"الأهداف الخمسة":

تداعيات التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا على الإقليم

02 March 2022


شهد فجر يوم 24 فبراير منعطفاً مهماً للأزمة الأوكرانية القائمة بين روسيا والغرب على مدار ثماني سنوات، بإعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن إطلاق "عملية عسكرية خاصة" لحماية منطقة دونباس في جنوب شرق أوكرانيا، وذلك في كلمة توجه بها إلى الشعب الروسي. بدأت العملية العسكرية على الفور، وأخذت الأحداث منحى تصاعدياً، ما أثار العديد من التساؤلات حول أهدافها ومداها وتطورها المحتمل، وكذلك تداعياتها على الإقليم. 

الأهداف الروسية 

تشير تصريحات المسؤولين الروس وسير العمليات على الأرض إلى أن هناك خمسة أهداف رئيسية تسعى إليها موسكو عبر عمليتها العسكرية يمكن إيجازها فيما يلى.

1. تدمير البنية العسكرية الأوكرانية وتحييدها: والتي تعتبرها روسيا بنية هجومية تم تطويرها من جانب الغرب، خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا، لتهديد موسكو، ومنها يتم توجيه الضربات لمنطقة دونباس وتحديداً جمهوريتي دونيتسك ولوجانسك التي يقطنها أغلبية من الروس الذين يرتبطون عضوياً مع روسيا، وتعتبرهما الأخيرة امتداد أثنياً وبشرياً وثقافياً لها. ومن ثم فإن حماية منطقة الدونباس ووقف المعارك وقصف كييف لها دافع رئيسي للعملية الروسية.

2. السيطرة على البنية النووية الأوكرانية: فقد أثار تصريح الرئيس الأوكراني في مؤتمر ميونيخ للأمن حول إمكانية استعادة الوضع النووي لأوكرانيا وتطوير سلاح نووي، مخاوف وقلق روسيا. وكانت أوكرانيا واحدة من أربع جمهوريات سوفييتية بها أسلحة نووية، وعقب تفكك الاتحاد السوفييتي تم نقل كل الأسلحة النووية من الجمهوريات الثلاث إلى روسيا. وقد طالب زيلنيسكى بعقد اجتماع للدول المشاركة في مذكرة بودابست، التي كان من المفترض أن تضمن أمن أوكرانيا مقابل تخليها عن حيازة الأسلحة النووية، مشيراً إلى أن كييف تتقدم بهذا المقترح للمرة الرابعة والأخيرة، وفي حال عدم إجراء المفاوضات قد تعيد أوكرانيا النظر في قرار التخلي عن الأسلحة النووية. وربما كانت هذه القشة التي قصمت ظهر البعير، فما كان من الممكن أبداً لروسيا أن تقبل بدولة نووية عسكرية على حدودها مرة أخرى.

3. دعم جمهوريتي دونيتسك ولوجانسك في مواجهة كييف: وتوفير مظلة لتقدم قوات الجمهوريتين لاستعادة ما تعتبره أراضي تابعة لها إدارياً، ومد سيطرتها إلى حدود إقليم الدونباس وتحريره بالكامل من سيطرة القوات الحكومية لكييف التي قامت بإخضاع مساحات واسعة منه خلال العمليات العسكرية عام 2014 وجمدت الأوضاع عند ما يشار إليه بخط التماس بين دونباس وقوات كييف.  

4. استعادة إمدادات المياه لشبه جزيرة القرم من نهر دنيبر عبر قناة شمال القرم: والتي كانت تؤمن 85٪ من احتياجات شبه جزيرة القرم من المياه العذبة، وقامت السلطات الأوكرانية بقطع المياه عن شبه الجزيرة عبر سد أقامته منذ 8 سنوات. 

5. تأكيد حياد أوكرانيا:والتزام النظام الأوكراني بعدم الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي أو السماح بمد بنيته العسكرية باتجاه موسكو، والعودة إلى ما كانت عليه كييف في الفترة منذ تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991 وحتى نهاية فترة الرئيس الأوكراني ليونيد كوشما عام 2004 من حيث التوازن في العلاقة بين روسيا والغرب، ومراعاة المصالح الروسية وضرورات الأمن القومي الروسي بما في ذلك حقوق الروس في أوكرانيا. وقد يتطلب ذلك تغييراً سياسياً في النخبة الحاكمة الأوكرانية من وجهة نظر موسكو، خاصة مع انسداد أفق المفاوضات بين الجانبين وعدم الثقة المتبادلة بينهما، وهو ما أشار إليه سيرجي لافروف، وزير الخارجية الروسي، معتبراً أن العملية العسكرية في أوكرانيا يتمثل هدفها في تمكين الأوكرانيين بعد "تحررهم من الاضطهاد"، من تقرير مستقبلهم بحرية. وأكد الرئيس بوتين هذا التوجه خلال اجتماعٍ لمجلس الأمن القومي الروسي بدعوته الجيش الأوكراني إلى أخذ زمام الأمور، وأنه لدى روسيا فرصة أفضل للتفاهم مع الجيش.

ورغم بعض الضبابية بالنظر للبيانات المتضاربة من الجانبين، فقد حققت روسيا معظم الأهداف السابقة، فخلال الأيام الأربعة من بدء العملية العسكرية، ووفق بيان وزارة الدفاع الروسية، تم تدمير 1067 هدفاً في البنية التحتية العسكرية لأوكرانيا، تتضمن مراكز للقيادة والاتصالات، ونظماً صاروخية مضادة للطائرات (S-300)، ومحطات رادار ومدى واسعاً من الطائرات والمعدات العسكرية. كما سيطرت روسيا بشكل كامل على منطقة محطة تشيرنوبيل النووية بشمال أوكرانيا، وعلى البنية النووية الأوكرانية التي يمكن استخدامها لإنتاج محتمل لأسلحة نووية. وتم قصف السد الأوكراني وإعادة تدفق المياه لقناة شمال القرم، وتواصل قوات جمهوريتي دونيتسك ولوجانسك تقدمها بدعم ناري من الجيش الروسي. 

وعلى الرغم من تحقيق الأهداف السابقة، فإن العملية العسكرية الروسية مازالت مستمرة في ضوء سعي موسكو للقضاء على قوات المقاومة والكتائب الأوكرانية المكونة من القوميين المتطرفين، وظهور ما يشبه حرب شوارع بين قوات روسية شيشانية في معظمها، وقوميين أوكرانيين، فضلاً عن إعلان الولايات المتحدة والدول الأوروبية عن مساعدات عسكرية وإمدادات دفاعية عاجلة لأوكرانيا من دون التدخل المباشر وإرسال قوات لها، الأمر الذى يزيد الأزمة تعقيداً وقد يطيل من أمدها نسبياً رغم حرص روسيا أن تكون ضربة استباقية وعملية عسكرية خاصة وسريعة. 


الانعكاسات الإقليمية

رغم وصول وفدي روسيا وأوكرانيا إلى مقر إجراء المفاوضات بين الجانبين على الحدود الأوكرانية البيلاروسية في منطقة جوميل البيلاروسية في اليوم الرابع من بدء المواجهات العسكرية، فإن الرئيس بوتين قد أعلن وضع قوات الردع الاستراتيجي الروسية في حالة تأهب خاصة، وتضم الثالوث النووي الروسي، الجوي والبري والبحري. وبدوره رد مفوض الأمن والخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، أن منظومة الردع النووي الأطلسية في حالة تأهب قصوى، في منحى تصعيدي للأزمة يجعل الجميع يحبس أنفاسه خشية مواجهة تنهى العالم كله. 

وتعد هذه الاحتمالية، رغم ضآلة، وربما انعدام فرص حدوثها، واحدة من تداعيات عدة محتملة لهذه الحرب على الإقليم. إن الأزمة في أوكرانيا ليست مجرد حرب إقليمية في منطقة أوراسيا، وإنما هي مواجهة دولية بين موسكو والغرب بزعامة واشنطن ذات تداعيات متعددة الأبعاد على الإقليم.

1- من الناحية الاقتصادية، ستؤثر العقوبات المفروضة على روسيا، خاصة فصل بعض البنوك الروسية عن نظام "سويفت" العالمي للتعاملات بين المصارف على التبادلات التجارية وحركة رؤوس الأموال والاستثمارات بين روسيا ودول الإقليم التي تعتبر شركاء تجاريين واقتصاديين لروسيا، وسيبطئ هذا نسبياً من الحراك الاقتصادي بين موسكو وعدد من دول الإقليم الذي شهد طفرة ملحوظة في السنوات الأخيرة. 

كما أن طول الأزمة، بفرض حدوثه، قد يؤثر على الإمدادات الروسية لدول المنطقة من السلع الاستراتيجية، حيث تعتبر روسيا مصدراً كبيراً لعدد من المواد الخام، والتي تمثل سلاسل إمداد مهمة، ومنها النفط والغاز والحديد والصلب والألمنيوم، فضلاً عن الحبوب التي أصبحت روسيا في السنوات الأخيرة أكبر مصدر لها في العالم. وستكون مصر ولبنان من بين الأكثر تضرراً، حيث تمثل نسبة واردات القمح الروسي والأوكراني في مصر 70% من احتياجات البلاد، بما يصل إلى 13 مليون طن سنوياً، كما أنها الأولى عالمياً في استيراد الذرة من أوكرانيا خلال الموسم الزراعي 2020-2021، وتستورد لبنان ما يقارب 60% من احتياجاتها من القمح من أوكرانيا.

 وتلقي الأزمة بظلال واضحة على أسعار النفط العالمية التي قفزت مع بدء العمليات العسكرية متجاوزة المائة دولار للبرميل، ورغم ما يمثله ذلك من فرصة لبعض الدول المصدرة في المنطقة، فإنه يفرض تحديات وأعباء ضخمة على الدول المستوردة، وينذر بارتفاع في الأسعار ونسب التضخم وما يصاحب ذلك من انخفاض مستويات المعيشة وتبعات اجتماعية وسياسية. 

2- أما من الناحية الاستراتيجية، فإن الارتفاع في أسعار النفط قد يدفع الولايات المتحدة إلى اتمام سريع للاتفاق مع إيران حتى يتسنى للأخيرة استئناف إنتاجها من النفط وزيادة العرض على النحو الذي يسهم في كبح جماح الأسعار المرشحة لمزيد من الارتفاع، ولهذا انعكاسات مهمة على الدور الإيراني في العديد من قضايا المنطقة، وتوازنات القوى في منطقة الخليج والإقليم بصفة عامة.

يعزز هذا التوجه انشغال القوى الكبرى بالأزمة الأوكرانية وقد يؤدي إلى حالة من الفراغ الدولي الأمر الذي يترك مساحة أكبر للقوى والتوازنات الإقليمية في مدى واسع من قضايا الإقليم، ويتيح فرصاً مهمة شريطة جاهزية الرؤية والأدوات للتعامل الفعال وتحريك دفة هذه القضايا في الاتجاه المرغوب.

يضاف إلى هذا، أن الحرب في أوكرانيا تعد أزمة كاشفة للتحولات التي شهدها النظام الدولي باتجاه تعدد القوى، وفي حال نجاح روسيا في إدارتها وفرض إرادتها سيكون على العديد من دول الإقليم مراجعة سياساتها نحو توجهات أكثر توازناً وانفتاحاً على القوى الدولية العائدة والصاعدة.