ملفات عالقة:

أبعاد القضايا الأمنية التي ناقشها حميدتي في زيارته لجنوب السودان

02 January 2023


قام نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني، محمد حمدان دقلو "حميدتي"، في 27 ديسمبر 2022، بزيارة إلى جنوب السودان، على رأس وفد أمني واستخباراتي رفيع، حيث عقد مباحثات مطولة بشأن العديد من الملفات الأمنية والحدودية مع الرئيس سيلفاكير ميارديت والمسؤولين في جوبا.

لقاءات جوبا:

استغرقت زيارة الوفد السوداني إلى جوبا ساعات قليلة، حيث عُقدت خلالها لقاءات مكثفة مع المسؤولين في جنوب السودان، فضلاً عن الاجتماع المغلق الذي أجراه حميدتي مع الرئيس سيلفاكير، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:

1- مباحثات أمنية: عكست طبيعة الوفد المرافق لحميدتي في زيارته إلى جنوب السودان محورية البعد الأمني في جدول أعمال هذه الزيارة، حيث تضمن الوفد السوداني مدير جهاز المخابرات العامة، الفريق أول أحمد إبراهيم مفضل، ومدير هيئة الاستخبارات العسكرية، اللواء محمد علي صبير، فضلاً عن رئيس دائرة الاستخبارات بقوات الدعم السريع، اللواء الخير عبد الله. فيما حضر هذه اللقاءات من الجانب الآخر، كل من مستشار رئيس جنوب السودان، توت قلواك، ورئيس هيئة أركان الجيش، سانتينو دينق وول، ومديرا جهازي الأمن الداخلي، الجنرال أكول كور، والخارجي، سايمون يت مكواج. 

وتضمنت الزيارة بحث عدة ملفات أمنية مشتركة بين البلدين، لعل أبرزها تنفيذ اتفاقية جوبا للسلام، بين الخرطوم والحركات المسلحة في السودان، فضلاً عن بحث ملف ترسيم الحدود وفتح المعابر الحدودية بين الجانبين، والتي لا تزال محل نقاش بينهما منذ انفصال جنوب السودان في 2011، لاسيما الخلافات المتعلقة بتبعية منطقة أبيي النفطية.

ومن ناحية أخرى، تضمنت زيارة حميدتي بحث مستجدات اتفاق السلام المبرم بين أطراف الصراع في جنوب السودان عام 2018، والذي توسط فيه حميدتي، وأنهى الحرب الأهلية التي شهدتها البلاد لمدة خمس سنوات، وأسفرت عن مقتل نحو 400 ألف شخص، بيد أن تنفيذ بنود هذه الاتفاقية واجه تحديات، بسبب استمرار الخلافات بين رئيس جنوب السودان، سيلفاكير، ونائبه، رياك مشار. 

وشهدت الأشهر الأخيرة بعض التقدم في تنفيذ الاتفاق، خاصةً بعدما تم توقيع اتفاق بين الجانبين في جوبا، في أبريل 2022، فضلاً عن انضمام نحو 22 ألف من المتمردين السابقين إلى القوات الحكومية، في أغسطس الماضي. وبالتالي استهدفت زيارة حميدتي التشاور مع القيادة السياسية والعسكرية في جنوب السودان حول تنفيذ بنود اتفاق السلام كافة، في ظل القلق الدولي الراهن بعد تمديد قادة جنوب السودان للفترة الانتقالية لمدة عامين إضافيين، حيث كان يفترض أن تنتهي الفترة الانتقالية في ديسمبر الماضي.

2- مصالح اقتصادية مشتركة: تضمنت زيارة حميدتي إلى جوبا عدداً من الملفات الاقتصادية التي تم بحثها خلال هذه الزيارة، لعل أبرزها ما يتعلق بتخصيص ميناء بحري على شاطئ البحر الأحمر لجنوب السودان، حيث ناقش الطرفان إحياء تخصيص الخرطوم هذا الميناء لجوبا، بيد أن الطرفين لم يعلنا صراحةً عن مخرجات هذه المشاورات، وما إذا كانت قد أفضت إلى اتفاق بين البلدين من عدمه.

وأنطوت الاجتماعات كذلك على بحث أوضاع السودانيين المقيمين في جوبا، وفي هذا الشأن، تم التوصل إلى اتفاق بموجبه سيتم التعامل مع المواطنين السودانيين باعتبارهم مواطنين عاديين وليس كأجانب.

سياقات متشابكة: 

رجحت العديد من التقديرات وجود أهداف غير معلنة للزيارة، لاسيما أنها تأتي في ظل متغيرات عديدة على المشهد الداخلي في السودان وجنوبها خلال الفترة الأخيرة، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:

1- تصاعد العنف في أعالي النيل: شهدت ولاية أعالي النيل بجنوب السودان تصاعداً في وتيرة العنف خلال الفترة الأخيرة، وذلك على خلفية الصدامات بين الميليشيات المحلية الموجودة هناك، وهو ما تمخض عنه موجة نزوح واسعة لعشرات الآلاف من المواطنين الجنوبيين باتجاه السودان، ودفع العديد من الدول الغربية، بما في ذلك دول الترويكا التي رعت استقلال جوبا في 2011، إلى التعبير عن قلقها من تصاعد التوترات هناك، داعيةً السلطات في جنوب السودان إلى ضرورة اتخاذ اجراءات عاجلة لوضع حد لهذا العنف. وعبر سيلفاكير عن انزعاجه من هذا العنف خلال لقائه بحميدتي والوفد الأمني السوداني، مؤكداً أنه ستتم محاسبة المتورطين في أعمال العنف.

2- توقيع اتفاق إطاري في الخرطوم: وقع المكونان المدني والعسكري في السودان على اتفاق إطاري في مطلع ديسمبر 2022، بغية تسوية الأزمة السياسية هناك. ويقضي الاتفاق بخروج المكون العسكري من العملية السياسية، ودمج قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، إلى جانب بقية الحركات المسلحة، في مؤسسة الجيش السوداني، بيد أن هناك عدداً من الحركات المسلحة، الموقعة على اتفاق جوبا للسلام، الذي تم إبرامه في أكتوبر 2020، رفضت الاتفاق الإطاري، وذلك بسبب تضمن أحد بنوده الإشارة إلى ضرورة مراجعة اتفاقية جوبا للسلام، وهو ما ترفضه هذه الحركات.

3- تدهور الأوضاع في دارفور: شهدت الأشهر الأخيرة تفاقم الأوضاع الأمنية في إقليم دارفور السوداني، في ظل تصاعد وتيرة الغضب من قبل نشطاء وسياسيين في الإقليم من الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق "جوبا للسلام" في أكتوبر 2020 مع الحكومة السودانية، إذ تتهم هذه الحركات بالتخلي عن المطالب التقليدية للإقليم والعمل على تحقيق مصالحها الشخصية، فقد انطوى الاتفاق على ثمانية بروتوكولات تعالج دمج الحركات في الجيش السوداني، والعدالة الانتقالية واعادة توزيع الثروة وحلحلة أزمة النازحين واللاجئين وغيرها من القضايا، والتي لم يتم تنفيذ أي منها، باستثناء البرتوكول الخاص بتقاسم السلطة بين الحركات المسلحة والحكومة، حيث تم دمج هذه الحركات في مجلسي السيادة والوزراء، وهو ما تمخض عنه انتقال الصراع من النزاع بين القوات الحكومية والحركات المسلحة المتمردة، إلى صراعات داخلية متزايدة فيما بينها.

ورصدت بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المراحل الانتقالية في السودان "يونيتامس" خلال الأسبوع الأخير تصاعداً حاداً في وتيرة العنف في ولاية جنوب دارفور، وهو ما أدى إلى مقتل عشرات الأفراد خلال الأيام الأخيرة فقط، ما دفع مجلس السيادة السوداني إلى إرسال وفد برئاسة حميدتي إلى دارفور، للعمل على حلحلة الأزمة ووقف التصعيد هناك.

ارتدادات إقليمية محتملة: 

يبدو أن هناك جملة من الارتدادات الإقليمية التي تعكسها زيارة حميدتي إلى جوبا، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:

1- تنسيق بشأن الحركات المسلحة: قد تفضي زيارة حميدتي إلى جوبا عن توافقات محتملة بشأن ملف الحركات المسلحة، سواء الموقعة على "اتفاق جوبا للسلام" في أكتوبر 2020، أو التي لم توقع على الاتفاق. وكان جنوب السودان قد قاد عملية الوساطة بين الحركات المسلحة والحكومة السودانية، بيد أن هناك عدداً من الحركات التي رفضت الانضمام للاتفاق، على غرار الحركة الشعبية لتحرير السودان، والتي يقودها عبد العزيز الحلو، وكذا حركة تحرير السودان، بقيادة عبد الواحد محمد نور.

ولاتزال جوبا تحظى بنفوذ كبير على مختلف الحركات المسلحة السودانية، ويعول حميدتي، الذي تربطه علاقات وثيقة بالنخبة الحاكمة في جنوب السودان، على تأثير جوبا على هذه الحركات لإقناع تلك الرافضة للاتفاق الإطاري الموقع مؤخراً بين المكونين المدني والعسكري على الانضمام له، وقبول فكرة إدخال تعديلات على اتفاق السلام لعام 2020، فضلاً عن محاولة الضغط على الحركات المسلحة غير الموقعة على اتفاق جوبا للسلام للانضمام له.

2- انتقال الاضطرابات الإقليمية: قد يمتد الاضطراب الأمني في السودان إلى الجوار الإقليمي، فقد أعلن حميدتي إغلاق الحدود السودانية مع جمهورية أفريقيا الوسطى، متهماً جهات، لم يحددها، بمحاولة تغيير نظام الحكم في بانجي انطلاقاً من الحدود السودانية، مؤكداً فشل هذه المحاولة والقبض على المتورطين فيها كافة. ولم تستبعد هذه التقديرات أن تكون زيارة حميدتي الأخيرة إلى جنوب السودان تضمنت تنسيقاً مشتركاً بشأن ضبط الحدود مع أفريقيا الوسطى كذلك.

3- احتمالية إيجاد تسوية للمعابر: ظلت المعابر الحدودية التسعة بين السودان وجنوب السودان منذ انفصال البلدين عام 2011، وهو ما تمخض عنه أزمة سلعية كبيرة بالنسبة لجوبا، والتي تعتمد على الخرطوم في توفير أكثر من 70 سلعة. وعلى الرغم من محاولة جنوب السودان المتكررة إقناع جارتها الشمالية بفتح المعابر، بيد أن هذه المباحثات ظلت متعثرة لسنوات طويلة.

وتعول الكثير من التقديرات على زيارة حميدتي الأخيرة إلى جوبا في تسوية مشكلة المعابر، لاسيما مع الاتفاق الذي كانت الدولتان قد وقعتاه مؤخراً، والذي يقضي ببدء المعاملات التجارية الرسمية بينهما بنهاية أكتوبر 2022، غير أن تنفيذ الاتفاق تعثر.

ومع اتجاه جوبا خلال الأشهر الأخيرة نحو كينيا وأوغندا لتعزيز التبادل التجاري معهما بدلاً من الخرطوم، فضلاً عن تزايد وتيرة تهريب السلع السودانية إلى الجنوب، اتجهت الخرطوم لإبداء مرونة في هذا الملف، وهو ما انعكس في اتفاقية التعاون المشتركة بشأن المعابر الحدودية التي وقعتها هيئتا الجمارك في الخرطوم وجوبا، في ديسمبر 2022، والتي بموجبها سيتم فتح المعبر البري في "جودة"، والميناء النهري بـ"كوستي"، وبالتالي ربما تفضي زيارة حميدتي إلى جوبا عن مزيد من التقدم في عملية فتح الحدود المشتركة بين البلدين.

وفي الختام، يبدو أن ثمة تخوفاً متزايداً بشأن تأثير الأوضاع الأمنية المتفاقمة على العملية السياسية الراهنة في الخرطوم، في ظل العنف المتزايد في دارفور وشرق السودان، فضلاً عن الغموض الذي بات يهيمن على مستقبل اتفاق جوبا للسلام، بسبب التحديات السياسية والأمنية التي تهدد استمرار الاتفاق، وتفرض اجراء تعديلات على بعض بنوده، وهو الأمر الذي دفع حميدتي لعقد مشاورات مع المسؤولين في جنوب السودان، الذين يشكلون الوسيط في هذا الاتفاق.