تكتيكات متباينة:

متى تتحول الهجرة إلى سلاح جيوسياسي للدول؟

28 March 2022


عرض: عبد المنعم محمد

 لم يعد التعامل مع ملف المهاجرين وطالبي اللجوء ذا صبغة إنسانية بحته وفقاً للاتفاقيات الدولية ومعاهدات الأمم المتحدة، التي تضمن الحماية الإنسانية لتلك الفئة، بل بات ورقة ضغط تُستخدم في الأهداف الجيوسياسية المختلفة للدول. في هذا الإطار، تناقش دراسة الباحث كيلي جرين هيل والتي تحمل عنوان "متى يتحول المهاجرين إلى أسلحة" في مجلة فورين أفيرز مؤخراً حالة التوظيف السياسي لظاهرة الهجرة وطالبي اللجوء في تحقيق مصالح الدول الاستراتيجية، والتي لا تُعد ظاهرة وليدة اللحظة الراهنة، بل برزت في العديد من المحطات التاريخية، إلا أنها تفاقمت في الآونة الأخيرة، حيث بات الاستخدام السياسي والأمني لملف المهاجرين واضحاً في التفاعلات المختلفة للدول وأضحى أداة من أدوات الحرب غير المباشرة والصراعات السياسية.

أشكال التوظيف:

تُشكِّل موجات الهجرة غير النظامية تحديات بعيدة المدى على الأمن والسلم الأوروبي، خاصة في ظل تعدد مناطق الصراع وما تبعها من تزايد موجات اللجوء، ووفقاً للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فإن أعداد النازحين بلغ أكثر من 82 مليون نازح قسري على مستوى العالم، وتزايد معها التوظيف الاستراتيجي لذلك الملف، وتتنوع استخدامات ذلك الملف كما يلي:

- الهجرة واللجوء تكتيك قديم: إن الاستخدام السياسي لورقة المهاجرين ليس وليد اللحظة الحالية، بل كان هذا النهج مستخدماً قديماً، وبرز ذلك في استخدام باكستان للاجئين كورقة ضغط على الهند قبل خمسين عاماً، وذلك من خلال السماح لنحو 10 ملايين لاجئ بالمرور إلى الهند، أيضاً تمت ممارسة الضغط على الولايات المتحدة الأمريكية عبر التوظيف السياسي لورقة اللاجئين والمهاجرين بواسطة نيكاراغوا التي دعمت دخول الكوبيين للأراضي الأمريكية وباتت من أوراق الضغط والمساومة ضد واشنطن، فالنشر الفعلي لتدفقات المهاجرين المهندسة لفترة طويلة مثٌل أداة سياسية فعالة.

- المهاجرون كسلاح هجين: لقد استخدم ملف المهاجرين واللاجئين في خضم التنافس بين جمهوريات الاتحاد السوفييتي –سابقاً- وبين دول الاتحاد الأوروبي، وقد اتضحت معالم هذا النهج من خلال استغلال الرئيس البيلاروسي" ألكسندر لوكاشينكو" موجات الهجرة واللجوء من العراق وسوريا وأفغانستان، والعمل على تسهيل إجراءات دخولهم إلى أوروبا، وذلك في إطار استراتيجية للضغط على الاتحاد الأوروبي، خاصة في ظل عدم الاعتراف به كرئيس شرعي فاز بالاستحقاق الرئاسي 2020، ورداً على العقوبات التي فرضت عليه، مما يُعد نمطاً جديداً في استخدام تلك الفئة للأعمال العسكرية العدائية.

- فاعلية ملف الهجرة: يُحقق ملف الهجرة مكاسب متعددة للدول سياسياً واقتصادياً بصورة أكثر فاعلية من العمليات العسكرية والعقوبات المختلفة، حيث تم اللجوء لهذا التكتيك قرابة 81 مرة منذ اتفاقية اللاجئين عام 1951، ونجحت قرابة غالبية تلك الحالات في تحقيق الأهداف المرجوة منها، بينما تضاءلت فعالية الأشكال التقليدية للسياسة الخارجية كالعمليات العسكرية والعقوبات، والتي تُحقق نجاحاً بنحو 40% فقط، فهندسة ملف الهجرة والتلويح باستخدام ذلك الملف يحقق هامشاً من المناورة والمساومة وهو الأمر الذي لم تحققه القنوات الدبلوماسية التقليدية.

أهداف متباينة:

ينشأ بالأساس التوظيف السياسي للاجئين عن رغبة الدول في تحقيق أهداف جيوسياسية وتحقيق أهداف السياسة الخارجية التي فشل تحقيقها بالأساليب التقليدية، فالدول النامية والفقيرة نسبياً تستخدم ورقة الهجرة للحصول على مساعدات مالية، وهناك دول توظف ذلك الملف لتحقيق مكاسب سياسية ذات طابع استراتيجي ويمكن توضيح ذلك في الآتي:

- مكاسب اقتصادية ومالية: أحد أهداف الارتهان لورقة المهاجرين واللاجئين هو الحصول على الدعم المادي والاقتصادي، وبرز ذلك في النهج الألباني في تعاملها مع إيطاليا، حيث حظيت الحكومة الألبانية بمساعدات اقتصادية وعسكرية وغذائية من الجانب الإيطالي في مقابل وقف تدفق المهاجرين الألمان إلى إيطاليا.

وهو النهج ذاته الذي اتبعته ليبيا إبان نظام "معمر القذافي"، والذي هدد بفتح الحدود أمام موجات هجرة الأفارقة ما لم يحصل على المساعدات المالية والسياسية، وقد امتثل الاتحاد الأوروبي لسنوات عديدة لتلك المطالب نتيجة للمخاوف الغربية بشأن اجتياح المهاجرين الأفارقة الداخل الأوروبي.

وقد اُستخدم ذلك الملف ولا يزال من جانب تركيا في تفاعلها مع دول الاتحاد الأوروبي؛ رغبةً منها في الانضمام لهذا الاتحاد إلى جانب حصول أنقرة على دعم مادي ولعل ذلك الهدف تحقق في عام 2016 في أعقاب إبرام صفقة حصل فيها النظام التركي على ست مليارات يورو في شكل مساعدة مالية كما تم إحياء محادثات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وذلك في مقابل استمرار مساعدة أنقرة لوقف تدفقات الهجرة للدول الأوروبية.

- مكاسب سياسية واستراتيجية: وظَّفٌ رئيس جمهورية "هايتي" المنفي جان برتران أريستيد في عام 1994، ورقة الهجرة للضغط على الولايات المتحدة الأمريكية لإعادة توليه المنصب، من خلال التهديد بتعبئة أعداد كبيرة من الهايتيين للتوجه إلى الولايات المتحدة، إذا فشل الأمريكيون في القيام بذلك، واستخدمت تلك الورقة أيضاً من جانب الزعيم الباكستاني "محمد ضياء الحق" في الضغط على واشنطن لوقف معارضتها برنامج الأسلحة النووية الباكستانية.

استجابة الحكومات:

هناك صور مختلفة لتفاعل الحكومات المستهدفة للاستجابة لتدفق الهجرة ويمكن توضيحها في الآتي: 

- الرضوخ والاستجابة للمطالب: يرتكز هذا التعامل إلى جوهر الاستجابة والرضوخ للمطالب المختلفة من جانب الدول التي توظف ورقة الهجرة، ويُعيب هذا النمط أنه يُشكل دائرة مفرغة، بحيث يُعاد توظيف تلك الورقة غير مرة، ويُعزز من تفاقم الكيانات والجماعات المتخصصة في الجريمة المنظمة العابرة للحدود والإتجار بالبشر، ويدفع إلى استمرارية استغلال تلك الورقة لتحقيق مزيد من المكاسب، وهو ما حدث حيال الولايات المتحدة عندما استخدمت كوبا سلاح الهجرة في ثلاث مناسبات مختلفة بين الستينيات والتسعينيات وكان أبرزها السماح بمغادرة أكثر من 125 ألف مواطن كوبي إلى ساحل فلوريدا خلال عملية نقل مارييل للقوارب عام 1980، وهو ما فعلته جمهورية "هايتي" في السبعينيات والثمانينيات وحتى السنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين، وأيضاً برز في تعامل تركيا وليبيا مع دول الاتحاد الأوروبي.

- المناطق البديلة "المستودعات": نتيجة للضغط الذي بات يُمارس على العديد من الدول جراء موجات اللجوء والهجرة، برز تفاعل آخر بعيداً عن الاستجابة للمطالب المختلفة، تجلى في أمرين الأول عبر إلغاء الالتزامات الإنسانية من قِبل تلك الدول وإغلاق حدودها أمام تلك الموجات كما حدث في الكثير من الدول الأوروبية خلال تعاطيها مع ذلك الملف في الآونة الأخيرة، والثاني من خلال إعادة التصدير لمناطق جغرافية أخرى للتعامل مع موجات تدفق المهاجرين واللاجئين، وبرز ذلك النمط في القرن العشرين من قِبل السلطات الأمريكية والتي أعادت تصدير الكثير من المهاجرين واللاجئين إلى بنما ودول أمريكا اللاتينية في مقابل تقديم التسهيلات المالية والمساعدات، وكذلك اتبعت أستراليا ذلك النمط من خلال استغلال الجزر النائية المجاورة لها – مثل جزيرة ناورو- لاحتجاز طالبي اللجوء المحتملين وإبعادهم عن الشواطئ الأسترالية، ويتجسد ذلك المشهد في التفاعل الأوروبي مع ليبيا ما بعد 2011 وإبرامها لصفقة "فاوست" مع الميليشيات التي تسيطر على ليبيا – والتي أنشأت مراكز احتجاز ممولة من الاتحاد الأوروبي لآلاف المهاجرين الذين يحاولون الوصول إلى أوروبا.

ولعل خطورة ذلك النمط يكمن في تحول تلك المستودعات إلى مصدر لتصدير تلك الأعداد الكبيرة من اللاجئين والدفع بهم إلى الدول المجاورة، وهو ما اتضح من مطالبة جزيرة "ناورو" الحكومة الأسترالية بالدعم المادي، ويُمثل ذلك المسار تكلفة سياسية وأخلاقية عالية خاصة أن رفض استقبال اللاجئين يدحض القيم التي تدَّعى الدول الليبرالية أنها تعتز بها، ويساهم في تأجيج المشاعر المناهضة للهجرة محلياً.

- القيام بعمل عسكري لتغيير الظروف: أحد مسارات التعامل مع تلك الأزمة هو انتهاج القوة الصلبة – القوة العسكرية – لتغيير الظروف داخل الدول التي تمارس الإكراه، غير أن هذا المسار له تكلفة باهظة ونتائج غير مؤكدة، ففي الحالة الليبية جاء تغيير النظام عبر المساهمة في الإطاحة بنظام القذافي عسكرياً من تدخل مباشر لحلف الناتو، إلا أن هذا التوغل العسكري كان له تكلفة باهظة، ونتج عنه المزيد من اللاجئين والنازحين مما كان متوقعاً في البداية، كما ساعد تدخل  "الناتو"  في زعزعة الاستقرار ليس فقط في البلد نفسه ولكن أيضاً في المنطقة ككل، مما أدى إلى توليد مجموعة أكبر من النازحين على أطراف أوروبا – وجعل الاتحاد الأوروبي أكثر عرضة للهجرة المسلحة.

- الانخراط الاستباقي والتكيف مع الوضع: أحد أنماط التفاعل مع تلك القضية يتمثل في المشاركة الاستباقية والمراقبة الدقيقة للظروف السائدة في دولة المصدر والتحرك النشط دبلوماسياً للتفاعل السياسي مع الحكومات التي تلوح باستخدام تلك الورقة والانخراط في مفاوضات جدية معهما يمكن أن يؤدي إلى مواجهات مستقبلية أقل، خاصة أن استخدام الهجرة كاستراتيجية نادراً ما يكون الملاذ الأول لتلك الدول، وتتطلب استراتيجية التكيف الناجحة إدارة سياسية ذكية واستباقية لدعم المجتمعات والمناطق والدول المتوقع أن تستقبل الوافدين الجدد.

- الاستيعاب والاحتواء: من بين أنماط التفاعل مع الهجرة واللجوء والتقليل من فاعلية تلك الأداة، يتجلى في استيعاب المهاجرين كإحدى آليات المواجهة السياسية من دون تقديم أي تنازلات أو الانخراط في دوائر المساومات السياسية والاقتصادية، وهو ما برز فيما يتعلق باللاجئين الأفغان عقب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان أغسطس 2021، ويحقق ذلك النمط إزالة النفوذ الاستراتيجي للحكومة المرسلة للمهاجرين واللاجئين، وتحقيقاً لذلك يجب على الحكومات تغيير الصورة الذهنية والتصورات السلبية عن المهاجرين ومعالجة العداء الثقافي تجاه المهاجرين الذي خلٌفته سياسات القوميين الشعبويين مثلما برز في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.

نهج قديم مستحدث:

لقد استخدمت بيلاروسيا بصورة مكثفة في الفترة الأخيرة ورقة المهاجرين واللاجئين للتفاعل ومساومة الاتحاد الأوروبي، وبالرغم من ذلك التوجه ليس بالجديد في التفاعلات الدولية، فإن استخدام الهجرة كورقة ضغط من جانب بيلاروسيا كشف بصورة كبيرة عن تناقض النظام العالمي، فبينما يظهر هذا النظام مترابطاً في الأبعاد الاقتصادية والتجارية إلا أن التفاعل مع حركة الأشخاص تظل فردية تقوم على المنظور والتقييم الوطني لكل دولة على حدة.

الأمر الآخر أن الإعلان عن التفاعل البيلاروسي تجاه أوروبا من خلال ورقة اللاجئين وموجات الهجرة غير النظامية، كشف بصورة كبيرة العوار في استراتيجية التعاطي الأوروبي مع ذلك الملف، فلم تُعد سياسة الدفاع عن الحدود الخارجية كافية لمواجهة أبعاد التوظيف الأمني والسياسي لذلك الملف، وأظهرت الأزمة البيلاروسية – ورد الفعل الأوروبي عليها – مدى فعالية تكتيك سلاح اللاجئين والمهاجرين. وهذا الأمر يجعل الحكومات الأوروبية المستهدفة أمام خيارين الأول: الانخراط في مفاوضات مبكرة قبل تفاقم الأزمة، والثاني التعامل مع الهجرة غير النظامية على أنها مُهددة للأمن القومي ومن ثٌم التوجه لتشديد قيود الهجرة.

ختاماً؛ يرى الكاتب أن التوظيف السياسي لملف الهجرة واللجوء وتكتيكات التعامل معه، سوف يُضعف الإطار الذي تقوم عليه اتفاقية اللاجئين لعام 1951 وبروتوكولها لعام 1967، ويُعرقل مستقبل الديمقراطية الليبرالية، ويدفع أيضاً الحكومات الغربية لتقويض حقوق الإنسان والحريات التي تدَّعي الدفاع عنها، فإذا ما كان للديمقراطيات الليبرالية أن تظل متقدمة وليبرالية وديمقراطية، فسوف يتطلب ذلك إيجاد طريقة للحفاظ على حدودها آمنة من دون أن تفقد هويتها وقيمها والدولة الليبرالية نفسها.

المصدر: 

Kelly M. Greenhill, When Migrants Become Weapons: The Long History and Worrying Future of a Coercive Tactic, Foreign Affairs, Volume 101, Number 2, p – p: 155 - 164, MARCH/APRIL 2022.