى قناة بنما نتيجة تراجع معدل سقوط الأمطار فى السنوات المقبلة، إلى فرض مزيد من القيود على حركة ملاحة السفن العابرة للقناة، الأمر الذى سيقلل من تنافسية طريق قناة بنما أمام الطرق البديلة والمنافسة، ولاسيما طريق قناة السويس.

وفى ضوء النمو المستمر لحركة التجارة العالمية المنقولة بحرًا بين الولايات المتحدة والدول الآسيوية خاصة الصين واليابان، وتزايد أحجام السفن على هذا الطريق، واعتباره الأهم بالنسبة لقناة بنما، بالإضافة إلى القيود التى يتم فرضها من إدارة القناة والتى من شأنها تخفيض حجم الحمولة المسموح بها؛ ستصبح قناة بنما غير قادرة على استيعاب جزء مهم من التجارة العالمية، الأمر الذى سيؤدى إلى انخفاض إيراداتها فى المستقبل. وقد بلغت إيرادات قناة بنما فى العام المالى 2022 نحو 2.5 مليار دولار، وذلك بعبور أكثر من 14 ألف سفينة بحمولة 518 مليون طن.

وسيؤدى فرض رسوم إضافية على استهلاك المياه العذبة، إلى ارتفاع تكلفة طريق قناة بنما، وتحول العديد من ملاك ومشغلى السفن لاختيار طريق قناة السويس، بالرغم من أنه الأبعد نسبيًا فى المسافة، خاصة فى ظل تنافسية رسوم قناة السويس وتطبيقها لسياسات تسعيرية مرنة.

ووصلت قناة بنما إلى أقصى طاقتها الاستيعابية لأعداد السفن العابرة والتى تبلغ 37 سفينة يوميًا، ما يؤدى إلى انتظار السفن لأيام لعبور القناة. بينما تبلغ الطاقة الاستيعابية لأعداد السفن العابرة فى قناة السويس حوالى 97 سفينة ويبلغ متوسط العبور اليومى حاليًا نحو 70 سفينة، مما سيؤدى إلى استفادة قناة السويس من استمرار التغيرات المناخية فى قناة بنما وتوقع تزايد إيراداتها لتصل إلى 8.8 مليار دولار بنهاية عام 2023 بمعدل زيادة 10% عن عام 2022.

ختامًا، يمكن القول إنه فى ضوء توقع خبراء الأرصاد الجوية هطول أمطار أقل من المُعتاد على قناة بنما فى المستقبل المنظور، فإن هذا من شأنه أن يؤدى إلى انخفاض كميات المياه العذبة فى بحيرة غاتون، وبالتالى من المرجح أن تؤثر هذه التغيرات المناخية سلبًا فى حركة التجارة البحرية العالمية المنقولة عبر قناة بنما نتيجة لارتفاع تكاليف شحن البضائع وزيادة الرسوم وتأخير السلع المنقولة عبر القناة، وهو ما قد يؤدى إلى تحول ملاك ومشغلى السفن نحو طرق بديلة وفى مقدمتها قناة السويس.

*باحث دكتوراه فى الاقتصاد بجامعة القاهرة

ينشر بالتعاون مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة

*لينك المقال في المصري اليوم*