سباق نحو القاع:

أثر انتشار الغواصات المقاتلة على الأمن الدولي

20 March 2015


إعداد: أحمد عبد العليم


يشهد العالم في الفترة الأخيرة سباقاً للتسلح من أجل امتلاك الغواصات البحرية المقاتلة، وهو سباق مرتبط بالتنافس الإقليمي، وبمحاولة الدول كسب الهيبة أمام المجتمع الدولي، وكذلك من أجل حماية أمنها القومي، وهو ما حدا بعدد كبير من دول العالم إلى محاولة تطوير قواتها البحرية بزيادة أساطيلها من الغواصات، وإمدادها بالخبرات والتدريب اللازم في سبيل مواجهة أي تهديد إقليمي أو دولي سواء كان هذا التهديد قائماً أو محتملاً.

في هذا الإطار، تأتي هذه الدراسة المعنونة: "السباق نحو القاع: الانتشار العالمي للغواصات البحرية والأمن الدولي" الصادرة عن كلية الحرب البحرية الأمريكية، وهي الدراسة التي أعدها "جان أندرسون Jan Joel Andersson" وهو محلل بارز بمعهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية في باريس، إذ يحاول من خلال هذه الدراسة تحليل قدرات الغواصات البحرية، وأسباب اتجاه عدد كبير من دول العالم نحو امتلاكها، وكذلك توضيح مدى تهديد الأمن الدولي من خلال الانتشار العالمي المتزايد للغواصات البحرية المقاتلة.

مزايا الغواصات البحرية وأسباب انتشارها عالمياً

يشير الكاتب إلى أن تزايد النزاعات الإقليمية البحرية قد أدَّى إلى تراكم الأسلحة البحرية في العالم، ويُدلِّل على ذلك بأن هناك عدداً متزايداً من الدول تخطط لبناء حاملات طائرات جديدة، كذلك فإن ثمة انتشاراً كبيراً للغواصات حول العالم. ­ويُعدِّد Andersson مزايا الغواصات البحرية المقاتلة، كالتالي:

1 ـ القدرة على أن تكون منصات متعددة الاستخدامات، بل وقادرة على مهاجمة سطح السفن البحرية المختلفة.

2 ـ رصد تحركات السفن عبر مسافات شاسعة وممتدة، وشنّ حرب مضادة للغواصات.

3 ـ قادرة على نشر الألغام، وقطع كابلات الاتصالات تحت البحر، وإدخال فرق استطلاع سراً إلى شواطئ معادية.

4 ـ وجود الغواصات يؤدي إلى ارتياب العدو، لأنه لا يتيقن من وجودها إلا بعد الهجوم، كذلك فإن مواجهة غواصة معادية هو أمر ليس بالسهل، بل ويأخذ وقتاً طويلاً للغاية من أجل مواجهته.

وفي ضوء تلك المزايا المتعددة للغواصات البحرية، والإقبال المتزايد على شرائها، يؤكد الكاتب أن الواقع قد يعكس مبالغة في التعامل مع الغواصات، خاصةً في ظل صعوبة تشغيلها، بالإضافة إلى تكلفتها العالية.

ويذكر الكاتب أنه على الرغم من انحفاض عدد الغواصات البحرية حول العالم منذ الحرب الباردة، بسبب توقف أعداد كبيرة من الغواصات السوفيتية والصينية القديمة، فإن المخزون العالمي من الغواصات يقدر بحوالي 400 غواصة تديرها 40 دولة فقط، ومن المتوقع أن يتم بناء (150) غواصة جديدة بحلول عام 2021، ومن المرجح أن تزيد إلى (300) غواصة مقاتلة خلال العشرين عاماً القادمة.

وتُقدَّر صناعة الغواصات في السوق العالمي بحوالي (14.4) مليار دولار عام 2013، ومن المتوقع أن تشهد نمواً يصل إلى حوالي (22) مليار دولار بحلول عام 2023.

من جانبِ آخر، يشير Andersson إلى أن ثمة دولاً تمتلك غواصات منذ فترات طويلة مثل (الصين، فرنسا، ألمانيا، اليابان، المملكة المتحدة، والولايات المتحدة)، وهي تقوم بتجديد كل أساطيلها الحالية، أما عن أسواق التصدير الرئيسية فهي تشمل (الشرق الأوسط، وآسيا، وأمريكا اللاتينية)، حيث يوجد في هذه المناطق غواصات بحرية قديمة تعود إلى العهد السوفيتي، وتحتاج إلى استبدال.

ويشير الكاتب إلى أن هناك موجة شراء للغواصات المقاتلة في آسيا، حيث تنشر الصين جزءاً من غواصاتها الست والسـتين، وتتجه فيتنام إلى شراء ست غواصات، وطلبت إندونيسيا شراء ثلاث غواصات، وتريد استراليا رفع عـدد غواصاتها من (6) إلى (12)، وكذلك اليـابان من (16) إلى (22) غواصة بحلول عام 2020. واشترت كوريا الجنوبية (12) غواصة منذ عام 1990، أما الهند التي تملك (15) غواصة تقليدية فقد أنزلت إلى المياه أولـى غـواصاتها النووية في عام 2012.

ويُفسر الكاتب ذلك السباق باعتبار أن الأمن القومي سبب مهم ورئيسي في سعي العديد من دول تلك المناطق إلى شراء غواصات بحرية جديدة، بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل أهداف التنمية الصناعية والتكنولوجية المحلية، وهيبة الدولة عالمياً.

المتطلبات اللازمة لامتلاك غواصات قوية

ترى الدراسة أن انتشار الغواصات المقاتلة حول العالم، وسعي العديد من الدول إلى شرائها، يعكس مؤشرات هامة للتسلح. ويؤكد الكاتب أن العبرة ليس بالكمّ، ولكن بالمواصفات الفنية للغواصات ومدى قدرة وأنظمة تسلحها، ومن ثم فإن زيادة الإقبال على امتلاك الغواصات لا يعني بالضرورة تهديداً للأمن العالمي.

وبالتالي، فإن الغواصات البحرية المقاتلة تحتاج إلى صفات أكثر تعقيداً بكثير من الموجودة على السفن، من أجل أن تتحول إلى مصدر قوة وتهديد حقيقيين. ولذلك، فإن عدداً كبيراً من دول العالم لديها أقل من أربع غواصات، حيث إن دولاً مثل (أندونسيا، والإكوادور، وماليزيا، والبرتغال، وفنزويلا) لديها غواصتان فقط، في حين نجد أن دولاً مثل (إسرائيل، وإيران، وليبيا، وجنوب أفريقيا، وأسبانيا) لديها ثلاثة غواصات، ودولة مثل أوكرانيا لديها غواصة واحدة فقط.

وفي ذات السياق، يوضح الكاتب أن صيانة وخدمة الأنظمة المعقدة مثل الغواصات، يتطلب خبرة تقنية كبيرة، مما يضطر عدداً كبيراً من الدول إلى إرسال غواصاتها إلى دول أخرى من أجل عمل تجديدات بها، لأن الدول تواجه صعوبات كبيرة في التعامل مع الغواصات، وفي مواجهة المشكلات الخاصة بها، فالبحرية الاسترالية مثلًا تمتلك ست غواصات من طراز "كولينز" مُصممة في السويد وتم انتاجها في استراليا، وتعد مثل هذه القوارب من الأكثر تقدماً بين الغواصات التقليدية في العالم، وقد عانت من مشاكل شتى في الصيانة، مما أدى إلى انخفاض فرص التدريب للطاقم، وأصبحت الست غواضات، اثنتين منها فقط متاحة للنشر الفوري، ومثلهما في التدريب، واثنتين آخريين في الصيانة.

ولذلك، يشدد الكاتب على ضرورة أن تخضع الغواصات البحرية للصيانة المجدولة، لأنها تعتبر من أكثر الآلات تعقيداً، حيث إن الدول التي لا تملك الأموال الكافية سيصبح من الصعب عليها تجديد وتحديث غواصاتها، وبالتالي سوف تضطر إلى عمل ذلك محلياً، وهو أمر صعب وشاق ومعقد، مثلما فعلت إيران في غواصاتها الروسية، حيث رفضت موسكو إمداد طهران بالمعلومات التقنية أو بقطع الغيار، مما اضطر إيران إلى عمل ذلك محلياً من أجل ترميم وإسلاح إحدى غواصاتها، وهو ما أخذ سبع سنوات كاملة.

على جانب آخر، فإن الأساطيل الأمريكية والبريطانية والهولندية والألمانية واليابانية والسويدية تحافظ على علاقات وثيقة مع شركات التصميم الأصلي للغواصات المقاتلة، وتهتم بالصيانة المستمرة والتدريب المستمر لها من أجل استخدامها بفعالية في أي وقت. ويظل التحدي الأكبر هو وجود ما يكفي من الموظفين بشكل منتظم، حيث إن البحرية البريطانية مثلاً تعاني غواصاتها من نقص عدد الموظفين المدربين، مما يجعلها غير قادرة على نشر كل غواصاتها في توقيت واحد وبفعالية كاملة، على عكس البحرية السويدية التي تكون قادرة على إرسال غواصاتها الخمس إلى البحر في وقتِ واحد بسبب وجود موظفين كافيين ولديهم الكفاءة والخبرة المطلوبة.

تأثير انتشار الغواصات المقاتلة على الأمن الدولي

هناك مخاوف لدى عدد من المحللين من تهديد الانتشار السريع للغواصات البحرية المقاتلة للأمن والسلم العالميين، ولكن الكاتب يرى أن التهديدات المتوقعة من هذه الغواصات على الأمن العالمي مُبالغ فيها، لأن الأدلة المتاحة تشير إلى أن بناء والحفاظ على غواصة ذات فاعلية قائمة ومستمرة هو أمر غاية في التعقيد وذات تكلفة مرتفعة.

وبالنظر إلى مرافق الصيانة والخدمات اللوجستية المتعلقة بالغواصات حول العالم، فإن هناك عدد كبير من البلدان التي تمتلك غواصات ليس لديها القدرة على الحفاظ على قواربهم آمنة في البحر، بل إنه لا يمكن أن يكون هناك تدريب مستمر للطاقم بشكل صحيح بدون أخطاء مكلفة أو حوادث مميتة.

ووفقًا لذلك، فإن أي تقييم للتهديد الاستراتيجي الذي يمكن أن يشكله انتشار الغواصات البحرية، ينبغي أن يركز على فعالية صيانتها وخدماتها اللوجستية ووجود عمليات توظيف وتدريب مستمرين للطاقم وقادته، لأنه في ظل وجود طاقم قليل الخبرة من الممكن أن يؤدي ذلك إلى حدوث عواقب مميتة، ومثال على ذلك القوات البحرية الهندية التي تعاني نقصاً في عدد موظفي خدمة الغواصات منذ إنشائها في مطلع ستينيات القرن الماضي، مما حدا بها في التسعينيات إلى جذب موظفين وفق المعايير المطوبة بالرغم من الأجور المرتفعة.

أما عن الحوادث المميتة، فيشير الكاتب إلى أنه في أغسطس 2013 غرقت غواصة روسية الصنع في مومباي وقُتل طاقمها المكون من 18 فرداً، وذلك نتيجة قلة الخبرة وسوء استخدام الذخيرة، كذلك تناول الإعلام الهندي الأحوال المعيشية القاسية على متن الغواصات روسية الصنع، مما جعل التوظيف في المستقبل على تلك الغواصات أمراً صعباً للغاية.

خلاصة ما أوردته الدراسة، أن ثمة انتشار عالمي ملحوظ للغواصات البحرية المقاتلة يصل إلى ما يمكن وصفه بسباق تسلح لامتلاك هذه الغواصات، وكذلك فإن هناك اهتمام عالمي متزايد من أجل أن تكون تلك الغواصات صالحة للعمل بأعلى قدرة ممكنة، وذلك بالتركيز على تدريب طواقم الغواصات وإمدادهم بالخبرات الكافية. ومن ناحية أخرى، فإن القوات البحرية حول العالم تواجه العديد من التحديات الجسيمة في التعامل مع الغواصات، ولذلك فإن أي حديث عن تهديد الغواصات للأمن الدولي يجب ألا يكون مُبالغ فيه أو في إطار العموميات، بل يتعين دراسة كل حالة بعناية من أجل الوصول إلى استنتاج صحيح يعكس الواقع، ولا يكون بعيداً عنه بالتهوين أو بالتهويل.

* عرض مُوجز لدراسة تحت عنوان: "السباق نحو القاع: الانتشار العالمي للغواصات والأمن الدولي"، الصادرة عن "كلية الحرب البحرية الأمريكية"، شتاء 2015.

المصدر:

Jan Joel Andersson, The Race to the bottom: Submarine proliferation and International Security, Naval War College Review, Volume 68, Number 1 (USA, Naval War College, winter 2015).