مدركات مغلوطة:

مقاربة جديدة لتأثير النشاط البشري في المناخ

06 March 2023


عرض: دينا محمود

مع تصاعد أهمية قضية تغير المناخ وتأثيراتها المختلفة في العالم، بات من الأهمية طرح الخبراء المتخصصين في المناخ لطروحات علمية دقيقة، كي تقود إلى استجابات إيجابية تستند إلى معلومات وتصورات صحيحة، بحيث تكون أكثر قدرة على مجابهة التداعيات المناخية على الدول والمجتمعات. من هنا، تكمن أهمية كتاب ستيفن كونين -الفيزيائي الأمريكي والمدير السابق لمركز العلوم الحضرية والتقدم في جامعة نيويورك، وأستاذ في قسم الهندسة المدنية والحضرية في كلية تاندون للهندسة بجامعة نيويورك- الذي يحمل عنوان "المناخ: جزء عدم اليقين"، إذ يطرح الكاتب مقاربة جديدة لقضية تغير المناخ يصحح فيها بعض المدركات العامة حولها.

 يجيب كونين في كتابه عن ثلاثة تساؤلات كبرى أولها، يتعلق بتأثير النشاط البشري في المناخ، وكيفية تغير هذا التأثير مستقبلاً، بينما يشير الثاني إلى تداعيات التغير المناخي والتناقضات القائمة بين حقائق العلم والمدركات الشائعة المغلوطة بشأن المناخ، فيما يرتبط التساؤل الثالث، بكيفية استجابة المناخ للتأثيرات البشرية والطبيعية وانعكاساتها على النظم البيئية والمجتمع.

تباين المناخ والطقس

ثمة تباين كبير بين المناخ والطقس، وهو تمييز قلما يتم طرحه، فبينما يتغير الطقس في أي مكان باستمرار، بشكل متوقع أو غير متوقع، فبالمقابل، فإن مناخ المنطقة هو متوسط الأرصاد الجوية على مدى عدة عقود. وتُعرِّف المنظمة العالمية للأرصاد الجوية التابعة للأمم المتحدة المناخ بأنه "متوسط أكثر من ثلاثين عاماً"، على الرغم من أن باحثي المناخ يتحدثون أحياناً عن متوسطات على مدى فترات قصيرة تصل إلى عشر سنوات. 

على أية حال، فإن التغيرات في الطقس من عام إلى آخر لا تشكل تغيراً في المناخ. لذا، يمكن القول إن "المناخ هو ما تتوقعه، والطقس هو ما تحصل عليه". فنظراً لأن المناخ متوسط على مدار سنوات عديدة، فإنه يتغير ببطء، ويستغرق الأمر ما لا يقل عن عشر سنوات من الملاحظات لتحديد المناخ وعقدين أو ثلاثة عقود أخرى لتحديد التغير فيه.

تجدر الإشارة هنا إلى أنه يوجد اختلاف جذري بين مفهومي التغير المناخي CHANGEMENT CLIMATIQUE، وتغير المناخ CHANGEMENT DE  CLIMAT، فالتعريف الأول يُرجع التغيرات المناخية إلى التغيرات الناتجة عن الأسباب الطبيعية، بينما يعزو التعريف الثاني بشكل مباشر أو غير مباشر التغير إلى النشاط البشري الذي يغير تكوين الغلاف الجوي للكوكب. 

في الأخير، فعلى الرغم من وجود اتفاق بين الأطروحات المختلفة بشأن وجود زيادة مضطردة في درجات الحرارة منذ منتصف القرن التاسع عشر بفعل الأنشطة البشرية، بيد أن العوامل الطبيعية القوية تؤثر أيضاً في المناخ؛ وهو ما يعني أهمية الحاجة العلمية لفهم هذه التأثيرات الطبيعية جيداً لتحديد استجابة المناخ للتأثيرات البشرية بشكل أكثر دقة. 

نشاط البشر والمناخ

تُعد زيادة تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي أهم تأثير بشري في المناخ، إذ تضاعف هذا التركيز من قيمته البالغة 280 جزءاً في المليون في عام 1750 إلى 560 جزءاً في المليون "PPM" حالياً، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى حرق الوقود الأحفوري، كما يتزايد تركيز الغازات الدفيئة الرئيسية الناتجة عن الأنشطة البشرية، لاسيما الميثان "CH4"، في الغلاف الجوي، فقد ازداد أيضاً خلال القرن الماضي ويسهم تأثيره بشكل متزايد في ظاهرة الاحتباس الحراري، كما هو الحال مع ثاني أكسيد الكربون.

ويُعد بقاء ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي لفترة طويلة عقبة أساسية أمام تقليل التأثيرات البشرية في المناخ، حيث يضاف أي انبعاث جديد إلى التركيز الحالي الذي يستمر في الزيادة طالما استمرت الانبعاثات نفسها. لذلك، فإن التخفيضات المتواضعة في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون لن تؤدي إلا إلى إبطاء الزيادة في تركيزه، لكنها لن تمنع ذلك. 

وستعتمد الانبعاثات المستقبلية، وبالتالي التأثيرات البشرية في المناخ، على ما يخبئه المستقبل من حيث التركيبة السكانية والتقدم الاقتصادي، فضلاً عن تقنيات الطاقة والزراعة المطبقة، حيث يمكن الجمع بين افتراضات مختلفة حول كل من هذه العوامل للتنبؤ بانبعاثات غازات الاحتباس الحراري، ويمكن للنماذج المناخية التي تم تطويرها أن تعطي فكرة مستقبلية عن كيفية تفاعل المناخ مع التأثيرات البشرية في العقود المقبلة.

العلم والمدركات الشائعة

ثمة تناقضات بين العلم والفكرة السائدة بأن "الأنشطة البشرية قد غيرت المناخ بالفعل"، فالسجلات الحرارية في الولايات المتحدة تشير إلى أن درجات الحرارة حالياً أقل مما كانت عليه في عام 1900، كما أن العدد السنوي للأعاصير الأمريكية بقوة "EF1" أو أعلى لا يٌظهر أي اتجاه للارتفاع على مدار الأعوام الستين الماضية، فيما تشير اتجاهات أعنف الأعاصير "EF3 وما فوق" أن عددها قد انخفض بنحو 40% منذ عام 1954. بعبارة أخرى، مع زيادة التأثيرات البشرية في منتصف القرن العشرين لم يتغير عدد الأعاصير الكبيرة كثيراً لكن العواصف الأكثر عنفاً باتت أقل تواتراً. 

كذلك، لا يبدو أن هناك أي اتجاهات إيجابية يمكن اكتشافها وذات مغزى في كمية الهطول العالمي للأمطار بسبب الارتفاع الراسخ الآن في درجة حرارة الأرض، هناك بالتأكيد اتجاهات إقليمية، لكن لا يوجد دليل على زيادة هطول الأمطار على نطاق عالمي استجابة لارتفاع درجة حرارة الأرض المرصود، وهو ما يتعارض مع الفكرة القائلة إن الاحتباس الحراري سيؤدي بالضرورة إلى تسريع الدورة الهيدرولوجية، أي زيادة هطول الأمطار والفيضانات. 

يمكن القول أيضاً إن حالات الجفاف على مدى الألفية الماضية كانت أكبر وأطول مدة من تلك التي لوحظت منذ بداية القرن العشرين في العديد من المناطق. إذ يؤدي الجفاف إلى نشوب حرائق الغابات، والتي يتم تصويرها من قبل وسائل الإعلام على أنها نتيجة للاحتباس الحراري، بينما يقول الخبراء إنها نتيجة لتغير مناخي "غير مسبوق". وفي الواقع، يؤدي تغير المناخ دورا ًفي تواتر حرائق الغابات لكن العوامل الأخرى غير المناخ تؤدي أيضاً دوراً مهماً، لأن الحرائق قد تضاءلت بحلول مطلع القرن العشرين. 

كما تسببت التغيرات في مدار الأرض وميل محورها على مدى عشرات الآلاف من السنين، وتغير كمية الإشعاع الشمسي الذي يمتصه نصفا الكرة الأرضية الشمالي والجنوبي، في تقلبات كبيرة في درجة حرارة الكوكب على مدى مليون سنة الماضية، وذوبان الأنهار الجليدية التي تغطي القارات، وهو ما تسبب بدوره في ارتفاع مستوى سطح البحر. نظراً لأن هذه المستويات قد ارتفعت بشكل هائل منذ عام 1950، فقد أشارت التقارير إلى أنه على مدى ثلاثين عاماً الماضية، ارتفع مستوى سطح البحر بحوالي 3 ملم سنوياً، أكثر من متوسط الارتفاع البالغ 1.8 ملم/ سنة منذ عام 1880. باختصار، لا نعرف ما إذا كان ارتفاع مستوى سطح البحر بسبب الاحتباس الحراري الناجم عن الأنشطة البشرية أم هو نتاج دورات طبيعية طويلة الأجل، وعوامل مثل التيارات المحلية والتعرية وأنماط الطقس العادية. 

تداعيات التغير المناخي

تدَّعي وسائل الإعلام والرأي العام أن التأثيرات البشرية في المناخ مسؤولة عن جميع أنواع الكوارث المجتمعية الوشيكة، بما في ذلك الموت والأمراض والانهيار الزراعي والخراب الاقتصادي، بيد أن الملاحظات التاريخية لا تدعم هذه الادعاءات، فهناك ثلاثة آثار سلبية كثيراً ما يُستشهد بها لتغير المناخ، تتمثل في: معدلات الوفيات، والمجاعات، والدمار الاقتصادي، فعلى سبيل المثال في عام 2018، بلغ إجمالي المعدل السنوي للوفيات حول العالم 770 لكل 100 ألف نسمة، وكانت جميع الأمراض المعدية مسؤولة عن 75 حالة وفاة لكل 100 ألف أي حوالي عُشر إجمالي الوفيات من جميع الأسباب. 

في الواقع، نحن لا نموت من المناخ، إنه يتطور ببطء وتتكيف المجتمعات معه إلى حد كبير، ولكن بسبب الأحداث المرتبطة بالمناخ، كالجفاف والفيضانات والعواصف ودرجات الحرارة القصوى وحرائق الغابات، رأينا بالفعل أنه ليس من المؤكد أن تغير المناخ قد أدى بالفعل إلى تفاقم هذه الظواهر. فبالنظر في عدد الوفيات المرتبطة بالطقس التي تم تسجيلها خلال القرن الماضي، تشير البيانات الصادرة عن مركز الأبحاث في وبائيات الكوارث "CRED"، والتي تغطي أكثر من 22 ألف كارثة جماعية في جميع أنحاء العالم منذ عام 1900، إلى انخفاض عدد الوفيات المرتبطة بظواهر الطقس بشكل كبير خلال الأعوام المئة الماضية، حتى مع ارتفاع درجة حرارة الأرض إلى 1.2 درجة مئوية. فهذه الوفيات أقل تواتراً بنحو 80 مرة مما كانت عليه قبل قرن من الزمان، ويرجع الكثير هذا إلى تحسن تتبع العواصف، والسيطرة على الفيضانات، والرعاية الطبية، والقدرة على الصمود بشكل عام مع تطور البلدان المختلفة. 

من ناحية أخرى، على الرغم من الاحتباس الحراري، فقد قفزت المحاصيل الزراعية والإمدادات الغذائية ككل خلال القرن الماضي؛ فالتركيز المتزايد لثاني أكسيد الكربون كان عاملاً مهماً في تحسين المحاصيل، حيث إنه يُحفز التمثيل الضوئي ويغير فسيولوجيا النبات لاستخدام الماء بشكل أكثر كفاءة. فقد أدى ارتفاع ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي إلى ازدياد المساحات الخضراء بنحو 25 إلى 50%. 

وفي غضون خمسين عاماً، بين عامي 1961 و2011، تضاعفت الغلة العالمية من القمح والأرز والذرة أكثر من الضعف كما شهد عام 2020 رقماً قياسياً في إنتاج الحبوب. وتقدر الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ أنه مهما كانت التغيرات المناخية التي حدثت بين عامي 1981 و2010، فقد كان لها تأثير ضئيل في هذا النمو القوي، كما أن التأثيرات المتوقعة في أسعار الغذاء والآثار الاقتصادية لتغير المناخ الذي يسببه الإنسان في المستقبل بحلول عام 2050 تظل غير مؤكدة إلى حد كبير. 

الاستجابة لتغير المناخ

ثمة حالة من القلق لأن العديد من الأفراد والمنظمات داخل المجتمع العلمي يقدمون العلم بطرق غير دقيقة، فالقرارات الرئيسية التي تُتخذ من دون معرفة كاملة بما يقوله العلم أو بناءً على معلومات مضللة، لا يمكن أن تؤدي إلى نتائج إيجابية، وقد قدَّم "كوفيد19" مثالاً صادماً على ذلك، وهو ما ينطبق تماماً على المناخ والطاقة، ثمة حاجة ملحة لبحث آليات جديدة يمكن بها تحسين عملية فهم تغير المناخ.

هناك العديد من الأشياء التي يمكننا القيام بها لتقليل التأثيرات البشرية في المناخ على الرغم من أن ذلك لن يمنعه بالضرورة من التغير. فوفقاً للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، فإن مجرد تثبيت التأثيرات البشرية في المناخ يعني أن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية السنوية ستنخفض إلى أقل من طن واحد للفرد بحلول عام 2075، وسيكون على البلدان المتقدمة بالتأكيد أن تخفض انبعاثاتها.

فعلى سبيل المثال: التزم الاتحاد الأوروبي، الذي يمثل أقل من 10% من الانبعاثات العالمية، بتخفيضها بنسبة 40% بحلول عام 2030 وقد تعهد تشريعياً بتخفيض صافٍ بنسبة 100% بحلول عام 2050، لكن حتى لو تم تخفيض الانبعاثات إلى النصف وتم تعويض انبعاثات الفرد في العالم النامي فقط مع تلك الخاصة بالبلدان المتقدمة الأكثر اقتصاداً للانبعاثات، فإن الانبعاثات السنوية العالمية سترتفع، كما تقوم الصين والهند ببناء محطات طاقة تعمل بالفحم والتي ستضاعف انبعاثاتها مرتين وثلاث مرات على التوالي.

وللوصول إلى الهدف المحدد في اتفاقية باريس للمناخ، يجب على العالم أن يتخلص تدريجياً بشكل كامل تقريباً من الوقود الأحفوري خلال ثلاثين إلى خمسين عاماً المقبلة. لكن هل من الواقعي حقاً الاعتقاد بإمكانية القضاء على صافي الانبعاثات العالمية في غضون ثلاثين إلى خمسين عاماً؟ خاصة أن التقدم الاقتصادي لمعظم البشرية على مدى العقود القليلة المقبلة سوف يدفع الطلب على الطاقة بقوة أكبر من النمو السكاني.

من المتوقع أن تؤدي التطورات الديموغرافية والاقتصادية مجتمعة إلى زيادة الطلب على الطاقة بحوالي 50% بحلول عام 2050. ويوفر الوقود الأحفوري حوالي 80% من طاقة العالم اليوم ومن المتوقع أن تستمر هذه الهيمنة حتى منتصف القرن على الرغم من النمو القوي في المصادر المتجددة مثل الرياح ويمكن أن تقلل الطاقة الشمسية حصتها إلى حوالي 70%. 

ختاماً، نظراً للصعوبة الهائلة المتمثلة في تقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، فلا بد من البحث عن استراتيجيات أخرى ربما تكون أكثر جدوى، للاستجابة لتغير المناخ، منها جعل الأرض أكثر انعكاساً (عن طريق زيادة بياضها)، بحيث تمتص قدراً أقل من الطاقة الشمسية، وتسمى هذه الاستراتيجية "إدارة الإشعاع الشمسي"، وهناك استراتيجية أخرى تتمثل في عزل الكربون "CDR"، والتي تشير إلى إزالة ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي لتحييد الانبعاثات البشرية بشكلٍ مباشر، فيما طرحت بعض الأدبيات فكرة "التكيف" كاستراتيجية أخرى يمكن للبشر تبنيها للاستجابة لتغير المناخ.

المصدر:

 Steven E.Koonin, Climat: la part d’incertitude, Éditions du Toucan, Paris, 2022.