حفريات:

صراع السودان يعمق أزمات الاقتصاد... ما السيناريوهات المحتملة؟

20 May 2023


شهدت الأيام الماضية منذ 15 إبريل 2023 تصاعداً في الاضطرابات التي عصفت بالداخل السوداني مع احتدام الاشتباكات والصراع المُسلح بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. وهذا الصراع يأتي في وقت يعاني فيه السودان من أزمة اقتصادية طاحنة عصفت بمؤشرات الدولة الاقتصادية الكلية، وجعلتها في مواجهة مشكلات متشابكة انعكست على الأوضاع السياسية والاجتماعية في البلاد. وبالتالي تُفاقم عمليات القتال الجارية من معاناة الاقتصاد السوداني، مع ما يتكبده من خسائر تصل في بعض التقديرات إلى نصف مليار دولار يومياً. وفي هذا الإطار، يسعى هذا التحليل لتسليط الضوء على التكلفة الاقتصادية للصراع الراهن في السودان، وذلك من خلال توضيح أوضاع الاقتصاد السوداني ومشكلاته قبل الأزمة الحالية، ثم الخسائر الاقتصادية المُحتملة، المباشرة وغير المباشرة، لهذا الصراع.

اقتصاد مترنح:

لم يكن الاقتصاد السوداني في أفضل حالاته قبل التصعيد العسكري الحالي، فالحقيقة أنه يعاني منذ عدة سنوات من تدهور سريع في مؤشراته؛ نتيجة ما يتسم به من اختلالات اقتصادية ظهرت بشكل أكثر وضوحاً منذ بداية عام 2018 مع التراجع الكبير والحاد في قيمة الجنيه السوداني، والذي تسبب في أزمة تتعلق بعدم توفير السلع الأساسية، وتراجع في الخدمات العامة. وانعكس ذلك بصورة كبيرة على الأنشطة الاقتصادية الرئيسية، خاصة الزراعية، وبالتالي تراجع مستويات المعيشة والدخول لنسبة كبيرة من السكان، في ظل ارتفاع معدلات التضخم لتتراوح الزيادة في أسعار السلع الغذائية الرئيسية مثل القمح من 150% إلى 200% في نهاية عام 2018. وبلغ معدل التضخم في يناير 2023 حوالي 83%، وهو يُعد مستوى أقل بكثير مما سجله السودان في عام 2021 والذي وصل حينها إلى 358.1%.

ويعود الارتفاع الكبير في معدلات التضخم على هذا النحو في السودان، إلى الافراط في طباعة العملة المحلية "الجنيه" دون وجود أرصدة احتياطي نقدي كافية لدى البنك المركزي؛ وذلك بهدف توفير السيولة المطلوبة للإنفاق الحكومي المتزايد والذي يتسم بقدر كبير من عدم الكفاءة، سواءً الإنفاق على الخدمات الاجتماعية مثل التعليم والصحة أو الاستثمارات العامة في أوجه إنفاق غير تنموية، مع انخفاض الإيرادات العامة، ولاسيما الضريبية مع زيادة معدلات التهرب الضريبي، حيث مثّل هذا النوع من الإيرادات في ديسمبر 2021 حوالي 5.6% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما نجم عنه ارتفاع العجز المتزايد في الموازنة العامة. وصاحب ذلك في نفس الوقت عدم توافر بدائل تمويل لدى الدولة، سواءً فيما يتعلق بالاقتراض الخارجي مع إدراج السودان في قوائم الإرهاب العالمية وما ارتبط بذلك من عقوبات اقتصادية، أو الاقتراض المحلي لتراجع كفاءة الجهاز المصرفي ومدى موثوقيته لدى المودعين وانخفاض معدلات سيولته.

وبالنظر إلى المؤشرات الكلية للاقتصاد السوداني، تظهر بشكل جلي الاختلالات الهيكلية فيه سواءً على المستوى الداخلي أو الخارجي. فقد حقق الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للسودان تراجعاً سنوياً، ليسجل معدل نمو سالب حتى قبل أزمة "كوفيد19". وشهد الاقتصاد السوداني تراجعاً متواصلاً في أداء القطاعات الرئيسية والمتمثلة في الزراعة والصناعة، حيث تراجع معدل النمو السنوي للإنتاج الزراعي إلى أكثر من -2% نتيجة تدهور سياسات التمويل والتسويق الزراعي وكذلك انخفاض إنتاجية القطاع الزراعي. والأمر ذاته بالنسبة لقطاع الصناعة، الذي تراجع إنتاجه بسبب تدهور الظروف الاقتصادية ومشكلات عدم توافر النقد الأجنبي والسلع الرأسمالية والتمويل، حيث انخفض إسهام هذا القطاع في الناتج المحلي الإجمالي إلى أقل من 7% مقارنة بـ 3% قبل 10 سنوات، كما أُغلقت حوالي 40% من المنشآت الصناعية في العامين الأخيرين.

وفيما يتعلق بمؤشرات الأداء الخارجي، فقد شهد الجنيه السوداني تدهوراً كبيراً في قيمته مقابل الدولار الأمريكي، ليتراجع من 7.01 جنيه سوداني في يناير 2018 إلى حوالي 600 جنيه سوداني في إبريل 2023. كما تزايد العجز التجاري بصورة كبيرة في السودان، خاصة بعد انفصال جنوب السودان وخسارة الصادرات البترولية، والتي لم تحل محلها صادرات السودان التقليدية ومنها الذهب. وفي نفس الوقت، فإن تراجع القطاعات الإنتاجية في البلاد، خلق مزيداً من الطلب على الواردات، مما أدى إلى تفاقم العجز التجاري، وشكل ضغطاً إضافياً على سعر صرف الجنيه السوداني وبالتالي المزيد من تدهور قيمته.

وقد كانت لهذه الأزمة الاقتصادية انعكاسات كبيرة على السودان، سواءً اجتماعياً أو سياسياً. فقد ترتبت عليها زيادة معدلات انعدام الأمن الغذائي في البلاد، حيث وصل عدد الأفراد الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي وبحاجة للمساعدة إلى نحو 15.8 مليون شخص، منهم 4 ملايين طفل دون سن الخامسة ونساء حوامل ومرضعات، وفقاً لتقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا" قبل اندلاع القتال الحالي.

تكلفة ضخمة:

من المؤكد أن الصراع الحالي في السودان والذي تصاعدت وتيرته منذ منتصف إبريل 2023، سوف يُلقي بظلاله السلبية على اقتصاد البلاد، وعلى نحو يدفع إلى خفض توقعات التعافي التي وضعتها بعض المؤسسات الدولية له خلال عام 2023. وقد قُدرت تكلفة الصراع الدائر في السودان بحوالي نصف مليار دولار يومياً، وفي تحليلات أخرى بنحو 10 مليارات دولار شهرياً. وبالرغم من صعوبة تقدير التكلفة الاقتصادية الحقيقية لهذا الصراع، فإنه يمكن تحديد مؤشرات عامة للتكاليف المباشرة وغير المباشرة له، على النحو التالي:

1- التكاليف المباشرة: يأتي في مقدمتها تأثير الصراع في معيشة السودانيين، فقد شهدت الأيام الماضية ارتفاعاً كبيراً في أسعار الغذاء والسلع الأساسية وكذلك قلة المعروض منها، خاصة مع إغلاق المحال التجارية ومنافذ البيع مع احتدام القتال. وقُدر الارتفاع في أسعار السلع الغذائية بنسب تتراوح بين 300% إلى 400%، فعلى سبيل المثال ارتفعت أسعار اللحوم إلى أكثر من 8 آلاف جنيه سوداني. 

ولا تقتصر التأثيرات على الأجل القصير فقط، وإنما تؤثر مثل هذه الاشتباكات في الوضع الاقتصادي في السودان وأبنائه في الأجلين المتوسط والقصير. فمن المؤكد أن يؤثر الصراع الحالي في قطاع الزراعة الذي يعمل به حوالي 40% من إجمالي القوة العاملة في السودان ويُعد مصدر معيشة للنسبة الأكبر من السكان. والحقيقة أن الاشتباكات الحالية خاصة مع استمرارها لفترات أطول، من شأنها أن تؤثر في الإنتاج الزراعي، ما ينعكس سلباً ليس فقط على المؤشرات الاقتصادية، وإنما كذلك على أبعاد اجتماعية أكثر تعقيداً، يأتي في مقدمتها الأمن الغذائي. وجاء ذلك في الوقت الذي كان من المتوقع أن يعود فيه السودان مرة أخرى لتحقيق اكتفائه الذاتي من بعض المحاصيل الغذائية، وهو ما أشارت إليه منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة "فاو" في 29 مارس الماضي بتعافي إنتاج السودان من الذرة الرفيعة والبيضاء هذا العام.

كذلك فإن استمرار المواجهات العسكرية وما يترتب عليها من تأثيرات في المؤشرات الاقتصادية المرتبطة بتزايد الإنفاق العسكري، وانخفاض الإيرادات الضريبية، وتراجع الناتج المحلي الإجمالي؛ سيؤدي إلى استمرار حالة التدهور التي يعاني منها الاقتصاد السوداني، ويؤثر بشكل حتمي في قدرته على سداد مديونيته الخارجية المتضخمة بالفعل والتي تجاوزت 202% من الناتج.  

2- التكاليف غير المباشرة: ترتبط هذه التكاليف عادة ببعدين أساسيين، يتعلق الأول منهما بالخسائر التي ألمت بالبنية التحتية جراء المواجهات العسكرية الحالية. أما البعد الثاني فيرتبط بتوقف أو تعليق المساعدات الدولية للاقتصاد السوداني في ظل هشاشته وارتفاع حجم مديونيته الخارجية، وهو ما سبق أن حدث بالفعل في أكتوبر 2021 حين دفعت الاضطرابات السياسية في هذه الفترة البنك الدولي نحو تعليق مساعدات بنحو 500 مليون دولار كانت مخصصة لدعم الميزانية السودانية، كجزء من تعهد بمنح قدرها ملياري دولار. كذلك أوقف صندوق النقد الدولي تمويلاً بنحو 150 مليون دولار كجزء من برنامج قروض بإجمالي 2.5 مليار دولار، وعلقت أيضاً حينها الولايات المتحدة مساعدات للخرطوم بنحو 700 مليون دولار. وفي ظل الأزمة الراهنة، اضطر برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة إلى وقف مؤقت لعمليات توزيع المساعدات الغذائية في السودان. 

ختاماً، جاءت الاشتباكات الحالية في السودان في وقت كان اقتصاد البلاد قد بدأ في إظهار بعض المؤشرات على إمكانية تعافيه، لتدفعه مرة أخرى إلى دائرة التدهور والركود. ولعل تقدير التكلفة الاقتصادية لهذا الصراع ليس بالأمر السهل، خاصة مع تشابك أبعاد هذه التكلفة بين المباشرة وغير المباشرة، فضلاً عن غياب الرؤية وعدم اليقين بشأن أمد هذا الصراع. بيد أن المؤكد أن التكلفة الاقتصادية المتوقعة للقتال الراهن في السودان لن تكون يسيرة، وستُلقي بظلالها السلبية على اقتصاد كان بالفعل مترنحاً قبل الأزمة الحالية، ويبلغ حجمه حوالي 35 مليار دولار وبمديونية تُقدر بنحو 55 مليار دولار.

*لينك المقال في  حفريات*