صفقة مُحتملة:

دوافع اعتراض تركيا على انضمام السويد وفنلندا لحلف "الناتو"

27 May 2022


تقدمت كل من السويد وفنلندا، في 18 مايو 2022، بطلبين رسميين للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو"، وذلك على خلفية الحرب الروسية – الأوكرانية، إذ ترى الدولتان أن الناتو سيوفر لهما مظلة أمنية لردع موسكو عن القيام بأي عمل عسكري ضدهما. غير أنه منذ اللحظة الأولى لإعلان السويد وفنلندا رغبتهما في الانضمام للحلف، أبدت تركيا اعتراضها، متهمة كلتا الدولتين بدعم التنظيمات "الإرهابية" الكردية، في إشارة لحزب العمال الكردستاني الانفصالي الذي يخوض حرباً ضد الدولة التركية منذ الثمانينيات، لتأسيس منطقة حكم ذاتي للأكراد في جنوب شرق تركيا، وتصنفه أنقرة "منظمة إرهابية"، وكذلك حزب الاتحاد الديمقراطي وذراعه العسكرية "وحدات حماية الشعب" في شمال سوريا، والذي تعتبره تركيا الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني.

 وتسبب الاعتراض التركي في أزمة داخل الناتو، حيث إن منح عضوية الحلف لدولة جديدة يتطلب موافقة كل دوله الأعضاء الـ 30. وفي الوقت ذاته، أبدت أنقرة استعدادها للحوار مع السويد وفنلندا وحلفائها في الناتو، بشأن اعتراضها على انضمام الدولتين للحلف؛ وذلك في مؤشر على أن تركيا تسعى لاستغلال مسألة انضمام ستوكهولم وهلسنكي للناتو للتوصل إلى "صفقة" مع القوى الغربية تحقق بعض أهدافها، وهي الصفقة التي من المرجح أن تتخطى مجرد اتخاذ السويد وفنلندا إجراءات ضد التنظيمات الكردية التي تعتبرها أنقرة إرهابية، لتشمل ملفات أخرى خلافية بين تركيا والغرب.

اعتراض تركيا:

منذ اللحظة الأولى لإبداء السويد وفنلندا رغبتهما في الانضمام لحلف الناتو، خرج الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، يوم 13 مايو 2022، معلناً تحفظ بلاده حيال مسار انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو، مُتهماً الدولتين بإيواء تنظيمات "إرهابية" كردية، قائلاً "لسوء الحظ، الدول الإسكندنافية مثل بيوت ضيافة المنظمات الإرهابية، فمنظمات مثل حزب العمال الكردستاني لجأت إلى السويد وهولندا، وتحدثت في برلماناتهما". وأضاف أردوغان "الحكومات التركية السابقة أخطأت بشأن انضمام اليونان إلى الناتو من قبل، ونعلم مواقف أثينا تجاه تركيا بعد احتمائها بالناتو".

وعقب تقديم الدولتين طلبين رسميين للانضمام إلى الناتو، في 18 مايو، أعلن أردوغان، في اليوم التالي، أن تركيا أبلغت أصدقاءها برفضها انضمام فنلندا والسويد إلى الحلف، وأنها ترى في الدولتين، لاسيما السويد "بؤرة للإرهاب". وأشار أردوغان إلى خروج اليونان من الناتو وعودتها مرة أخرى، قائلاً "لا نتصور أن نلدغ من جحر مرتين، عايشنا ذلك مع اليونان، ونعلم أن السويد وفنلندا ستكرران الأمر ذاته، فلماذا نقع في غفلة كهذه، ليعذرونا، التحالف في الناتو يجب أن يكون كاملاً". 

واستحضار الرئيس أردوغان لنموذج اليونان، وقياسه على حالتي السويد وفنلندا، هو أمر له دلالته، ففي يوليو عام 1974 تدخلت تركيا عسكرياً في شمال قبرص بدعوى "إنهاء اضطهاد القبارصة اليونانيين للقبارصة الأتراك، وقطع الطريق أمام المحاولات اليونانية لضم الجزيرة". واحتجاجاً على عدم تحرك حلف الناتو آنذاك ضد ما اعتبرته اليونان غزواً تركياً، قررت أثينا الانسحاب من الحلف، لكنها قررت العودة والانضمام من جديد إليه في الثمانينيات، ولم تعترض تركيا على ذلك. وترى أنقرة أن ما حدث، آنذاك، كان خطأً تاريخياً، حيث إنه لو رفضت انضمام أثينا لربما كان من الممكن حل العديد من المشكلات معها في شرق المتوسط وبحر إيجة وجزيرة قبرص. إذ ترى تركيا أن اليونان تستقوى بعضويتها في الناتو والاتحاد الأوروبي في مواجهتها. ومن ثم، لا ترغب الحكومة التركية في تكرار ما تعتبره خطأً مع السويد وفنلندا، قبل حل الخلافات معهما أولاً.

البحث عن "صفقة":

تسعى تركيا لاستغلال مسألة انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو للحصول على تنازلات من القوى الغربية في الملفات الخلافية بينهما، عبر الانخراط في عملية تفاوضية تحقق بعضاً من الأهداف التركية. ويتضح ذلك من تصريح وزير الخارجية التركي، تشاووش أوغلو، يوم 14 مايو 2022، بأن "بلاده مستعدة لمناقشة فنلندا والسويد في شأن ترشحهما لعضوية حلف الناتو والأسباب التي تدعو أنقرة إلى معارضة هذا الأمر"، مضيفاً "هناك مسائل يجب أن نناقشها بالتأكيد مع حلفائنا في الناتو وكذلك مع البلدين المعنيين". 

وفي هذا السياق، نقلت وكالة "بلومبرج"، في تقرير لها بتاريخ 17 مايو 2022، عن ثلاثة مسؤولين أتراك قولهم إن أنقرة تشترط للموافقة على انضمام السويد وفنلندا للناتو، رفع الدول الأوروبية القيود المفروضة على تصدير الأسلحة إليها، بالإضافة إلى اعتراف السويد وفنلندا وغيرها من الدول الأوروبية بتهديدات المسلحين المرتبطين بحزب العمال الكردستاني سواء في داخل تركيا أو عبر حدودها في سوريا والعراق.

وفي إطار ما سبق، يمكن تحديد أربعة أهداف رئيسية تسعى تركيا لتحقيقها من مسألة انضمام السويد وفنلندا لحلف الناتو، وهي كالآتي: 


1- وقف الدعم الغربي للأكراد: على الرغم من تصنيف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لحزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية، فإن واشنطن والعديد من الدول الأوروبية قدموا دعماً تسليحياً لـ "وحدات حماية الشعب"، الذراع العسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي، الذي تعتبره أنقرة الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني، في قتالها ضد تنظيم داعش الإرهابي، وهو ما قابلته تركيا برفض شديد. كما تعترض أنقرة على استضافة بعض الدول الأوروبية مكاتب تمثيلية للتنظيمات الكردية، واستقبال أعضائها، والسماح لهم بتنظيم فعاليات سياسية على أراضيهم.

ويبدو أن تركيا تسعى للحصول على أقصى تنازلات من القوى الغربية في هذا الملف، فقد أعلن أردوغان، يوم 23 مايو 2022، أن تركيا ستبدأ قريباً عمليات عسكرية لاستكمال الأعمال التي بدأتاها لإنشاء مناطق آمنة بعمق 30 كيلومتراً، على طول حدودها الجنوبية مع سوريا. وأوضح أن العمليات العسكرية ستبدأ بمجرد انتهاء التحضيرات، وستستهدف المناطق التي تعد مركز انطلاق للهجمات على تركيا؛ في إشارة إلى المناطق التي توجد بها المسلحون الأكراد.

وقال أردوغان إنه سيقوم بإجراء المحادثات اللازمة لضمان سير الأمور على ما يرام، مضيفاً أن "تركيا ستميز مجدداً في هذه المرحلة، بين من يحترمون حساسياتها الأمنية، والذين لا يكترثون سوى لمصالحهم، وأنها ستصوغ سياساتها مستقبلاً على هذا الأساس". وذلك في إشارة إلى الولايات المتحدة وغالبية الدول الأوروبية التي عارضت العمليات العسكرية التي شنتها تركيا ضد المسلحين الأكراد في شمال سوريا، وفرضت عقوبات على أنقرة، في أكتوبر 2019، لإرغامها على إيقاف عمليتها العسكرية "نبع السلام". كما رفضت القوى الغربية دعم فكرة المنطقة الآمنة التي ترغب تركيا في إنشائها لإعادة توطين اللاجئين السوريين فيها.

2- تسليم المنتمين لحركة "الخدمة": عقب الحملة الأمنية التي شنتها الحكومة التركية ضد المنتمين لحركة "الخدمة" بقيادة الداعية فتح الله غولن، بعد اتهامها للحركة بتدبير محاولة الانقلاب الفاشل في يوليو 2016؛ غادر غالبية أعضاء الحركة تركيا هرباً من الملاحقات الأمنية، وكانت أوروبا إحدى الوجهات الرئيسية لهم، ولم تستجب غالبية الدول الأوروبية لطلبات أنقرة بتسليمهم. وقد استحضر أردوغان هذه القضية عند حديثة عن اعتراض بلاده على انضمام فنلندا والسويد لحلف الناتو، حيث قال إن عناصر تنظيم "غولن" يستخدمون اليونان للعبور إلى أوروبا، مضيفاً "اليونان تجاهلت قائمة أسماء إرهابيي غولن التي رفعتها تركيا لهم، ومازالت تواصل حمايتهم حتى الآن". ويُذكر أن العديد من المنتمين لحركة الخدمة، الذين فروا من تركيا، تقدموا بطلبات لجوء في السويد وفنلندا. 

وفي هذا السياق، نقلت "وكالة الأناضول" التركية الرسمية، يوم 16 مايو 2022، عن وزارة العدل التركية أنها طلبت من فنلندا تسليمها 6 "إرهابيين" من "غولن"، و6 آخرين من العمال الكردستاني، في آخر 5 سنوات في ضوء قرارات قضائية صادرة بذلك. كما طلبت من السويد تسليمها 10 "إرهابيين" من "غولن"، و11 "إرهابياً" من العمال الكردستاني، ليبلغ إجمالي الذين طلبت تركيا تسليمهم من البلدين 33 شخصاً. 

3- رفع حظر التسليح عن أنقرة: فرضت بعض الدول الأوروبية، من بينها السويد وفنلندا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والتشيك وإيطاليا وهولندا، قيوداً على تصدير الأسلحة وتكنولوجيا الدفاع إلى تركيا بسبب عمليتها العسكرية ضد المقاتلين الأكراد في شمال سوريا، في أكتوبر 2019. وتشترط أنقرة للموافقة على انضمام السويد وفنلندا للناتو، رفع الدولتين وباقي الأعضاء في الحلف القيود على صادرات الدفاع إلى تركيا. وفي هذا الشأن، شدد وزير الخارجية التركي، في تصريح له يوم 15 مايو 2022، على "عدم قبول فرض دول تريد الانضمام للناتو قيوداً على صادراتها إلى تركيا".

4- الحصول على تنازلات من واشنطن: توجد العديد من الملفات الخلافية بين تركيا والولايات المتحدة، يأتي على رأسها استبعاد واشنطن لأنقرة من برنامج مقاتلات "إف-35"، وفرضها عقوبات على مؤسسة الصناعات الدفاعية التركية؛ بسبب اقتنائها منظومة "إس-400" الدفاعية الروسية. وفي محاولة لحل هذه المسألة، تم الاتفاق، في أكتوبر 2021، على بيع الولايات المتحدة لتركيا نحو 40 مقاتلة من طراز "إف-16"، و80 مجموعة لتحديث طائراتها الحربية الحالية، في مقابل مليار و400 مليون دولار دفعتها للحصول على مقاتلات "إف-35". بيد أن الصفقة تواجه معارضة في الكونجرس، حيث يصر بعض أعضائه على تخلي أنقرة بالكامل عن منظومة "إس-400" الروسية بنقلها لدولة ثالثة أو على الأقل التعهد بعدم تشغيلها، في مقابل تمرير صفقة مقاتلات "إف-16". وفي هذا الإطار، ليس من المستبعد أن توظف تركيا مسألة انضمام فنلندا والسويد للناتو في الضغط على واشنطن لتسريع عملية إقرار تلك الصفقة، ورفع العقوبات عن قطاع الصناعات الدفاعية التركي.

مباحثات مستمرة:

تجري محادثات مكثفة بين تركيا من جهة، والسويد وفنلندا والولايات المتحدة وأعضاء في حلف الناتو من جهة أخرى؛ في مسعى لتلبية بعض مطالب أنقرة، مقابل موافقتها على انضمام ستوكهولم وهلسنكي للحلف. ففي 18 مايو 2022، أجرى متحدث الرئاسة التركية إبراهيم قالن، محادثات هاتفية مع مسؤولين كبار في كل من ألمانيا والسويد وفنلندا وبريطانيا والولايات المتحدة، تناولت مسألة عضوية السويد وفنلندا في الناتو. وبحسب بيان صادر عن مكتب المتحدث بالرئاسة التركية، فقد نقل قالن للمسؤولين تطلعات تركيا بشأن اتخاذ خطوات ملموسة حيال إزالة مخاوفها المتعلقة بأمنها القومي. وأكد قالن أن السماح بوجود عناصر التنظيمات الإرهابية الكردية وتنظيم "غولن" في دول الناتو وباقي البلدان، يعد أمراً غير مقبول. كما أشار إلى تطلعات أنقرة بخصوص رفع القيود على الصادرات في مجال الصناعات الدفاعية، وعدم فرض الحلفاء عقوبات على بعضهم البعض.

وفي اليوم ذاته، عقد وزير الخارجية التركي، تشاووش أوغلو، مع نظيره الأمريكي، أنتوني بلينكن، الاجتماع الأول لـ "لآلية الاستراتيجية التركية - الأمريكية"، في نيويورك، حيث تم بحث مسألة انضمام السويد وفنلندا للناتو، وصفقة مقاتلات "إف-16". وقال أوغلو إن بلينكن أكد أن واشنطن "ستقدم الرسائل اللازمة من أجل تبديد مخاوف تركيا الأمنية بخصوص عضوية السويد وفنلندا في الناتو".

وبحث الرئيس أردوغان، ورئيس وزراء بريطانيا، بوريس جونسون، في اتصال هاتفي يوم 20 مايو 2022، العلاقات الثنائية وطلب انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو. وفي اليوم نفسه، أعلن رئيس الصناعات الدفاعية التركية، إسماعيل دمير، أن لندن رفعت كافة القيود المفروضة على تصدير منتجات الصناعات الدفاعية إلى تركيا. كما بحث أردوغان، الأمر ذاته مع رئيس الوزراء الهولندي، مارك روته. 

أيضاً، عقد أردوغان، يوم 21 مايو 2022، مباحثات هاتفية مع رئيسة الوزراء السويدية، ماغدالينا أندرسن. وقال أردوغان إنه "ينتظر من السويد أن تتخذ إجراءات ملموسة وجدية، تظهر أنها تشاطر تركيا قلقها حيال تنظيم حزب العمال الكردستاني الإرهابي وامتداداته في سوريا والعراق". كما طلب من ستوكهولم رفع القيود عن صادرات الأسلحة إلى أنقره. وشرح الرئيس أردوغان، في اتصال هاتفي آخر مع نظيره الفنلندي، ساولي نينيسو، "الحق الطبيعي لتركيا في توقع الاحترام والدعم في إطار نضالها المشروع ضد التهديدات التي تطال أمنها وشعبها"، وذلك بحسب بيان للرئاسة التركية.

وفي الختام، من المتوقع أن تتوصل تركيا لتسوية مع القوى الأوروبية والولايات المتحدة بشأن مسألة انضمام السويد وفنلندا لحلف الناتو، بحيث تراعي مصالح الجانبين. وليس من المرجح تمادي أنقرة في اعتراضها وصولاً لعرقلة انضمام الدولتين للحلف بشكل كامل، إذ إن ذلك قد يعني اصطفاف تركيا إلى جانب الموقف الروسي، وهو ما سيثير غضب دوائر صُنع القرار الأوروبية والأمريكية وربما يأتي بنتائج عكسية عليها.