الدعم الروسي:

تمكن كازاخستان من استيعاب الاحتجاجات الداخلية

13 January 2022


شهدت كازاخستان، في 2 يناير 2022، احتجاجات عنيفة إثر ارتفاع أسعار بترول الغاز المسال، والتي بدأت في مدينة زاناوزن، ثم انتشرت في جميع أنحاء البلاد. وقام المتظاهرون خلال الاحتجاجات بالاستيلاء على مطار مدينة "ألماتي"، وصولاً لإضرام النيران في مكتب رئيس البلدية والمباني الحكومية الأخرى. وأكد الرئيس الكازاخي، قاسم جومرت توكاييف، تعرض ألماتي، العاصمة الاقتصادية للبلاد، لهجوم شارك فيه نحو 20 ألفاً من قطاع الطرق، وبلغت التقديرات الأولية للأضرار المادية الناجمة عن هذه الاضطرابات حوالي 175 مليون يورو. 

أسباب اشتعال الأزمة

لم يكن ارتفاع أسعار الوقود هو السبب الوحيد الذي أشعل هذه الاحتجاجات، وإنما مثّل غطاءً لمطالب اقتصادية وسياسية أخرى رفعها المتظاهرون، ويمكن توضيح هذه الدوافع على النحو التالي:

1- ارتفاع أسعار الوقود: خفضت الحكومة الكازاخية من الدعم المقدم لغاز البترول المسال، وهو ما أدى إلى تضاعف سعره. ويلاحظ أن غاز البترول المسار يستخدم على نطاق واسع لتزويد السيارات بالوقود، نظراً لرخص سعره مقارنة بالبنزين، مما تسبب في احتجاجات على ارتفاع أسعاره في مدينة زاناوزن، ثم ما لبثت أن امتدت إلى باقي أنحاء البلاد.

ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تشهد هذه المدينة اضطرابات واسعة، فقد سبق وأن شهدت إضراباً لعمال النفط استمر لأكثر من ستة أشهر في عام 2011، وانتهى بمواجهة عنيفة حكومية أسفر عن مقتل 16 شخصاً على الأقل. 

2- تدهور الأوضاع الاقتصادية: تأتي الأزمة وسط تصاعد أزمة الاقتصادية، لاسيما في ضوء سيطرة عدد قليل من السكان على فوائد الثروة النفطية التي تتمتع بها البلاد. كما تتزايد مشاعر الإحباط جراء انخفاض الرواتب، وظروف العمل السيئة، والفساد المستشري لسنوات. وأثر ارتفاع معدلات التضخم سلباً على مواطني الطبقة العاملة والمتوسطة، خاصة أن الحد الأدنى للأجور يقل عن نحو 100 دولار أمريكي شهرياً.

وعلى الرغم من احتواء كازاخستان على 40% من الإنتاج العالمي من اليورانيوم، بل وتمتع الدولة باحتياطيات هائلة من النفط، مثل الفحم والمعادن النفيسة، فإن حوالي 162 شخص يستأثرون بـ 55% من إجمالي الثروة بالدولة، كما يعيش بالبلاد خمسة من المليارديرات المصنفين ضمن قائمة فوربس لأغنى رجال العالم.

3- تراجع وعود الإصلاح السياسي: حرك المتظاهرون في البداية الأوضاع الاقتصادية الصعبة، غير أنها سرعان ما تحولت إلى مطالب بإصلاح شامل للحكومة. ووجه المتظاهرون غضبهم تجاه الرئيس السابق، نور سلطان نزارباييف، الذي على الرغم من تنحيه عن السلطة في 2019، بعد ثلاث عقود من الحكم، وتنصيبه لتوكاييف خلفاً له، فإن الأول احتفظ لنفسه بسلطات رئيسة باعتباره "زعيماً مدى الحياة".

ويوجه العديد من المواطنين الكازاخ اللوم لنزارباييف لسماحه بانتشار الفساد، خاصة مع تصاعد ثروات بعض أفراد عائلته الذين أصبحوا أثرياء من خلال امتلاكهم حصصاً في شركات تجارية مهمة.

وعلى الرغم من وعود الرئيس توكاييف عندما تولى المنصب في عام 2019 بالإصلاح السياسي من خلال زيادة الحريات السياسية، والإصلاح القضائي، والقضاء على الفساد، فقد استمرت سياسات تحجيم المعارضة، وهو ما وضح في انتخابات يناير 2021 البرلمانية، والتي أسفرت عن فوز ساحق للحزب الحاكم "نور أوتان"، مع فوز عدد محدود من المعارضين المواليين للحكومة.

استجابة حكومية سريعة:

شهدت كازاخستان احتجاجات واسعة سعت الحكومة للتجاوب معها، واستيعابها عبر تبني عدة إجراءات، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:

1- إقالة توكاييف الحكومة ونزارباييف: أقال رئيس الدولة، قاسم جومرت توكاييف، الحكومة، وخفض سعر الغاز الطبيعي المسال عند مستوى 50 تنغ (0,1 يورو) للتر الواحد، مقابل 120 في بداية العام، كما تم تثبيت أسعار غاز البترول المسال، وأسعار جميع وقود المركبات لمدة 6 أشهر. كما استقال الرئيس السابق، نور سلطان نزارباييف، من منصبه رئيساً لمجلس الأمن في البلاد، نظراً لتصاعد مشاعر السخط تجاهه. 

2- استدعاء الدعم العسكري الروسي: دعا توكاييف منظمة معاهدة الأمن الجماعي، الكتلة الأمنية الإقليمية التي تهيمن عليها روسيا، وتضم في عضويتها أرمينيا وبيلاروسيا وقيرغيزستان وطاجيكستان، للتدخل لمساعدة البلاد على مواجهة الاحتجاجات المشتعلة. وأرسلت المنظمة، وفقاً لبعض التقديرات، حوالي 2500 جندي، ومُنحت حق استخدام الأسلحة في حالة تعرضها لهجوم.

وتمكنت القوات الروسية من السيطرة على مطار "ألماتي" إلى جانب القوات الأمنية الكازاخية، وتُعد هذه المدينة على درجة من الأهمية، خاصة أنها العاصمة الاقتصادية للبلاد، فضلاً عن كونها أكبر مدنها. وأعلن توكاييف استعادة الاستقرار بالبلاد، في أعقاب ذلك.

دعم دولي غالب:

يمكن استعراض مواقف الدول الرئيسة، وتحديداً روسيا والصين والولايات المتحدة، من الأزمة الكازاخستانية في التالي:  

1- التدخل الروسي العسكري: جاء التدخل الروسي ليكشف عن حرص موسكو على منع الثورات الملونة من الاقتراب من جوارها المباشر، حتى إذا استدعى ذلك التدخل العسكري من جانب موسكو، على غرار الدعم الروسي للرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، بعد اندلاع احتجاجات شككت في فوزه بانتخابات 2020.

ومن جانب ثانٍ، جاء التدخل الروسي الحاسم، نتيجة للمصالح الروسية الحيوية في كازاخستان، بدءاً من ميناء بايكونور الفضائي، الذي تتشارك فيه روسيا مع كازاخستان، وأوكرانيا، وصولاً لاعتماد روسيا على الغاز الكازاخستاني، في بعض الأحيان، عندما يتراجع الإنتاج الروسي.

وتعد كازاخستان مصدر عالمي رئيسي للنفط والغاز حيث إن لديها ثاني عشر أكبر احتياطيات، مؤكدة من النفط الخام في العالم، ويعتمد اقتصادها بشكل كبير على بيع الهيدروكربونات إلى كل من أوروبا وآسيا. وقد اعتادت على تصدير معظم هذه الموارد عبر خطوط الأنابيب الروسية. 

2- الدعم الصيني الدبلوماسي: أيد الرئيس الصيني، شي جين بينج، الحكومة الكازاخستانية ضد ما وصفه بمحاولة "الثورة الملونة"، وهو ما يرجع إلى المصالح الاقتصادية الكبيرة للصين هناك، فقد بلغ إجمالي التجارة الثنائية بين الصين وكازاخستان حوالي 22.94 مليار دولار أمريكي في أول 11 شهراً من 2021، وتقدر الاستثمارات الصينية بنحو 34 مليار دولار أمريكي في كازاخستان، ومن المقرر الانتهاء من حوالي 56 مشروعاً مدعوماً من الصين تبلغ قيمتها حوالي 24.5 مليار دولار بحلول عام 2023.

كما تعتمد بكين على نحو 5% من وارداتها من الغاز الطبيعي على كازاخستان، واستحوذت شركة البترول الوطنية الصينية المملوكة للدولة على حصة قدرها 8.33% في حقل كاشاجان النفطي الكازاخي مقابل 5 مليارات دولار في عام 2013، فضلاً عن كونها بلد ترانزيت لنقل النفط والغاز للصين. وتُعتبر كازاخستان حلقة وصل مهمة في مبادرة الحزام والطريق. 

وعلى الرغم من الأهمية الاقتصادية الكبيرة لكازاخستان بالنسبة للصين، فإنها اكتفت بالدعم الدبلوماسي لها، عبر اتهام ما يجري في البلاد باعتباره ثورة ملونة، في إشارة إلى وجود "أيادٍ غربية" تسعى لزعزعة الاستقرار في هذا البلد، ويبدو أن بكين تحاشت التدخل العسكري مراعاة للحساسية الروسية، خاصة أن موسكو تنظر إلى آسيا الوسطى باعتبارها فناءً خلفياً لها. 

3- الترقب الأمريكي: على الرغم من الاستثمارات الأمريكية في قطاع الطاقة في كازاخستان، بالإضافة إلى انخراطها مع كازاخستان في القضاء على أسلحة الدمار الشامل بعد نهاية الحرب الباردة، فإن واشنطن تتمتع بعلاقات محدودة مع كازاخستان، مما أعطى الولايات المتحدة تأثيراً محدوداً في الأزمة الكازاخية. 

ومن جهة أخرى، فإنه نظراً لسابق تورط الولايات المتحدة في دعم الثورات الملونة المناهضة لروسيا في الدول المجاورة لها، فإن دعم واشنطن للمحتجين الكازاخ، سوف يجعل الكرملين ينظر إلى الأحداث باعتباره حلقة جديدة من الثورات الملونة الموجهة ضد النفوذ الروسي في المنطقة، وهي خطوة غير مفيدة في الوقت الذي تسعى فيه واشنطن للتفاوض مع موسكو لإيجاد حل سلمي للأزمة الأوكرانية. 

كما أن العديد من الأدوات التي تستخدمها الولايات المتحدة عادة في هذا النوع من المواقف، أي فرض العقوبات، لا يعد ملائماً للتعامل مع كازاخستان؛ حيث إن شركات الطاقة الأمريكية الكبرى مندمجة بشكل كثيف في الاقتصاد الكازاخستاني، ولذلك، فإن فرض عقوبات على هذه الصناعات ستخاطر بحدوث نقص في الإنتاج قد يؤثر على حلفاء واشنطن من الدول الأوروبية.

وتتمثل أبرز المخاوف الأمريكية من الأزمة في تمدد روسيا عسكرياً في كازاخستان، وهو ما وضح في تحذير وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين، من عواقب طويلة المدى لوجود قوات تقودها روسيا في البلاد، ويبدو أن واشنطن تتخوف من حفاظ الجيش الروسي على وجود دائم في شمال البلاد، التي تحتوي على معظم آبار النفط والغاز في البلاد، فضلاً عن انتماء مواطني هذه المنطقة إلى الإثنية الروسية.

وسعى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لإزالة هذه الهواجس عبر التأكيد أنه سيتم سحب قوات منظمة معاهدة الأمن الجماعي من كازاخستان في أقرب وقت ممكن، وذلك بعد عودة الوضع إلى طبيعته.

وفي التقدير، يبدو أن كازاخستان تمكنت من استعادة السيطرة الأمنية على البلاد في أعقاب الاحتجاجات الأخيرة، وذلك من خلال الاستجابة لبعض مطالب المحتجين، فضلاً عن توظيف القبضة الأمنية في مواجهة مثيري الشغب. وتمكنت روسيا من الاستجابة بسرعة لطلب كازاخستان بدعمها لاستعادة الاستقرار الأمني، وذلك في مسعى من الكرملين لمنع أي اضطرابات على حدوده الجنوبية تستغلها الدول الأوروبية لتقويض النفوذ الروسي هناك، فضلاً عن التأكيد لحلفائها على أنها حليف يمكن الاعتماد عليه، وذلك على عكس الولايات المتحدة التي تتخلى عن حلفائها في بعض المواقف.