الأزمات المُتداخلة وعدم الاستقرار في بعض الدول العربية

20 November 2021


عادت الاحتجاجات إلى الظهور من جديد في عدد من الدول العربية خلال الفترة الأخيرة على إيقاع مطالب وشعارات مختلفة، وهي الاحتجاجات التي عززتها الظروف الاستثنائية والتداعيات الناجمة عن انتشار وباء كورونا في العالم، فضلاً عن وجود دوافع سياسية تتعلق بتعثر المراحل الانتقالية ورفض الشارع والتيارات المعارضة لإجراءات وسلوكيات النخب الحاكمة في هذه الدول.

ويحاول هذا المقال الوقوف عند هذه الاحتجاجات التي طالت عدداً من دول المنطقة في الأسابيع والأشهر الماضية، مع توضيح سياقاتها والعوامل التي غذّتها، وكذلك تداعياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

السودان.. تعثر انتقالي:

بعد مرور أكثر سنتين على الاحتجاجات والاعتصامات التي أسفرت عن سقوط نظام عمر البشير في السودان، ووجود مجلس انتقالي، ثم حكومة انتقالية تضم مدنيين وعسكريين تكلفت بتدبير المرحلة، في أفق إجراء انتخابات تفرز مؤسسات دستورية بشكل ديمقراطي؛ عادت الاحتجاجات من جديد إلى عدد من مناطق البلاد، تحت وقع مجموعة من الأزمات السياسية والاجتماعية التي لم تفلح الحكومة ومجلس السيادة في الحد منها، ثم اتخاذ الفريق أول عبدالفتاح البرهان، يوم 25 أكتوبر الماضي، إجراءات اعتبرها ضرورية لتصحيح مسار الثورة السودانية.

وعلى إثر تلك الإجراءات، خرج الآلاف من السودانيين إلى الشوارع في العديد من المدن للتعبير عن رفضهم لها، وللاعتقال الذي طال عدداً من الشخصيات المدنية الحكومية، ولإلغاء العمل بعدد من المؤسسات والمقتضيات الدستورية.

وعلى الرغم من إعلان المتظاهرين سلمية الاحتجاجات والمسيرات، فإن ذلك لم يمنع من سقوط عدد من الضحايا، مما أفرز مخاوف عديدة من أن يتجه السودان نحو المزيد من التوتر والعنف؛ بل ودفع عدداً من المنظمات الحقوقية الدولية إلى المطالبة بوقف استخدام القوة في مواجهة المتظاهرين، وهو الأمر الذي عبّرت عنه الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي.

وفي الوقت الذي أكد فيه الفريق أول البرهان أن ما قام به لم يكن انقلاباً، بل توجهاً طبيعياً لتصحيح مسار المرحلة الانتقالية، بالنظر إلى عدم توافق الفرقاء السياسيين بشأن عدد من القضايا المتصلة بمواجهة مختلف الإشكالات المطروحة أو بناء المؤسسات؛ لم يخف كثيرون استياءهم ممّا اعتبروه تراجعاً بعد المكتسبات السياسية التي تحققت عقب رحيل البشير، بل وتخوفهم من مستقبل الوضع في السودان الذي يمكن أن يتدهور في أي وقت، ويؤجّل مرة أخرى إرساء مؤسسات قادرة على بناء دولة مدنية تتسع لجميع السودانيين.

ويبدو أن الأوضاع في السودان قد بدأت بـ "الانفراج الحذر"، مع تشكيل الفريق أول عبدالفتاح البرهان يوم 11 نوفمبر الجاري لمجلس سيادي انتقالي جديد لإدارة المرحلة الانتقالية، وذلك إلى جانب حكومة مدنية تم التعهد بتشكيلها في الأيام القليلة المقبلة.

العراق.. أزمات مستمرة:

ما زالت ارتدادات الاحتجاجات التي شهدها العراق في بداية شهر أكتوبر 2019 قائمة، مع تجدد التظاهرات التي أحيت الكثير من المطالب المتصلة بتحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير شروط العيش الكريم للمواطنين، والحد من التدخلات الخارجية في البلاد، خصوصاً من جانب إيران، علاوة على مكافحة الفساد، وصد الميليشيات المسلحة، ومحاسبة المتورطين في مقتل عدد من المشاركين في الاحتجاجات. واستمرت حالة الغضب الشعبي مع الظروف الصعبة التي تكبدها العراقيون بسبب تداعيات جائحة كورونا التي عمقت المعضلات الاجتماعية في البلاد، وكادت أن تؤدي إلى انهيار المؤسسات الصحية.

وقد تجددت الاحتجاجات بالعراق في أعقاب الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعية التي شهدتها البلاد في أكتوبر 2021، بعدما بادرت الأطراف التي مُنيت بالخسارة في هذه الاستحقاقات، إلى الدخول في اعتصامات في بعض المناطق الحيوية في العاصمة بغداد وعدد من المدن الأخرى. 

ونظراً لتزامن الإعلان عن نتائج هذه الاستحقاقات مع الذكرى الثانية لاحتجاجات أكتوبر 2019، فقد أكد الكثير من التيارات والقوى المدنية والسياسية على ضرورة الاكتفاء بتخليدها عبر شبكات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية، وتلافي النزول إلى الميدان؛ حرصاً على تجنّب الاصطدام مع القوى المحتجة على النتائج والتي تقودها بعض القوى المقرّبة من إيران.

تونس.. الأداء الضعيف:

منذ رحيل نظام بن علي في تونس عام 2011، ظلّت البلاد تعاني من مفارقة، تتأرجح بين تراكم المبادرات السياسية والمكتسبات المؤسساتية من جهة، وضعف الأداء على المستوى الاقتصادي والاجتماعي من جهة ثانية. فقد شهدت البلاد مجموعة من المحطات الصعبة التي خرجت فيها الجماهير إلى الشارع، مطالبة بتحسين الأوضاع الاجتماعية ومواجهة مختلف المعضلات التي أثرت بالسلب على الأحوال المعيشية للمواطن وتزايد حدة الفقر والبطالة وارتفاع الأسعار، بفعل تراجع الاستثمارات الخارجية، وتدهور القطاع السياحي، وانخفاض سعر الدينار التونسي.

كما أن محك الممارسة السياسية أفرز مجموعة من الإشكالات متصلة بتفعيل مقتضيات الدستور، إضافة إلى عدم بناء تحالفات حكومية قوية ومنسجمة قادرة على مواجهة مختلف الإشكالات المطروحة، والتي طالما دفعت المواطنين للخروج إلى الشارع للاحتجاج.

ومع تدهور الأوضاع الاجتماعية في تونس بسبب جائحة كورونا وسوء أداء الحكومة السابقة برئاسة هشام المشيشي، وبروز اختلالات على مستوى تدبيرها؛ تنامى الاستياء الشعبي، وتزايدت الاحتجاجات التي عمت عدداً من مناطق البلاد، مطالبة بتحسين الأحوال الاجتماعية وباستقالة الحكومة وحلّ البرلمان. وفي ظل هذه التطورات المتلاحقة، أعلن الرئيس قيس سعيّد، في 25 يوليو الماضي، عن اعتماد مجموعة من التدابير الاستثنائية، وهو ما خلّف مواقف متباينة، ترجمتها الكثير من الاحتجاجات، سواء تلك التي ثمنت هذه الخطوة كسبيل لإخراج البلاد من حالة الركود الاقتصادي والمأزق السياسي الذي تعرفه، أو التي اعتبر فيها المحتجون الأمر تجاوزاً للشرعية الدستورية، من وجهة نظرهم، وطالبوا خلالها بعودة الحياة المؤسساتية إلى سابق عهدها.

لبنان.. صدمات متتابعة:

شهد مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020، انفجاراً كبيراً هزّ أركان المدينة، وخلف خسائر بشرية ومادية كبيرة، وتداعيات اقتصادية واجتماعية وسياسية هائلة، وهو ما ساهم في تدهور الأحوال المعيشية وانتشار البطالة والفقر، فضلاً عن تراجع المعاملات التجارية الخارجية وقطاع السياحة في لبنان.

وفي هذه الأجواء، شهدت لبنان سيلاً عارماً من الاحتجاجات الشعبية، ضد أداء النخب السياسية، مع المطالبة بمحاسبة المسؤولين عن التقصير الذي أفضى إلى الحادث، ما دفع رئيس الوزراء آنذاك، حسان دياب، إلى تقديم استقالته، قبل أن يبادر إلى ذلك أيضاً عدد من أعضاء حكومته والبرلمان.

وبالموازاة مع ما خلفته هذه الأحداث من صدمات وانعكاسات مست مختلف القطاعات، لم تستطع الحكومة اللبنانية تدبير جائحة كورونا بشكل فعال، حيث تمدد الوباء بشكل مخيف وشلّ الأنشطة الاقتصادية والتجارية بالبلاد، مما اضطرت معه العديد من الشركات إلى وقف أنشطتها وتسريح عمالها، وتم تسجيل أرقام مخيفة على مستوى الإصابات والوفيات، ما جعل المؤسسات الصحية تنهار أمام هذا الوضع الصعب.

وفي صيف 2021 عادت الاحتجاجات من جديد إلى مختلف المدن في لبنان، كرد فعل على تدني الخدمات الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية، وتراجع قيمة العملة اللبنانية أمام الدولار الأمريكي، والانقطاعات المتكررة في الكهرباء، والبنزين، ووجود نقص كبير في الأدوية والمواد الغذائية، وضعف القدرة الشرائية للمواطن، وعجز الفاعل الحكومي على اتخاذ تدبير فاعلة في هذا الخصوص.

الطابع الاجتماعي:

إن المتأمل في السياق الذي واكب هذه الاحتجاجات الأخيرة، يجد أن خلفياتها قد يكون قد غلب عليها الطابع الاجتماعي. وقد كان من الطبيعي أن تبرز الاحتجاجات التي اجتاحت كذلك عدداً من دول العالم بالنظر إلى الانعكاسات التي خلفتها جائحة كورونا على عدة مستويات، حيث إن جل دول العالم ما زالت منشغلة بالتداعيات الصحية للوباء، ويبدو أن الكثير من الانعكاسات الاجتماعية والاقتصادية ستبرز بقوة على الواجهة في المستقبل تبعاً لتقارير عدد من المؤسسات المالية ومراكز الأبحاث الدولية، وهي التداعيات التي لن تتوقف عند الدول النامية، بل سيطال الأمر أيضاً عدداً من الدول المتقدمة نفسها.

الخلاصة، إن ما يجري في بعض الدول العربية من احتجاجات تطالب بتحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وتوفير فرص الشغل، ومحاربة التهميش والفقر، وتحسين الخدمات الصحية؛ يمكن أن يتصاعد بشكل يفاقم من حالة عدم الاستقرار في هذه الدول، وذلك إذا ما لم يتم التعاطي مع هذه المطالب بقدر من الجدية.