أضرار محتملة:

تأثير موجات الطقس الحار على النشاط الزراعي الأوروبي

29 July 2022


شهدت العديد من الدول الأوروبية مؤخراً موجة من الطقس الحار، والتي يفسرها البعض كنتيجة مباشرة للتغيرات المناخية، وتزايد انبعاثات غازات الدفيئة. وفي حين أن موجات الحر التي تتعرض لها أوروبا ليست بظاهرة جديدة، فإن الجديد هو تزايد وتيرة تلك الموجات وطول أمدها، خاصة في دول أوروبا الغربية. وما يمثل خطراً حقيقياً في هذا السياق أن يصاحب تلك الموجات بعض التداعيات السلبية على القطاع الزراعي؛ مثل تضرر إنتاج بعض المحاصيل وجفاف التربة، خاصة إذا ما لم يتم تدارك الموقف عن طريق اتخاذ إجراءات للتكيف مع تلك الموجة، أوالحد من تأثيرها. 

أسباب محتملة:

تشهد العديد من الدول الأوروبية، بما في ذلك إسبانيا وفرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة، ارتفاعاً قياسياً في درجات الحرارة بالآونة الأخيرة، والتي تزيد بنحو 10 درجات مئوية، عن متوسط درجات الحرارة في هذا الوقت بالأعوام السابقة. 

وسجلت درجات الحرارة ببعض المدن الأوروبية مستويات قياسية، متجاوزة 40 درجة مئوية، وذلك لأول مرة على الإطلاق، مما دفع، على سبيل المثال، إصدار مكتب الأرصاد الجوية في المملكة المتحدة أول إنذار أحمر بشأن درجات الحرارة الاستثنائية، والذي يشير للتأثيرات الخطيرة لدرجات الحرارة المُسجلة على الأفراد. ويمكن إيضاح أهم الأسباب الكامنة وراء موجات الطقس الحارة التي تشهدها أوروبا، على النحو التالي:

1- التغيرات المناخية: يٌرجح بعض علماء المناخ أن الظواهر المناخية المتطرفة، ومنها موجات الحر الشديد والجفاف الذي تشهده بعض الدول حالياً، يعود إلى الاحتباس الحراري الأرضي. وباتت درجات الحرارة المتطرفة، التي كانت تحدث مرة كل 10 سنوات، أكثر تواتراً بحوالي ثلاث أو أربع مرات. 

وينجم التغير المناخي، بحسب تيار من العلماء، عن الانبعاثات الكربونية الصادرة عن مختلف الأنشطة الاقتصادية، بما في ذلك حرق الوقود الأحفوري. ومؤخراً، لجأت بعض الدول الأوروبية إلى استخدام الفحم في تشغيل محطات الكهرباء لمواجهة أزمة الطاقة واحتمالية توقف الإمدادات الروسية، مما سيؤدي لزيادة الانبعاثات. 

ويُلاحظ أن انبعاثات غازات الدفيئة قد جعلت درجات الحرارة عالمياً أعلى بحوالي 1.2 درجة مئوية في المتوسط، مقارنة بالمستويات المسجلة في الفترات التي سبقت الثورة الصناعية. وبعكس ذلك، يرى علماء آخرون أن ظروف الطقس الحاد تندرج تحت ما يسمى "دورات المناخ الطبيعة".

2- دوران الغلاف الجوي: يرشح بعض المتخصصين في المناخ أن التيارات النفاثة ضمن الأسباب التي تجعل أوروبا ضمن المناطق المعرضة لموجات الحر الشديدة. وتربط بعض الدراسات بين حدوث موجات الحر وبين التيارات النفاثة في نصف الكرة الشمالي، وهو عبارة عن تيار من الهواء المتدفق ذي سرعة عالية للغاية، إذ تتسبب في ارتفاع درجات الحرارة عندما يقوم بتكوين مناطق من الهواء ذي الضغط العالي والرياح الضعيفة، مما يؤدي لتراكم موجات حرارية شديدة. وأشارت الدراسات إلى أن تلك التيارات تفسر حوالي 100% من موجات الحرارة التي تشهدها أوروبا الغربية، ونحو 30% من الموجات الحرارية التي تشهدها أوروبا بأكملها.

أضرار القطاع الزراعي: 

تؤثر الظواهر المناخية المتطرفة مثل، الجفاف أو موجات الحر، على عمليات النشاط الزراعي كافة، بما في ذلك إنتاجية المحاصيل. وتشير نتائج بعض الدراسات إلى أن التباين في أحجام إنتاج محصول الذرة والقمح على المستوى العالمي، يمكن تفسيره بتقلب المناخ والظواهر المناخية المتطرفة خلال مواسم النمو. وعليه، فمن المتوقع أن تسفر موجات الحر الشديد عن بعض التداعيات السلبية المباشرة على القطاع الزراعي الأوروبي، وهو ما يُمكن إيضاحه على النحو التالي:

1- جفاف التربة: من المحتمل أن تتسبب موجات الحرارة الشديدة في خفض درجة رطوبة التربة، وجفافها، خاصة في ظل التوقعات بعدم هطول أمطار غزيرة في أوروبا خلال الفترة المقبلة، مما يؤثر سلباً على حجم وجودة المحاصيل التي يتم حصادها، بل وإلى هلاك بعضها. 

ووفقاً لتقرير صادر عن مركز البحوث المشتركة (Joint Research Centre) التابع للمفوضية الأوروبية في يوليو 2022، فإن حوالي 44% من دول الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى المملكة المتحدة، معرضة لمستويات جفاف شديدة. 

كما أوضح الاتحاد الوطني للمزارعين الإيطاليين "كولديريتي" أن قرابة نصف المزارع الإيطالية باتت معرضة لخطر هلاك المحاصيل، نتيجة الجفاف في ظل ارتفاع درجات الحرارة، مما يتسبب في خسائر قد تبلغ حوالي 3 مليارات يورو.

2- استنزاف منسوب المياه الجوفية: ينجم عن موجات الحر الشددية امتصاص الأشجار والنباتات للمياه من أعماق الأرض في محاولتها البقاء على قيد الحياة، مما يؤدي إلى استنزاف منسوب المياه الجوفية الذي تعتمد عليه الدول لدعم القطاعات مختلفة خلال فترات الجفاف.

3- حرائق الغابات: تتسبب موجات الحر في انتشار حرائق الغابات، مما ينجم عنها فقدان الأوراح وإجلاء المواطنين من منازلهم، فضلاً عن تدمير آلاف الهكتارات، والمساحات المزروعة. وقد تسببت الحرائق في بلدان الاتحاد الأوروبي في تدمير أكثر من 500 ألف هكتار خلال عام 2021، ليعد بذلك ثاني أكثر المواسم سوءاً بعد عام 2017، وهو اتجاه قابل للاستمرار في العام الجاري بسبب الطقس الحار.

4- تضرر إنتاج بعض المحاصيل: من المتوقع أن تتضرر إنتاجية عدد من المحاصيل الزراعية في أوروبا في العام الجاري، حيث قد يتراجع إنتاج القمح في فرنسا بنسبة 7% هذا العام. ووفقاً لتقديرات منظمة "جريست" (Grist) من الوارد أن تدمر ظروف المناخ الحارة والجافة في إيطاليا ثلث المحصول الموسمي للأرز والذرة وعلف الحيوانات كحد أدنى. 

ومن المتوقع أيضاً انخفاض إنتاج أوروبا من بعض المحاصيل الجذرية، والتي لا تتحمل الإجهاد الحراري وظروف الجفاف، مثل، البطاطس وبنجر السكر. وضمن أسباب أخرى، خفضت المفوضية الأوروبية مؤخراً تقديراتها لإنتاج محصول القمح من 130 مليون طن إلى 125 مليون طن. كما تتوقع المفوضية تراجع إنتاج الحبوب بشكل عام بحوالي 2.5%، مقارنة بمستويات العام الماضي 2021.

5- تأثُر عمليات نقل المنتجات الزراعية: أدت موجات الحر الشديد إلى انخفاض منسوب المياه في نهر الراين، والذي يتم استخدامه لنقل المنتجات الزراعية وسلع أخرى، مثل الفحم والنفط وإنتاج المواد الكيميائية، مما يؤثر على حركة النقل النهري في أوروبا. وقد يُزيد ذلك من الضغوط على بعض الاقتصادات ومنها: الاقتصاد الألماني؛ نظراً لأن حوالي 80% من نقل البضائع عبر الممرات المائية الداخلية يعتمد على هذا النهر.

 

تداعيات إضافية: 

إلى جانب النشاط الزراعي، من المتوقع أن يتأثر أداء عدد من الأنشطة الاقتصادية داخل أوروبا بسبب ارتفاع درجات الحرارة عن معدلاتها الطبيعية، مما يترك عدداً من الآثار الاقتصادية السلبية على النحو التالي:

1- تراجع الناتج الإجمالي: تشير دراسة لبنك إنجلترا إلى أن كل ارتفاع لدرجات الحرارة عن مستوياتها الطبيعية بنحو 1 درجة مئوية، من شأنه أن ينجم عنه انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.01%، ومرد ذلك تأثر حركة البيع والشراء، وانخفاض إنتاجية العمال وغير ذلك من العوامل.

2- زيادة معدلات التضخم: يوضح البنك المركزي الأوروبي أن درجات الحرارة غير الطبيعية يمكن أن تؤدي إلى ارتفاع التضخم، خاصة بالنسبة للمواد الغذائية. وتتوقع شركة "أليانز" أن ينفق المستهلك الأوروبي العادي 243 يورو إضافية على سلة من المنتجات الغذائية مقارنة بعام 2021، قبل أخذ التضخم الناتج عن موجات الحر في الاعتبار، وهو ما يعني أن التضخم الحالي الذي يعانيه الاتحاد الأوروبي مرشح للزيادة بفعل ارتفاع درجات الحرارة.

3- ارتفاع استهلاك الطاقة: من المتوقع أن تؤدي موجات الطقس الحار لارتفاع استهلاك الكهرباء الناجم عن زيادة تشغيل التكييفات الهوائية أو فقدان التيار الكهربائي. من ناحية أخرى، من المحتمل تراجع منسوب المياه في عدد من الأنهار الأوروبية تأثراً بالحرارة المرتفعة وتراجع معدلات هبوط الأمطار، ولعل من أبرز المتأثرين حالياً نهر بو الإيطالي، والذي سجل منسوبه مستويات قياسية من الانخفاض، مع الأخذ في الاعتبار أن هذا النهر يعتبر مصدراً لمياه للشرب والري والطاقة الكهرومائية.

أما عن فرص تكرار الطقس الحاد، فتشير أغلب التوقعات إلى أن حدوث موجات الطقس الحار سيكون أكثر تواتراً بالقارة الأوروبية في المستقبل القريب، وقد أوضحت بعض التقديرات أن موجة الطقس الحار التي شهدتها أوروبا خلال عام 2019، حيث ارتفعت حينها درجات الحرارة في العديد من الدول الأوروبية، ومنها المملكة المتحدة لتصل إلى مستوى قياسي بلغ 38.7 درجة مئوية، أصبحت أكثر احتمالاً 10 مرات على الأقل. كما تشير بعض الدراسات إلى أن المملكة المتحدة أصبحت أكثر عرضة 10 مرات لارتفاع درجات الحرارة فوق مستوى الـ 40 درجة مئوية. 

ومن ثم، يقتضي ذلك من الحكومات الأوروبية اتخاذ ما يلزم من إجراءات للتعامل مع الظواهر المناخية المتطرفة، كموجات الحرارة الشديدة، والحد من تداعياتها على النشاط الزراعي، وذلك من خلال تعديل هيكل الإنتاج الزراعي، وزراعة محاصيل أكثر مقاومة للحرارة الشديدة والجفاف، جنباً إلى جنب مع تعديل طرق الري، أي بشكل عام التركيز بدرجة أكبر على زيادة مرونة الأنظمة الزراعية، لتصبح أقل عرضة للصدمات المناخية.