قيد الاختبار:

مآلات الصراع الليبي بعد انتخاب سلطة جديدة

16 February 2021


نجح ملتقى الحوار السياسي المدعوم أمميًا في جنيف في اختيار سلطة تنفيذية جديدة، عبر نجاح قائمة تضم رئيسًا للحكومة وهو عبدالحميد دبيبة، ورئيسًا للمجلس الرئاسي وهو محمد المنفي مع عضوين آخرين بالمجلس، وقد قوبلت تلك النتائج بترحيب داخلي وإقليمي ودولي واسع، وهو ما يطرح تساؤلًا جوهريًا متعلقًا بمدى قدرة السلطة التنفيذية الجديدة، وهي سلطة مؤقتة بطبيعة الحال، على تحقيق خطوات إيجابية من أجل إنجاح المرحلة الانتقالية وصولًا إلى انتخابات عامة في ديسمبر 2021.

وجوه جديدة:

أفضت مخرجات اتفاق جنيف لتشكيل سلطة تنفيذية جديدة، على رأسها بعض الشخصيات غير المتصدرة للمشهد الليبي، والتي قوبلت بدعم من جانب الشخصيات المتصدرة للمشهد السياسي والعسكري الليبي خلال السنوات الأخيرة، وذلك على النحو التالي:

1- تصويت عقابي في جنيف: لم يكن متوقعًا فوز قائمة دبيبة-المنفي في التصويت على أعضاء السلطة التنفيذية بجنيف في الخامس من فبراير الجاري؛ إذ حصلت القائمة على 39 صوتًا، في مقابل 34 صوتًا للقائمة التي كان متوقعًا لها الفوز، وهي قائمة صالح-باشاغا، والتي تضم رئيس برلمان طبرق المستشار عقيلة صالح، ووزير داخلية الوفاق فتحي باشاغا.

إذ إن نفوذ الأخير في غرب البلاد، والدعم الذي يحظاه صالح في الشرق، جعلهما يبدوان خيارًا مناسبًا للمرحلة الانتقالية، بيد أن التصويت جاء مخالفًا لذلك، وبدا كأنه تصويت عقابي لشخصيات محسوبة على طرفي الصراع الرئيسيين شرقًا وغربًا، ولذا تم اختيار شخصيات جديدة في محاولة للخروج من حالة الاستقطاب الشديدة في البلاد.

2- انتخاب سلطة تنفيذية جديدة: أفضت نتائج جنيف إلى اختيار رئيس للحكومة، وهو عبدالحميد دبيبة، وهو رجل أعمال من مدينة مصراتة غرب البلاد، كما تم اختيار محمد يونس المنفي كرئيس جديد للمجلس الرئاسي، وهو منتمٍ بالأساس إلى مدينة طبرق شرق البلاد، وبالرغم من ذلك فقد كان المنفي سفيرًا لحكومة الوفاق لدى اليونان حتى تم رحيله عنها في ظل الرفض اليوناني للاتفاقيات المشبوهة التي وقّعتها تركيا مع حكومة الوفاق في نوفمبر 2019.

3- دعم المؤسسات السياسية الحالية: قوبلت نتائج جنيف بدعم من جانب الشخصيات القابعة في السلطة الليبية، وعلى رأسها رئيس المجلس الرئاسي ورئيس حكومة الوفاق فايز السراج، الذي أعلن مباركته لنجاح الحوار السياسي في التوصل لاختيار سلطة تنفيذية جديدة، وتقدم بالتهنئة لمن تم اختيارهم لتولي المسؤوليات في المجلس الرئاسي والحكومة. ومن جانب آخر، فقد أعلن المجلس الأعلى للدولة (جهة استشارية) ترحيبه الشديد باختيار سلطة تنفيذية جديدة، داعيًا إلى ضرورة دعمها حتى موعد إجراء الانتخابات أواخر العام الجاري.

وفي السياق ذاته، فقد تقدم رئيس البرلمان الليبي في طبرق، المستشار عقيلة صالح بالتهنئة للفائزين، ورحّب بنتائج الانتخابات، وتبرز تلك المواقف بيئة داخلية باتت أكثر إيجابية تجاه المشهد السياسي الليبي، خاصة وأن مواقف الترحيب قد جاءت من شرق البلاد وغربها.

4- دعم الجيش الوطني الليبي: ترقب الكثيرون موقف الجيش الوطني الليبي من نتائج جنيف، وقد سارع الجيش إلى الترحيب بالسلطة التنفيذية الجديدة، إذ أكد المتحدث باسم القيادة العامة للجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري، أن القيادة العامة تُقدم التهنئة للشخصيات الجديدة التي تم انتخابها، كما تمت الإشادة بالجهود المتواصلة لانتخاب سلطة تنفيذية جديدة يتطلع إليها كل الليبيين، وعبّر الجيش عن أمله في تهيئة البلاد لإجراء استحقاق الانتخابات العامة في 24 ديسمبر 2021.

تحركات نشطة:

عقب الانتهاء من اختيار السلطة الجديدة، بدأ دبيبة والمنفي تحركات متسارعة في ليبيا، في محاولة لحلحلة الأوضاع، والمساهمة في إنجاح المرحلة الانتقالية، وذلك على النحو التالي:

1- زيارات مكثفة في الشرق والغرب: توجّه المنفي في أولى جولاته داخل ليبيا إلى شرق البلاد، وقابل الشخصيات السياسية والعسكرية في الشرق، وعلى رأسها المشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي، وهي خطوة إيجابية للغاية، خاصة في ظل ما تحمله من رمزية لافتة بعدم تحييد الجيش من المشهد بإيعاز تركي، لا سيما وأن الجيش قد دعم السلطة التنفيذية الجديدة، كذلك فقد قابل المنفي رئيس البرلمان المستشار عقيلة صالح، رغم أن الأخير خسر الانتخابات، بيد أنه دعم بشكل كبير تلك السلطة، وهو مؤشر إيجابي آخر على تحقيق انتقال سلس للسلطة.

وعقب ذلك، توجه المنفي في 16 فبراير 2021 إلى طرابلس من أجل التأكيد على ضرورة توحيد المؤسسات الليبية، والتشاور حول تشكيل الحكومة الجديدة مع رئيس الحكومة عبدالحميد دبيبة، وقد دعا الأخير مصراتة للتصالح مع بقية الليبيين، في إشارة إلى تجاوز الخلاف المناطقي القائم منذ سنوات بين المدينة والعاصمة طرابلس، وكذلك بين شرق البلاد وغربها.

2- مرونة سياسية متبادلة: أحد أبرز ملامح المشهد الليبي الحالي، هو وجود مرونة سياسية بين الشخصيات التنفيذية الجديدة، والشخصيات النافذة في المشهد على مدار السنوات الماضية، وذلك في ظل التفاعل الإيجابي مع قائد الجيش الوطني الليبي ورئيس برلمان طبرق علاوة على المجلس الاستشاري وحكومة الوفاق. وفي ظل مخاوف من موقف وزير داخلية الوفاق فتحي باشاغا، خاصة لنفوذه الكبير غرب البلاد وهزيمته غير المتوقعة في انتخابات جنيف، فقد كشف رئيس الحكومة الجديدة عبدالحميد دبيبة في 13 فبراير 2021 أنه بصدد تكليف باشاغا بدور في الحكومة المرتقبة، وهو أمر متوقع، خاصة وأنهما ينتميان لنفس المدينة، وفي ظل سيطرة باشاغا على مليشيات مصراتة القوية وكذلك بعض مليشيات طرابلس، وخطورة استبعاده من المرحلة الانتقالية.

وفي المقابل، فإن ذلك يطرح تساؤلًا يتعلق بوزارة الدفاع في الحكومة الجديدة، ومن سيتولى المنصب، وموقفه من الجيش الوطني الليبي، خاصة وأن هناك ضغطًا تركيًا كبيرًا من أجل تحييد المشير حفتر عن المشهد بشكل تام، علاوة على عدم التعويل على الجيش الوطني في ظل استمرار أنقرة في بناء جيش موازٍ من المليشيات غرب البلاد، وهو ما يعد تحديًا واضحًا أمام السلطة التنفيذية الجديدة.

3- مساعٍ برلمانية للتصويت على منح الثقة: حسم مجلس النواب موقفه في 15 فبراير 2021 من مكان انعقاد جلسته المتعلقة بمنح الثقة للحكومة الجديدة، على أن تكون في مدينة سرت وسط البلاد، خاصة وأن المدينة لا يوجد بها مليشيات، وهي مدينة تتمتع بقبول من جانب أغلب القوى السياسية والعسكرية، ويأتي ذلك في ظل خلاف بين برلمان طبرق الداعي لعقد الجلسة في سرت، وبين نواب طرابلس المنشقين، والذين اجتمعوا في مدينة صبراتة غرب البلاد للتشاور بشأن التطورات الحالية، فيما يتوجب تشكيل الحكومة خلال 21 يومًا من تاريخ انتخابها من أجل تقديم التشكيل لمجلس النواب من أجل منحها الثقة، وفي حال تعذر ذلك يتم عرض التشكيل على ملتقى الحوار السياسي.

4- التعاطي الإيجابي مع القوى الخارجية: أكدت السلطة التنفيذية الجديدة أنها تعمل لصالح كافة الليبيين، كما أنها تفاعلت بشكل إيجابي مع القوى الخارجية المختلفة التي رحبت ودعمت نتائج جنيف، ومع ذلك فإن قدرة تلك السلطة على إدارة مرحلة انتقالية ناجحة مرهونة بشكل كبير بقدرتها على عدم الانحياز لأي طرف خارجي خاصة للدور التركي المشبوه، مع ضرورة اتخاذ موقف قوي من المرتزقة الأجانب، وكذلك من المليشيات من أجل تهيئة المناخ المناسب للاستحقاقات الانتخابية نهاية العام الجاري. كذلك فإن تلك التطورات الإيجابية مرهونة بشكل كبير بموقف إدارة بايدن من الوضع السياسي والعسكري الليبي لما لذلك من انعكاسات على المواقف الإقليمية والدولية من الصراع الليبي.

وفي المجمل، فإن انتخاب سلطة تنفيذية جديدة لديها قبول واسع على المستوى المحلي وكذلك الإقليمي والدولي، يمثل مؤشرًا إيجابيًا يمكن البناء عليه لإنجاح المرحلة الانتقالية وصولًا إلى انتخابات عامة، بيد أن كل تلك التطورات لا تزال مرتبطة بشكل وثيق بمواجهة التحديات الداخلية المتعددة، والتي يأتي على رأسها توحيد مؤسسات البلاد، في ظل وجود برلمان طبرق وبرلمان طرابلس، ووجود جيش وطني شرق البلاد وجيش موازٍ من المليشيات غربها، علاوة على استمرار وجود حكومة مؤقتة مدعومة من الأطراف السياسية والعسكرية شرق البلاد جنبًا إلى جنب مع وجود حكومة الوفاق في الغرب.

كذلك فإن هناك ملفات حيوية تمثل عائقًا أمام إنجاح المرحلة الانتقالية، خاصة ما يتعلق بانتشار أكثر من 20 ألفًا من المرتزقة الأجانب أغلبهم مدعوم من تركيا جنبًا إلى جنب مع وجود مراكز قوى عسكرية تتمثل في انتشار المليشيات غرب البلاد، ومراكز قوى سياسية في ظل وجود شخصيات نافذة تسعى لعدم تهميشها من المشهد الليبي، علاوة على أدوار بعض القوى الخارجية والذي يعد مؤججًا للصراع، وبالتالي فإن المهمة بالتأكيد صعبة أمام السلطة الجديدة لكنها تملك العديد من المقومات التي يمكن أن تساعدها على تجاوز تلك المرحلة وتدشين مرحلة جديدة في ليبيا بعد عقدٍ كامل من العنف والصراع.