استجابات مضادة:

تقييم التصور الروسي والصيني للعسكرة الأمريكية للفضاء

27 February 2023


عرض: هند سمير

تطورت الأنشطة العسكرية الأمريكية في مجال الفضاء الخارجي لتثير منافسة جيوسياسية دولية مع كل من الصين وروسيا. ففي العام 1985، تم إنشاء قيادة الفضاء الأمريكية لتنسيق استخدام الفضاء الخارجي وتنفيذ مبادرة الدفاع الاستراتيجي، ثم تم دمج هذه القيادة في عام 2002 مع القيادة الاستراتيجية الأمريكية إثر هجمات 11 سبتمبر 2001. وبحلول العام 2018، أصدرت إدارة ترامب استراتيجية الفضاء الوطنية الأمريكية، ثم تم إنشاء قوة الفضاء الأمريكية "USSF" في العام 2019. تلا ذلك إصدار وزارة الدفاع الأمريكية استراتيجيتها الفضائية في عام 2020. 

في المقابل، شجبت بكين وموسكو "العسكرة" الأمريكية للفضاء و"السيطرة" عليه، إذ اعتبرت الصين في كتابها الأبيض للدفاع لعام 2019 أن الأنشطة الأمريكية "تقوض الاستقرار الاستراتيجي العالمي"، وتدفعها لـ"الحصول على قدرات إضافية في مجالات الدفاع النووي والفضاء الخارجي والسيبراني والصاروخي". بموازاة ذلك، أدرجت موسكو التهديد المتمثل في "استكشاف الفضاء" في أحدث استراتيجية للأمن القومي الروسي، كما أدانت أيضاً عسكرة الفضاء من قبل واشنطن، معتبرة أنها "انتهاك للقانون الدولي".

في هذا الإطار، تناولت مؤسسة "راند" الأمريكية تقييم تصورات روسيا والصين للأنشطة العسكرية الأمريكية في مجال الفضاء في تقرير بعنوان "الرؤى الصينية والروسية واستجاباتها للأنشطة العسكرية الأمريكية في مجال الفضاء"، وسعى التقرير لفهم كيف تطورت التصورات الصينية والروسية للأنشطة العسكرية الأمريكية في الفضاء؟ وما ردود فعل الدولتين لمواجهة هذه الأنشطة؟

استند التقرير في تقييمه على المنشورات الحكومية الصينية والروسية، والمجلات العسكرية، والتقارير الأكاديمية، ووسائل الإعلام المحلية المكتوبة باللغة الأم للبلدين. وتم اختيار عينة تمثيلية من "الأحداث" الأمريكية في مجال الفضاء لتحليلها، بدءاً من مبادرة الدفاع الاستراتيجي (1983) وإنشاء قيادة الفضاء الأمريكية (1985)، مروراً باختبار الليزر الكيميائي المتقدم بالأشعة تحت الحمراء "MIRACL" (1997)، وعملية "Burnt Frost" (2008) وحتى برنامج التوعية بالظروف الفضائية المتزامنة مع الأرض "GSSAP" (2014). واستثنى التقرير الأنشطة الفضائية المدنية الأمريكية، كالاستخدام التجاري للفضاء، واستكشاف الفضاء، ورحلات الفضاء البشرية وغيرها.

هل التهديد حقيقي؟ 

يشير تقرير "راند" إلى أن مراجعة المصادر الأولية الروسية والصينية تعكس تصوراً مستداماً لديها بأن الأنشطة العسكرية الأمريكية المتعلقة بمجال الفضاء مهدِّدة وتشي بنية الولايات المتحدة العدائية، وتتوافق هذه النتيجة مع الحجة القائلة إن الدول تميل إلى المبالغة في تقدير قدرات خصومها. وهو ما يساعد على فهم سبب نظرة الصين وروسيا للأنشطة العسكرية الأمريكية في مجال الفضاء على أنها تهديد، وأن هذا التصور كان السرد المتسق الذي انعكس في المصادر الأولية باللغة الأم منذ مبادرة الدفاع الاستراتيجي.

ويبدو أن تصرفات الولايات المتحدة يتم تفسيرها من خلال عدسة "حالة العلاقة في وقت معين"، فعندما تكون العلاقات السياسية بين واشنطن وبكين أو موسكو أكثر تصادماً يُنظر إلى الإجراءات نفسها على أنها أكثر تهديداً. وفي المقابل، عندما تكون هذه العلاقات أكثر ودية "نسبياً"، لا يُنظر إلى الإجراءات المماثلة على أنها تهديد. علاوة على ذلك، ففي حين أن تصور التهديد كان ثابتاً بمرور الوقت، إلا أنه كان هناك تعميق للشعور بالعداء منذ عام 2008، بعد إصدار سياسة الفضاء الوطنية لعام 2006 وعملية "Burnt Frost" أو "الجليد المحترق" التي أسقطت فيها سفينة حربية أمريكية قمراً اصطناعياً معطلاً.

وبالرغم من أن التحليلات الصينية والروسية التي تمت مراجعتها أشارت إلى نهج تعاوني أكثر إيجابية تجاه الفضاء من قبل إدارتي كلينتون وأوباما، إلا أنها ما زالت تركز على الاستمرارية المتصورة لسياسة الفضاء العسكرية الأمريكية العدائية والعدوانية، ويوضِّح ذلك أن التصورات السلبية الموجودة في بكين وموسكو يمكن تعزيزها بسهولة نسبياً من خلال الإجراءات الأمريكية التي يُنظر إليها على أنها عدائية، في حين أن الإجراءات الأمريكية التي يُنظر إليها على أنها غير عدائية ليست ذات تأثير قوي مماثل، مما ينتج عنه تحسن طفيف في التصورات الصينية والروسية.

بصفة عامة، يبدو أن العامل الرئيسي الذي يشكِّل التصورات الصينية والروسية للتهديد الأمريكي هو الإمكانات العسكرية طويلة المدى للأنشطة الأمريكية المختلفة المتعلقة بالفضاء بدلاً من التأثير المباشر لنشاط أو سياسة معينة في ذلك الوقت. وتعمل الصين وروسيا على التحوط من رهاناتهما على أن التكنولوجيا قد تحقق في النهاية النيات المتوقعة للولايات المتحدة لعسكرة الفضاء. فعلى سبيل المثال، يبدو أن المصادر الروسية التي شملها البحث تجاهلت الجدوى الفنية لمبادرة الدفاع الاستراتيجي في وقت تطويرها، لكنها مع ذلك أعربت عن قلقها بشأن الآثار المترتبة على مثل هذه المبادرة، أي أنها تشير إلى أن الولايات المتحدة تسعى إلى عسكرة الفضاء.

ووفقاً لتقرير "راند"، هنالك محركان رئيسيان يقودان التصور الصيني والروسي للتهديد، الأول، أنهما ينظران إلى الأنشطة العسكرية الأمريكية في الفضاء على أنها تهديد للردع النووي لكل منهما. والثاني، أنهما قلقتان بشأن نيات وقدرات واشنطن في الفضاء المضاد، مثل عملية "Burnt Frost"، وكذلك بشأن قدرة الأقمار الاصطناعية الأمريكية على الطيران عن كثب وسرية، فضلاً عن القلق أيضاً بشأن نيات وقدرات الوعي بمجال الفضاء الأمريكي الأوسع، مثل "GSSAP".

وفي حين أن البعض قد يجادل بأن هذه التصورات ليست حقيقية، أي مجرد دعاية لإثارة وجود تهديد أمريكي، فإن الاتساع الهائل للمواد الروسية والصينية التي تم الاعتماد عليها في هذا التقرير واتساقها الواسع بمرور الوقت يشير بقوة إلى أن هذه المخاوف تعكس اتفاقاً بالإجماع داخل حكومتي بكين وموسكو. بغض النظر عما إذا كان المحللون الأمريكيون يتفقون مع هذه التصورات الأجنبية أم لا، إذ يجب عليهم قبولها على أنها حقيقية وأن يأخذوها في الاعتبار عندما يفكرون في الأنشطة المستقبلية.

طبيعة ردود الفعل

في حين أن ثمة تصوراً لروسيا والصين بأن الأنشطة الأمريكية في الفضاء تعد تهديداً، إلا أنه من الصعب تحديد ما إذا كانت ردود الفعل العامة الصينية والروسية مبالغاً فيها عن قصد. أحد الأمثلة التي تشير إلى وجود قدر من الخطاب المتضخم عن قصد هو السرد الذي قدمه أحد المحللين الروس فيما يتعلق بعملية Burnt" "Frost في مقال شدد فيه المؤلف على الندرة النسبية لقمر اصطناعي معطل، حيث استخدم هذه الملاحظة لاستنتاج أن الوضع قد يشير إلى عدم كفاءة برنامج الفضاء الأمريكي، مع عواقب وخيمة على المجتمع الدولي. 

بينما في مقال لاحق كتبه المؤلف نفسه، جادل بأن الحادث كان ذريعة لاختبار أسلحة الهجمات الفضائية، إذ أكَّد أن الولايات المتحدة بالغت عمداً في تضخيم المخاطر المحتملة لتبدو وكأنها "منقذ" للبشرية بدلاً من معتد محتمل.

وبحسب تقرير "راند"، يبدو أن الصين وروسيا تحاولان تحقيق توازن خطابي حساس من خلال الحجج الدقيقة التي تصف تصرفات الولايات المتحدة بأنها تهديد بينما تصف أفعالهما المتشابهة بأنها غير مهددة. على سبيل المثال، فعلى الرغم من أن بكين لطالما انتقدت عسكرة الفضاء الأمريكية، دافعت وزارة الخارجية الصينية عن اختبار بكين للأقمار الاصطناعية لعام 2007، بعد 12 يوماً من الواقعة، قائلة إنه "لم يكن موجهاً إلى أي دولة ولا يشكل تهديداً لأي دولة". 

من جانبها، تصف روسيا تصرفات الولايات المتحدة في الفضاء بأنها عدائية وعدوانية بشكل متزايد، مع التركيز على إجراءات محددة، مثل اختبار "MIRACL" وعملية "Burnt Frost"، ويركز التوازن الروسي على إدانة واشنطن باعتبارها عدوانية في الفضاء، بينما تدَّعي روسيا أنها قوة فضائية متساوية لا تخشى الولايات المتحدة، فترى روسيا بالتالي أن أفعالها لا تشكل تهديداً، وأنها تأتي لمساعدة المجتمع الدولي، باستخدام براعتها التقنية في ارتياد الفضاء لمواجهة تحركات الولايات المتحدة لعسكرة الفضاء.

دورة الاستجابة

لدى كل من واشنطن وبكين وموسكو ميل عام للإشارة إلى الجانب الآخر على أنه تهديد تتطلب أفعاله رداً، مما يديم دورة فعل ورد فعل يمكن التنبؤ بها إلى حد ما، على الرغم من أن ظهورها علناً قد يستغرق وقتاً طويلاً. فمن خلال الأحداث الأخيرة، مثل استراتيجية الفضاء الوطنية الأمريكية لعام 2018، وإنشاء قوة الفضاء الأمريكية "USSF"، والخطاب الأكثر عدوانية الذي استخدمه قادة القوات الجوية الأمريكية، يستنتج تقرير "راند" أن الولايات المتحدة تتفاعل ببساطة مع تصرفات الصين وروسيا.

عرض لواء أمريكي وجهة نظر مفادها أن الولايات المتحدة كانت بحاجة إلى إجراءات أكثر عدوانية لضمان أن تظل واشنطن دائماً المفترس وليست الفريسة عندما يتعلق الأمر بالتنافس والردع والفوز في المجال الفضائي، وبالفعل قدمت ميزانية السنة المالية 2019 أكبر إنفاق على الفضاء منذ عام 2003، حيث وفرت التمويل لضمان تحقيق تصور أن تكون مفترساً لا فريسة.

وعلى الرغم من صعوبة الوصول إلى أي نوع من الاستنتاجات القاطعة حول ما إذا كانت الإجراءات الصينية أو الروسية في الفضاء قد تم اتخاذها رداً على الإجراءات الأمريكية السابقة أو الأحدث، إلا أن هناك بعض المؤشرات على أن الإجراءات الأمريكية السابقة قد أثرت في تصورات بكين وموسكو لأنشطة الولايات المتحدة الحالية، تماماً كما أثرت الإجراءات الصينية والروسية السابقة في واشنطن. 

على سبيل المثال، يستشهد المسؤولون في روسيا والصين بالأنشطة الفضائية الأمريكية لدعم الحجج السياسية المحلية بشأن الموارد والتمويل وتحديد أولويات أنشطتها المتعلقة بالفضاء. علاوة على ذلك، فإن المصادر الصينية والروسية التي تمت مراجعتها تصف الولايات المتحدة باستمرار بأنها "المحرك الأول"، في حين أنهم يحاولون ببساطة اللحاق بالركب لمواجهة جهود الولايات المتحدة لتحقيق السيادة العسكرية. ويتم تقديم هذا المنظور في كل من الكتابات الخارجية الروسية والصينية سواءً (باللغة الإنجليزية) والداخلية (باللغة الأم).

المصدر

Alexis A. Blanc, Nathan Beauchamp-Mustafaga, Khrystyna Holynska, M. Scott Bond, Stephen J. Flanagan, Chinese and Russian Perceptions of and Responses to U.S. Military Activities in the Space Domain, the RAND Corporation, 2022.