حماية الحلفاء:

دروس أمريكية للتعامل مع طموح بكين للانتشار العسكري

23 February 2023


عرض: محمود إبراهيم

يُعد حق الوصول العسكري وإنشاء قواعد عسكرية خارج البلاد عنصراً حاسماً في الطموحات العسكرية العالمية للصين، فمع افتتاح أول قاعدة عسكرية خارجية لها في جيبوتي في عام 2017، بدا أن بكين تتخذ خطوة كبيرة نحو استعراض قوتها عالمياً. وتظل التداعيات الاستراتيجية لمثل هذا التمركز خارج الحدود المباشرة للصين محل نقاش في الولايات المتحدة، إذ حذَّر بعض المراقبين من مخاطر إقامة قواعد صينية في الخارج، بينما قال آخرون إن الصين لم تُظهر أي علامات على أنها أصبحت فاعلاً عسكرياً "تقليدياً" في مناطق بعيدة عن شواطئها.

في هذا التقرير الصادر عن مؤسسة "راند" الأمريكية في عام 2022 بعنوان "الآثار المترتبة على جيش التحرير الشعبي العالمي.. الدروس التاريخية للاستجابة لطموحات الصين العالمية طويلة المدى في التأسيس"، ينظر المؤلفون إلى دراسات حالة تاريخية لقوى منافسة للولايات المتحدة للمساعدة في توقع الشكل الذي قد يبدو عليه وصول الصينيين عسكرياً إلى الخارج، ثم يطرحون من خلال ذلك، كيف تتعامل الولايات المتحدة مع طموح الصين للانتشار عسكرياً في العالم؟

دراسات حالة للمنافسين 

ركز تقرير "راند" على ثلاث دراسات حالة بشأن الوصول العسكري إلى الخارج والقواعد العسكرية لمنافسي الولايات المتحدة، وذلك لفهم كيفية تصور القوى الكبرى في الماضي للقواعد العسكرية الاستراتيجية واستخدامها، والمتمثلة في:

1) القواعد الفرنسية في إفريقيا: أقامت فرنسا في عهد الرئيس شارل ديغول (1959-1969) العديد من الاتفاقيات الدفاعية والعسكرية الثنائية مع مستعمراتها السابقة المستقلة حديثاً، إذ حافظت على قواعد عسكرية دائمة ومؤقتة في غرب وشرق إفريقيا، وأسهمت الأنشطة العسكرية الفرنسية في هذه الفترة في الحفاظ على استقرار هذه الدول، وضمنت حماية المصالح الاقتصادية الفرنسية.

وكانت سياسة إنشاء القواعد الفرنسية في إفريقيا تحت حكم ديغول مدفوعة بمجموعة من الاعتبارات الاقتصادية واعتبارات الهيبة والدعم الدبلوماسي، وهو ما يماثل أهداف السياسة الصينية الحالية تجاه إفريقيا، وكذلك اعتمدت فرنسا على الحوافز الاقتصادية والتفوق العسكري للحفاظ على مكانتها البارزة في دول إفريقيا الناطقة بالفرنسية، مثلما تعتمد الصين حالياً على الحوافز الاقتصادية في جزء كبير من نفوذها.

وتمثل العلاقات الأمريكية الفرنسية في إفريقيا مزيجاً معقداً من ديناميكيات المنافسة والتعاون، فمن ناحية استخدمت فرنسا موقعها المهيمن في دول إفريقيا الناطقة بالفرنسية لتقليل نفوذ الولايات المتحدة في هذه المنطقة، ومن ناحية أخرى فإن المصلحة المشتركة للولايات المتحدة وفرنسا في منع انتشار الشيوعية في إفريقيا أسهمت في قدر لا بأس به من التعاون، وبالمثل تشترك الولايات المتحدة والصين في بعض المصالح في إفريقيا تشمل معالجة التغير المناخي، ومكافحة الإرهاب العابر للحدود والقرصنة البحرية، وإدارة أزمات الصحة العامة.

2) القواعد السوفيتية في البحرين المتوسط والأحمر: خلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، سعى الاتحاد السوفيتي آنذاك إلى منافسة الامتداد العسكري للولايات المتحدة، وللقيام بذلك تطَّلب الأمر شبكة من القواعد العسكرية وأشكال أخرى من الوصول العسكري، وتمكن الاتحاد السوفيتي بين خمسينيات وسبعينيات القرن الماضي من تطوير قواعد في أمريكا اللاتينية وإفريقيا والشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا.

ومن خلال هذه الشبكة، تمكن السوفيت حينذاك من ممارسة نفوذهم، ومع ذلك، ففي كثير من الحالات حدث نوع من النفور بين الاتحاد السوفيتي والدول التي سعى إليها كشركاء، وفي حالات أخرى أثار معارضة نشطة من القوى الإقليمية التي هددها التوسع السوفيتي، وفي بعض الحالات تورط في صراعات محلية مكلفة كان يسعى إلى تجنبها.

وتعد المقارنات بين الاتحاد السوفيتي والصين بعيدة تماماً عن الدقة، فالصين لديها اقتصاد أكبر بكثير مما كان عليه الاتحاد السوفيتي، سواءً من حيث القيمة المطلقة أو بالنسبة إلى اقتصاد الولايات المتحدة، وبالتالي سيكون لدى الصين مجموعة متنوعة من أدوات النفوذ أوسع بكثير، كما أن الصين مندمجة بشكل مكثف في الاقتصاد الرأسمالي العالمي أكثر مما كان عليه الاتحاد السوفيتي، مما يخلق بدوره بعض الحوافز للحفاظ على علاقة أكثر إيجابية مع الولايات المتحدة.

3) القواعد الروسية في سوريا: عندما تدخلت روسيا في الحرب الأهلية السورية في سبتمبر 2015 أنزلت قوات في قاعدة طرطوس التي ورثتها البحرية الروسية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وبدأت أيضاً العمل من القاعدة الجوية في حميميم، وكان الوجود العسكري الروسي المستمر في سوريا عنصراً مركزياً في تدخلها في الحرب لصالح نظام الأسد. وفيما يخص الولايات المتحدة فقد واجهت الأنشطة الروسية بشكل مباشر الجهود الأمريكية المتواصلة لدعم قوات المعارضة التي تقاتل نظام الأسد، وزادت من تعقيد تنفيذ العمليات ضد قوات تنظيم «داعش» في سوريا.

وعلى الرغم من الاختلافات العديدة بين الصين وروسيا، فإن حالة القواعد الروسية في سوريا مفيدة لتوقع الديناميكيات المحتملة المتعلقة بالتمركز الصيني في الخارج، حيث تقدم نظرة ثاقبة على الظروف التي يمكن أن تكسب بموجبها الدول المزيد من حقوق إنشاء القواعد، والأسباب التي قد تجعلها تسعى إلى ذلك، وما الذي يمكن أن تفعله بها، إلى جانب دراسة الطرق التي استخدمت بها روسيا قواتها في سوريا، وكيف عملت على مقربة شديدة من القوات الأمريكية.

دوافع إقامة القواعد العسكرية 

قد يكون الدافع وراء إقامة قاعدة عسكرية في الخارج هجومياً أو دفاعياً أو كليهما، وبالنسبة لبلد يسعى إلى التنافس مع الولايات المتحدة تسمح القواعد بالوجود المستمر، والتعرف إلى المنطقة، والقدرة على التدخل في الأزمات على نطاق أوسع وبسرعة أكبر من أي وقت آخر، وتوفر القواعد في الخارج القدرة على شن عمليات قتالية واسعة النطاق على مسافات بعيدة من الدولة التي أنشأت القاعدة.

وتعد الأشكال البسيطة أو الانتقالية أو المؤقتة للوصول العسكري والتي تتراوح من السماح بالتحليق العسكري إلى إعادة إمداد السفن الحربية وتشغيل المنشآت العسكرية الصغيرة شائعة نسبياً في السياسة الدولية، ومن ناحية أخرى فإن القواعد العسكرية الخارجية الدائمة على نطاق واسع نادرة، وما لم يتم الحصول عليها عن طريق الغزو فإن حقوق إقامة القواعد هذه لا تمنح عادة إلا من قبل البلدان التي تواجه حالات انعدام أمن داخلية أو خارجية حادة مقابل مساعدة أمنية واسعة النطاق أو ضمانات أمنية.

مع ذلك، إذا لم تكن مصالح السياسة الخارجية للدولة المقيمة للقواعد والدولة المضيفة متوائمة بشكل وثيق فإن مثل هذه الدول المضيفة غير المستقرة ستشكل مخاطر كبيرة على الدولة المقيمة للقواعد، بما في ذلك فقدان تلك القواعد عند تغير الظروف الاستراتيجية أو السياسية التي تستند إليها، أو الانخراط في النزاعات المحلية. 

مخاطر الانتشار الصيني

تم تجميع الدول التي تستهدفها الصين في مستويين: تمثل دول المستوى الأول دولاً مضيفة مرغوبة للغاية وذات جدوى كبيرة، وتشمل: باكستان، وبنغلاديش، وميانمار، وكمبوديا، بينما سجلت دول المستوى الثاني درجات أقل من دول المستوى الأول في مدى الرغبة أو الجدوى أو كليهما، ومن أبرزها، تايلاند ولاوس وإندونيسيا في جنوب شرق آسيا، وأوزبكستان وقيرغيزستان وطاجيكستان في آسيا الوسطى، وإيران ولبنان واليمن في الشرق الأوسط، وجيبوتي وكينيا وتنزانيا وأنغولا والغابون وغينيا الاستوائية في إفريقيا.

وتتسم معظم المناطق التي تسعى الصين للوجود العسكري فيها بعدم الاستقرار أو وجود منافسات عسكرية مع دول إقليمية أخرى، ويمكن أن تتفاقم حالة عدم الاستقرار هذه بسبب جهود الصين لكسب قواعد خارجية، وقد تؤدي الجهود الصينية أيضاً إلى تعجيل الصراع العنيف، لاسيما في مناطق مسؤولية القيادة المركزية الأمريكية والقيادة الأمريكية في إفريقيا.

ولا تزال الصين تواجه عجزاً كبيراً في قدرات استعراض القوة مقارنة بالولايات المتحدة. ومن حيث حجم ونطاق وجودها الخارجي المستقبلي، فمن غير المرجح أن تتمكن الصين من سد هذه الفجوة بالكامل في العقدين المقبلين بالمستوى الحالي للإنفاق الدفاعي، لذلك فإن العديد من المخاطر التي تشكلها الصين على الولايات المتحدة قد تكون غير مباشرة، فمثلاً إذا كانت الصين ستوفر قدرات عسكرية متقدمة لدول أخرى مقابل الوصول العسكري، فإن هذه القدرات يمكن أن تعقد بشكل كبير التخطيط الدفاعي للولايات المتحدة.

ماذا تفعل واشنطن؟ 

هناك ميل طبيعي بين العديد من صناع القرار والمخططين العسكريين في الولايات المتحدة لمحاولة إحباط جهود الدول المنافسة لزيادة وصولها العسكري وقواعدها العسكرية، وتشير دراسات الحالة التي تم فحصها في تقرير "راند" إلى أنه في ظل الظروف العادية قد تكون الولايات المتحدة قادرة على إبطاء مكاسب المنافسين من الوصول العسكري والقواعد ورفع تكاليفهم، وربما دفع المنافسين من مواقع مرغوب فيها إلى مواقع أخرى أقل جاذبية.

لكن قدرة الولايات المتحدة على منع الوصول العسكري بالكامل محدودة، لذلك تحاول بشكل روتيني استخدام التعاون الأمني كوسيلة لبناء العلاقات والحفاظ على الوصول العسكري، وتشير الحالات التاريخية مع ذلك إلى وجود مخاطر مرتبطة بالاعتماد المفرط على بعض أشكال التعاون الأمني عند العمل مع دول شريكة غير مستقرة، ففي الماضي عندما تنافست القوى الكبرى على الوصول العسكري إلى المناطق غير المستقرة من خلال تقديم الأسلحة والقدرات العسكرية الأخرى نشبت حروب أهلية في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى استقطبت قوى خارجية، ويبدو أن فرص الدبلوماسية الأمريكية تزداد عندما تكتسب قوة أجنبية وجوداً عسكرياً متزايداً في منطقة ما، وخاصة عندما تبدأ في ترجمة تلك الإمكانات العسكرية إلى أفعال.

في ضوء ذلك، أوصى تقرير "راند" في ختامه الحكومة الأمريكية بإعطاء الأولوية للأماكن التي ينبغي مقاومة وصول الصين عسكرياً إليها أو تأسيس قواعد فيها، وكذلك الأماكن التي يتم تعزيز العلاقات الأمريكية معها، مع الأخذ في الاعتبار حجم المصالح الأمريكية، وعمق العلاقة بين الولايات المتحدة وشريك معين، واحتمال زعزعة الاستقرار. ودعا التقرير أيضاً إلى عدم اللجوء إلى جهود العسكرة المفرطة لمنع الصين من الوصول العسكري وإقامة قواعد، مع التأكيد في الرسائل العامة على موضوعات السيادة الوطنية أو تاريخ الصين في استخدام قوتها للضغط على الدول الأضعف، وكذا القيام بمبادرات للحد من اعتماد الدول المضيفة المحتملة على الصين.

في الوقت ذاته، أكد التقرير أهمية الحفاظ على الانتشار العسكري الأمريكي المسبق في المناطق الرئيسية، لأنه إذا أدى توسيع الوجود العسكري الصيني إلى تفاقم الانقسامات في المناطق غير المستقرة، فقد يساعد الانتشار العسكري الأمريكي المسبق في حماية الدول المهمة بالنسبة للولايات المتحدة. 

واقترح أيضاً دراسة مخاطر الوجود العسكري المتزايد للجيش الصيني عند التخطيط للتعاون الأمني، إذ يمكن أن تؤدي الزيادة الكبيرة في الدعم العسكري الأمريكي لدولة شريكة إلى جعل جيران هذه الدولة يشعرون بالتهديد، وقد يدفعهم ذلك إلى السعي للحصول على الدعم الصيني؛ مما قد يوفر لبكين نوعاً من الوصول العسكري الذي تسعى الولايات المتحدة إلى منعه. وأخيراً، دعا تقرير "راند" واشنطن إلى الحفاظ على قدراتها العسكرية في النزاعات الأقل حدة لحماية حلفائها وشركائها من التهديدات الإقليمية التي يُحتمل أن تتضخم بسبب القواعد الصينية الخارجية.

المصدر:

Stephen Watts, Scott Boston, and Others, Implications of a Global People’s Liberation Army, Historical Lessons for Responding to China’s Long-Term Global Basing Ambitions, The RAND Corporation, 2022.