نموذج متراجع:

هل تستطيع "الثقافة الأمريكية" قيادة الصراع مع الصين؟

27 December 2021


عرض :سالي يوسف

صاغت الثقافة والفنون والإبداعات الفكرية الأمريكية ما يعرف بـ"الحلم الأمريكي" حول العالم، بل وجعلته جزءاً من أدوات الصراع الجيوسياسي مع الاتحاد السوفييتي إبان الحرب الباردة وفقاً لما تذهب له بعض الأدبيات، لكن هل هذا البُعد الثقافي لا يزال قائماً في وقت يتصاعد فيه الحديث في واشنطن عن حرب باردة جديدة مع الصين، بل ويُشير الواقع إلى أنها تركز أكثر على البعدين الاقتصادي والتكنولوجي.

من هنا، تبدو أهمية ذلك العرض النقدي الذي قام به بيفرلي كايج في مجلة فورين أفيرز مؤخراً حول كتاب لويس ميناند الجديد المعنون بــ "العالم الحر: الفن والفكر في الحرب الباردة The Free World: Art and Thought in the Cold War، إذ يغطي الكتاب الفترة الزمنية ما بعد الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، والتي شهدت هروب العديد من أبرز المفكرين والفلاسفة والمبدعين الذين وضعتهم أفكارهم في طليعة الثقافة الغربية من بلادهم التي تأثرت بالحرب نحو الولايات المتحدة الأمريكية.

يشير كايج إلى أنه ولفترة وجيزة بعد الحرب العالمية الثانية، أثبتت الليبرالية الأمريكية قوتها وبريقها من خلال خلق مجتمع منفتح، بما يكفي لتعزيز التبادل الإيجابي في مجال الثقافة والفنون والأفكار الإبداعية، إلا أنه عاد وأكد انتهاء تلك اللحظة في ستينيات القرن الماضي، بعد أن شوهت التحديات الداخلية والخارجية للولايات المتحدة الأمريكية الصورة الذهنية باعتبارها بؤرة "العالم الحر"، لكنها في نهاية المطاف أنتجت عصراً ذهبياً غنياً بالتجارب الفكرية والفنية، والتي لاقت القبول من جمهور عامة الشعب.

ازدهار الابتكار الثقافي: 

يربط ميناند في كتابه بين فترة ازدهار الابتكار الثقافي في الولايات المتحدة والحرب الباردة، إذ اعتبر أن فكرة "العالم الحر" التي تجسدها الولايات المتحدة كانت شعوراً ودافعاً وشكلاً من أشكال التعبير أكثر من كونه نوعاً من كيان سياسي متماسك. لكن كايج في عرضه وتحليله للكتاب يرى أن ذلك الأمر كان "واهياً"، مشيراً للصراع النفسي الذي عاشه كبار الفلاسفة والمفكرون الأكاديميون الذين هربوا إلى الولايات المتحدة الأمريكية تجاه مصير العالم إبان صراع الحرب الباردة خاصة مع ظهور الرعب النووي. 

ويعرض كايج ما تناوله الكتاب عن أحد أهم الموضوعات في سياسات الولايات المتحدة الأمريكية في القرن العشرين، وهي؛ الطرق التي أعادت بها الحرب الباردة - وشبح الشيوعية - تشكيل كيان المجتمع الأمريكي كله. مشيراً لآراء بعض المؤرخين، مثل ماري دودزياك، وجليندا جيلمور الذين قاموا بالربط بين حالة النضال التي عاشها المجتمع الأمريكي للحفاظ على حقوقهم المدنية بعد الحرب العالمية وبين المناقشات التي تمت حول الشيوعية وثورة العالم الثالث. 

وأشار كايج كذلك إلى أنه لطالما كان واضحاً أن المشاعر المُعادية للشيوعية قد قيدت طموحات السياسة الليبرالية في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، عندما تم الاستهزاء بالرعاية الصحية الشاملة باعتبارها "الطب الاجتماعي"، واتهام أنصار حقوق العمال بالتعاطف مع الشيوعية. ورغم ذلك وبطرق أقل وضوحاً، دفعت الحرب الباردة الولايات المتحدة إلى اتجاهات سياسية أكثر تقدماً كالنضال ضد مجتمع ادعى أنه يدافع عن الأمن الاقتصادي من المهد إلى اللحد، ولتقديم نفسها كدولة نموذجية قادرة على منح مواطنيها أفضل نوعية حياة في العالم.

وأكد كايج أيضاً على تأثر الفن والفكر في المجتمع الأمريكي بمجريات الأحداث للحرب الباردة، مشيراً للحالة التي وصل إليها القطاع الأكاديمي خلال تلك الفترة حيث أدى تدفق الأموال الفيدرالية إلى الجامعات - والمدفوعة بمنافسة المعرفة خلال تلك الفترة الزمنية - إلى إعادة هيكلة الحياة الفكرية، سواء كانت لأهداف جيدة أو غير جيدة. كما أدى الانهيار الداخلي للجبهة الشعبية، إلى جانب الأجواء القمعية للمكارثية، إلى شعور جيل كامل بالتفكك وخيبة الأمل.

وأشار كيج إلى أن دوامة الصراعات الجيوسياسية دفعت الآلاف من الفنانين والمثقفين الأوروبيين الرائدين في مجالهم للمجيء للولايات المتحدة الأمريكية خلال فترة الحرب الباردة، خاصة في ظل صعوبة التبادل الثقافي مع كل من الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية، وهو الذي كان محفوفاً بالمخاطر بشكل متزايد. 

وأبرز كايج الأبطال الأكثر حيوية في كتاب ميناند وهم اللاجئون الأوروبيون الذين أُجبروا بسبب الظروف على الفرار إلى الولايات المتحدة الأمريكية واستقالوا من مناصبهم في بلادهم لتحقيق أقصى استفادة منهم في المجتمع الأمريكي. ومنهم المُنظِّرة السياسية الألمانية المولد "حنا أرندت" التي وصلت إلى نيويورك عام 1941، على الرغم من عدم إجادتها اللغة الإنجليزية. كما وصل عالم الأنثروبولوجيا "كلود ليفي شتراوس" في نفس العام، حيث استغل وجود عرض لوظيفة في مدرسة جديدة كشريان حياة للخروج من فرنسا التي احتلها النازيون. 

وعلى مدار أواخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات من القرن الماضي، قام العشرات من كبار المفكرين والفنانين والكتاب برحلات مماثلة، وكان العديد منهم يهوداً فروا للنجاة بحياتهم. وبحسب أحد التقديرات، فقد انتقل أكثر من 700 من الفنانين التشكيليين الأوروبيين، بخلاف عدد من الرسامين والنحاتين والمصورين إلى الولايات المتحدة الأمريكية بين عامي 1933 و1944. وعند وصولهم، شكَّلوا مجتمعات نابضة بالحياة لمواصلة أعمالهم وأصبح معظمهم أمريكيين بطريقة أو بأخرى.

حرب ثقافية عالمية:

ووفقاً لميناند، فقد كان المواطنون المولودون في الولايات المتحدة الأمريكية جزءاً من المزيج الثقافي أيضاً، وهذه كانت ميزة هذا العصر حيث أُتيحت الفرصة للأمريكيين للاختلاط وتبادل الأفكار مع أفضل ما يمكن أن تقدمه أوروبا وذلك في مدن مثل شيكاغو، ولوس أنجلوس، ونيويورك بدلاً من باريس التي كانت مركز الثقافة الغربية قبل الحرب.

وقال كايج إن الحرب الباردة قد أعطت إحساساً بالحيوية والمخاطر الكبيرة لكل ما يحدث تقريباً في الفنون والأفكار الأمريكية وهو ما دفع الأمة للإعلان عن حرب ثقافية عالمية. وأكد أن الدافع وراء هذه النهضة الثقافية في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي هو القلق الأمريكي بشأن ما إذا كانت الإنجازات الفكرية والفنية للولايات المتحدة الأمريكية جديرة بالمكانة الجديدة للبلاد باعتبارها دولة ذات قوة عظمى عالمية والمدافع الرئيسي عن الديمقراطية الليبرالية.

وأشار الكاتب إلى ما كتبه ميناند، بأنه كان هناك شك واسع النطاق، حتى بين الأمريكيين، حول قيمة وتطور الفن والأفكار الأمريكية. وبالتالي وقع على عاتق الفنانين والكتاب والمثقفين في البلاد مع بداية الحرب الباردة مهمة إثبات أنهم كانوا بالفعل على استعداد للقيادة العالمية التي فُرضت عليهم.

التحول لقوة عظمى:

تناول كايج رؤية ميناند حول أسباب تحول الولايات المتحدة الأمريكية إلى دولة عظمى بعد الحرب مشيراً إلى الاستعداد - على الأقل داخل المؤسسة الليبرالية - للتفكير في عيوبها وإخفاقاتها. كما أدى الجمع بين الطموح الإمبراطوري والفردية الليبرالية والتبادل عبر الأطلسي والثراء الاجتماعي إلى إنتاج كتب ورسومات ومؤلفات موسيقية رائدة خلال هذا العصر.

وأشار كايج خلال تحليله إلى كتاب ويليام ف. باكلي الأول، وهو مؤسس مجلة National Review في عام 1955، المعنون بــ "الله والرجل في جامعة ييل" والذي نُشر في عام 1951، والذي أكد فيه أن جامعته "الجامعة الأمريكية" أصبحت موقعاً للفكر الليبرالي "الشنيع"، واستشهد أيضاً بما تناوله كتاب ميناند الذي سلط الضوء فيها على رأي باكلي بأن جامعة ييل كانت، بالمعنى النسبي، معقلاً للفكر المحافظ، حيث يرى الكاتب أن هذا الرأي كان صحيحاً جزئياً.

وأبرز كايج خلال تحليله كتاب ميناند أنه رغم استهداف التنظيم المحافظ في الولايات المتحدة الأمريكية لأهم مؤسسة للحياة الفكرية خلال الحرب الباردة وهي "الجامعة الأمريكية"، فإنه عاد وأكد أن النظام الذي تم تطبيقه في الجامعة الأمريكية بدءاً من مشروع قانون قدامى المحاربين الأمريكيين العائدين من الحرب العالمية الثانية، وامتداداً إلى التمويل الجديد للعلوم والفنون - كأهم وأبرز المشاريع الهادفة لفترة ما بعد الحرب لجعلها الأفضل في العالم - أدى إلى مجيء جيل من المفكرين تجرؤوا على التعبير بأفكار جديدة، ولكنهم ظلوا مرتبطين هيكلياً بالمشروع الليبرالي.

وأشار الكاتب إلى رؤية ميناند تجاه حالة التضارب بشأن صعود الجامعة كمركز للحياة الفكرية، مع وعدها بالتوظيف الكامل للمثقفين، إذ أصبحت هناك نزعة لامتصاص الطاقات الإبداعية في المجالات العلمية المتخصصة، مستشهداً على ذلك بتصريح ليونيل تريلينج عند ترقيته إلى أستاذ في جامعة كولومبيا، قائلاً: "أشعر بالخجل من الالتحاق بجامعة". "لديّ سمعة عظيمة في العالم الأكاديمي. هذا الفكر يجعلني أتراجع".

وأبرز كايج ما واجهته بعض الفئات من المثقفين من صعوبات حيث تم استبعاد العديد من المفكرين اليهود، كما لا تزال النساء وأصحاب البشرة الملونة يواجهون صعوبات أكبر. ويحدد ميناند الأفراد في كلتا الفئتين الذين تمكنوا من تجاوز قيود العصر، بما في ذلك الناشطة النسوية والمؤلفة بيتي فريدان والكاتب جيمس بالدوين، لكنهما احتلا مكاناً مختلفاً قليلاً في التعبير عن آرائهم بالمقارنة مع شخصيات مثل المفكر كينان وتريلينج، وغيره ممن امتلكوا قوة مؤسسية وثقافية حقيقية. كما أن قلة منهم، مثل المنظِّرة السياسية الألمانية المولد أرندت، تمكنوا من الحصول على درجات جامعية لائقة.

وفي ظل انهيار النهضة الثقافية في فترة ما بعد الحرب، أيد كايج رؤية ميناند بشأن أسباب هذا الانهيار، بأنه يعزو إلى التحولات السياسية في الداخل والخارج. ودعت حركة الحقوق المدنية إلى التشكيك في الصورة الذهنية للولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها معقلاً للمساواة الليبرالية. وبالمثل، تحدت حرب فيتنام حكمة المشروع الإمبراطوري الأمريكي. في الوقت نفسه، أدى التوسع السريع للثقافة الشعبية الجماهيرية، خاصة في صناعة التلفزيون والموسيقى، إلى عدم اقتصار التركيز في الفترة ما بعد الحرب على مستويات الفن والفكر الرفيعة.

يؤكد كايج أنه قد يكون من الصعب تخيل كيف يمكن للمرء أن يستعيد عالماً يُنظر فيه إلى الإنجازات في الفنون الجميلة والموسيقى الكلاسيكية - أو حتى التمويل القوي للجامعات العامة - على أنها طريق إلى القوة العالمية والإشادة الشعبية. 

وأشار إلى رؤى بعض المتنبئين بشأن ما تواجهه الولايات المتحدة الأمريكية الآن من حرب باردة جديدة مع الصين. مشيراً إلى عدم احتمالية أن تنتج هذه الحرب الباردة أي نوع من النهضة الثقافية، خاصة في ظل الدعوات المرتكزة على زيادة تمويل الجامعات بشكل حصري في مجالي البحث العلمي والتكنولوجي، وهي المجالات التي يبدو أن النظام الصيني يتفوق فيها. 

كما أشار كايج في تحليله إلى وجود القليل من القلق المقبول بشأن مستقبل الفنون والآداب الأمريكية حيث إنه في الأربعينيات من القرن الماضي، أعرب الأمريكيون عن قلقهم العميق بشأن وضعهم كمؤثرين ثقافيين، إلا أنه يبدو بعدما يقرب من قرن من الزمان، تظل الثقافة الجماهيرية هي واحدة من المجالات القليلة التي لا تزال فيها قوة الولايات المتحدة الأمريكية لا مثيل لها في جميع أنحاء العالم. كما أن الاستقطاب السياسي لا يترك مجالاً كبيراً لهذا النوع من الاستثمار مثلما حدث في أوائل الحرب الباردة السابقة حيث تم احتضان اللاجئين الفكريين والفنيين، وهو ما ساهم في إنتاج أشكال معينة من النهضة الثقافية. 

واختتم كايج حديثه بأن أبرز المؤيدين لوجود "الحرب الباردة الجديدة" لا يرون صراعاً أيديولوجياً بالدرجة الأولى، بل ترتكز المخاوف اليوم على المنافسة الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية ضد الابتكار الثقافي والذهني والحريات.

المصدر:

The Council on Foreign Relations, Foreign Affairs, REVIEWS & RESPONSES, Beverly Gage, The Art of War: Can Culture Drive Geopolitics?, January/February 2022, Volume 101, Number 1, p – p: 166 – 172.