الشروق:

مالى.. ساحة صراع أخرى بين روسيا والغرب

02 February 2022


نشر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة مقالا للكاتب حمدى عبدالرحمن تناول فيه الفراغ الأمنى الذى تسببت فيه سياسات فرنسا فى مالى، وهو ما سمح بالتدخل الروسى وتحويل مالى إلى ساحة صراع بين الغرب وروسيا، وبالأخير زادت العمليات الإرهابية والأزمات الإنسانية فى منطقة الساحل الإفريقى... نعرض منه ما يلى:

فى أغسطس 2020، قاد مجموعة من الجنود فى جيش مالى انقلابا عسكريا أطاح بحكومة الرئيس الراحل، أبوبكر كيتا، المنتخبة ديمقراطيا والمدعومة من فرنسا. ونفذ العقيد عاصمى غويتا، من القوات الخاصة، والذى قاد الانقلاب الأول، انقلابا ثانيا عام 2021 وتوج نفسه رئيسا انتقاليا للبلاد. ولم يقم المجلس العسكرى الحاكم بالوفاء بالمواعيد النهائية المتفق عليها دوليا لإجراء الانتخابات الوطنية، وبدلا من ذلك اقترح تمديد الفترة الانتقالية لمدة خمس سنوات. ترتب على هذه الخطوة التى تمثل تراجعا للعملية الديمقراطية إثارة مخاوف دول هشة أخرى فى غرب أفريقيا معرضة لعدوى الانقلابات. ونتيجة لضغط فرنسا، التى باتت تشعر بتضاؤل نفوذها فى مجالها الاستراتيجى الأفريقى التقليدى، حاولت دول الإقليم عزل المجلس العسكرى فى مالى. وبالفعل فى يناير 2022 أعلنت الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، عن عقوبات قاسية من بينها غلق الحدود وفرض حظر تجارى على دولة مالى غير الساحلية. وليس بخافٍ أن أزمة عدم الاستقرار السياسى والانتقال الديمقراطى المتعثر، بالإضافة إلى التحول الواضح نحو روسيا دفعت بفرنسا وحلفائها إلى تبنى خيارات المواجهة والتصعيد ضد حكام مالى. ومن المرجح أن يهدد الانقسام الدولى والإقليمى حول مستقبل مالى الجهود الخاصة بمحاربة الإرهاب وتوفير المساعدات الإنسانية فى منطقة الساحل. ولعل ذلك كله يطرح سؤالا عن المقدمات التى أسهمت فى تصعيد تلك الأزمة ومخاطرها الأمنية فى منطقة تمثل مركبا صراعيا معقدا من ناحية، وكيف استغلت روسيا الفراغ الأمنى الناجم عن إعادة الانتشار الفرنسى من ناحية أخرى.

سياقات الفراغ الأمنى

تغير المزاج العام الفرنسى: من الواضح أن توجهات الرأى العام الفرنسى باتت تعارض بشكل متزايد عملية برخان، كما أن الانتخابات الفرنسية فى العام الحالى من المتوقع أن تكون ذات صلة وثيقة بالوجود العسكرى الفرنسى فى مالى. وعليه يمكن تفسير قرار الانسحاب الفرنسى من المنطقة، ومن مالى، على أنه محاولة من قبل الرئيس إيمانويل ماكرون من أجل تعزيز فرصه فى إعادة انتخابه. كما أن المساعدات التى تدفقت إلى مالى منذ بداية التدخل لا يبدو أن كان لها الأثر المنشود، مع استمرار تفشى الفساد فى أجهزة الدولة، وضعف تدريب وتجهيز الجيش المالى. ولعل ذلك هو ما يدفع كثيرا من الكتاب إلى تبنى نوع من المشابهة بين الحالة الأفغانية وحالة مالى التى يُطلق عليها اسم «أفغانستان الساحل الأفريقى».

تصاعد الغضب الشعبى ضد الوجود الفرنسى: توجد مشاعر مناهضة للفرنسيين تجسدها احتجاجات الجماهير فى شوارع باماكو، عاصمة مالى. من المعروف أن حوالى خمسة آلاف جندى فرنسى يتمركزون فى جميع أنحاء منطقة الساحل منذ عام 2013، وعلى الرغم من النجاحات الفرنسية التى أسهمت فى تحرير شمال مالى، فإن طول أمد الصراع ضد الجماعات المسلحة والعنيفة أدى إلى سقوط البلاد فى مستنقع الفوضى التى تشبه الحالة الأفغانية، والذى امتد نطاقه الجغرافى ليشمل النيجر وبوركينا فاسو. يرى العديد من سكان الساحل أن فرنسا غير قادرة على حل الأزمة، كما يجادل البعض الآخر بأن الصراع له علاقة بالتخلف والركود الناتج عن هيمنة فرنسا السياسية والاقتصادية على المنطقة منذ قرن من الزمان.

ثمة مبررات لتصاعد غضب شعب مالى تجاه فرنسا. فكان التدخل الفرنسى منذ البداية يهدف إلى مساعدة مالى فى مكافحة الإرهاب، بيد أن الأزمة فى المنطقة تحولت لاحقا إلى صراع عرقى داخلى. يوجد فى منطقة موبتى صراع بين الفولانى والدوجون، وكذلك بين البامبارا والفولانى. وفى تمبكتو وغاو، يوجد صراع بين الطوارق والعرب من جهة، وبين الطوارق والصونغاى من جهة أخرى. وهو ما يعنى أن القوات الفرنسية التى ركزت وجودها على وسط البلاد والمناطق الحضرية عجزت عن حماية المدنيين والقضاء على الجماعات الإرهابية التى تجسد ظاهرة عابرة للحدود.

روسيا وملء الفراغ الأمنى: دفعت خطة فرنسا لخفض عدد القوات فى منطقة الساحل اعتبارا من فبراير 2022 حكام مالى العسكريين إلى اللجوء إلى روسيا لملء هذا الفراغ الأمنى. وبالفعل تم توقيع اتفاقية مع شركة فاغنر الروسية للسيطرة على معسكر باماكو، وقد يؤدى ذلك إلى مواجهات مع القوات الفرنسية وعملية حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة فى المنطقة، الأمر الذى قد يدفع الفرنسيين للانسحاب من المنطقة بأكملها. ويبدو أن الدعم الروسى شجع حكام مالى على محاولة تأجيل الانتخابات الرئاسية التى كان من المقرر إجراؤها فى 27 فبراير2022. لقد كان المجلس العسكرى بقيادة العقيد غويتا منذ توليه السلطة يغازل موسكو كبديل للمقاربات العسكرية الغربية والدولية الفاشلة. وتشير بعض التقارير إلى وجود عناصر روسية فى مالى منذ عام 2019. اليوم تم نشر مئات الجنود الروس فى تمبكتو لتدريب القوات المالية فى قاعدة عسكرية تركها الفرنسيون مؤخرا.

مجموعة فاغنر

على الرغم من أن البعض يصف مجموعة فاغنر الروسية بأنها شركة عسكرية خاصة، فإنها ليست كذلك بالمعنى الحرفى للمفهوم. تمتلك الشركة علاقة وثيقة للغاية مع الدولة الروسية، وتقوم بتدريباتها بجوار مركز تدريب العمليات الخاصة التابع لوكالة المخابرات العسكرية الروسية. وعادة ما تُردد وسائل الإعلام الغربية وصف مجموعة فاغنر بالمرتزقة، لكن أعضاءها ليسوا مثل سائر المرتزقة المأجورين. صحيح أنهم يقاتلون من أجل الربح بموجب عقود، لكن لديهم أيضا مشاعر وطنية تجاه الدولة الروسية (على الرغم من أن بعض أفرادها ليسوا مواطنين روسيين، وإنما ينحدرون من مولدوفا وأوكرانيا وبيلاروسيا وصربيا). فى الواقع، تغيرت مجموعة فاغنر كثيرا بمرور الوقت لدرجة أنها قد لا تكون أكثر من اسم فضفاض، وليست كيانا متميزا له مخطط تنظيمى. قد يكون المصطلح الأفضل لها، بدلا من شركة عسكرية خاصة أو جماعة مرتزقة، مجموعة أمنية شبه رسمية.

بالإضافة إلى تدخلها فى ليبيا، أبرمت روسيا صفقة مع الرئيس المنتخب لجمهورية أفريقيا الوسطى، فوستين أرشانج تواديرا فى عام 2018، للمساعدة فى درء تهديد ميليشيات سيليكا الإسلامية المتطرفة. كما أصبح الروسى، فاليرى زاخاروف، مستشار الأمن القومى للرئيس تواديرا، وتم بعد ذلك إقالة وزير الخارجية شارل أرميل دوبان بسبب عدم موافقته على النفوذ الروسى المتزايد. وعلى الرغم من انتشار مقاتلى فاغنر فى السودان زمن البشير وموزمبيق فإنه ليس من قبيل الصدفة أن تكون هذه المناطق موطنا لعمليات تعدين الذهب والأحجار الكريمة بمليارات الدولارات واحتياطيات الغاز الوطنى المسال.

مع وجود المجلس العسكرى المحاصر والذى يتعرض لضغوط إقليمية ودولية فى دولة تعانى وضع الهشاشة السياسية وعدم اليقين بالرغم من وفرة الموارد الطبيعية المربحة، تبدو مالى وكأنها بمنزلة الجائزة الكبرى فى لعبة الأمم حول أفريقيا. وفى هذا السياق يبدو أن روسيا تستخدم فاغنر من أجل سد وملء الفراغ الأمنى فى المنطقة. ولا يعنى ذلك بالضرورة أن شركة فاغنر سوف تحسم المعركة ضد الجماعات الإرهابية والميليشيات العنيفة، فلقد عانت الشركة الروسية بعض الانتكاسات كما حدث فى أواخر عام 2019 عندما سحبت أفرادها من موزمبيق بعد أن تكبدت العديد من الضحايا فى القتال ضد مقاتلى جماعة أهل السنة والجماعة، فى مقاطعة كابو ديلجادو الغنية بالغاز الطبيعى.

بينما لا يزال مستقبل الانتقال السياسى فى مالى غير واضح، فإن وجود فاغنر لن يؤدى إلا إلى مزيد من تعقيد الأمور. بالنسبة لفاغنر وروسيا بشكل عام، تعد مالى أداة أخرى من أدوات التوترات الاستراتيجية المتنامية مع الغرب والتى تبلغ ذروتها اليوم فى الصراع من أجل الفوز بأوكرانيا. ومن المفارقات التى يشير إليها عدد من الكتاب أنه فى الحالات التى نشرت فيها شركة فاغنر قوات لقمع قوات المعارضة وجماعات العنف ضد الدولة، يصبح من المرجح استمرار حالة عدم الاستقرار. نظرا لكونها كيانا يسعى للربح، فإن لدى فاغنر حافزا قويا للحفاظ على مستوى يمكن التحكم فيه من عدم الاستقرار، بما يبرر استمرار التعاقد معها. ونظرا لأن هذه الترتيبات غالبا ما تستلزم أيضا وصول روسيا إلى الموارد، ومبيعات الأسلحة، وزيادة النفوذ السياسى، فإن المصالح الروسية فى أفريقيا، تتوسع بسبب عدم الاستقرار المستمر. إن وصول روسيا إلى مالى يعنى أن لديها القدرة على إثارة أزمات إنسانية وسياسية لأوروبا فى الوقت نفسه الذى تتحدى فيه مجالات النفوذ الأوروبى، الفرنسى فى المقام الأول، فى أفريقيا.

التحدى الأكبر المترتب على التغلغل الروسى فى أفريقيا كما تعكسه خبرة مالى يتمثل فى تراجع عمليات الانتقال الديمقراطى فى القارة. ويُعزى ذلك إلى نمط «الزبائنية السياسية» الذى تتبناه روسيا فى علاقتها مع القادة الأفارقة من خلال اتفاقيات أمنية وتجارية غامضة غير مواتية للبلدان الأفريقية. فى هذه العملية يتم تهميش المشاركة الشعبية ودعم القادة الذين يتخطون حدود ولايتهم الدستورية؛ وذلك بحجة ضمان الاستقرار فى هذه الدول... الارتماء فى أحضان روسيا كنوع من الانتقام ضد الهيمنة الغربية إنما يعنى فى جوهره استبدال قوة تسعى للهيمنة والنفوذ بأخرى وتظل أفريقيا أشبه بطاولة الشطرنج التى تحركها قوى فاعلة طامحة من الشرق والغرب وكأننا نعيش حالة حرب باردة ثانية.

*لينك المقال في الشروق*