تداعيات مؤلمة:

كيف تتعامل أنقرة مع تداعيات العقوبات الأمريكية؟

22 December 2020


تواجه العلاقات التركية-الأمريكية عقبات محتملة خلال المرحلة القادمة، إذ يبدو جليًّا التصعيد الأمريكي ضد تركيا بعد تفعيل قانون مكافحة أعداء أمريكا CAATSA""، وفرض إدارة "ترامب" في 11 ديسمبر الجاري حزمة من العقوبات على هيئة الصناعات الدفاعية التركية، ورئيسها "إسماعيل دمير".

وربما يصل هذا التصعيد إلى مرحلة غير مسبوقة خلال المرحلة المقبلة، ولا سيما أن إدارة "بايدن" القادمة تعارض انخراط أنقرة في قضايا الإقليم، وترفض الممارسات السلطوية للرئيس "أردوغان" في الداخل. ويتزامن التصعيد الأمريكي مع قرار زعماء الاتحاد الأوروبي في القمة الأخيرة في 10 و11 ديسمبر بفرض عقوبات على عدد من الأفراد والشركات التركية التي تقوم بعمليات التنقيب شرق المتوسط في مناطق متنازع عليها قبالة سواحل قبرص واليونان.

في ظل هذه الضغوط، يبدو أن قطاع الدفاع التركي سيتعرض لمخاطر متنوعة قد تتمثل في تراجع الصادرات الدفاعية للأسواق الدولية، وكذلك صعوبة الحصول على مكونات عسكرية وقطع غيار ضرورية للصناعة المحلية، فضلًا عن احتمال تباطؤ بعض المشاريع الدفاعية المحلية أو تلك التي أبرمتها تركيا مع الخارج. 

تداعيات محتملة:

تؤدي طبيعة العقوبات التي فرضتها واشنطن إلى مواجهة تركيا مجموعة من التحديات فيما يتعلق بصناعاتها الدفاعية، وفي علاقاتها المستقبلية مع الإدارة الأمريكية المقبلة. وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى أبرز تداعيات العقوبات الأمريكية التي يمكن بيانها على النحو التالي:

1- تراجع مركزية أنقرة: إن فرض الولايات المتحدة عقوبات على الشركات التركية في 11 ديسمبر الجاري، فضلًا عن تجميد مشاركة تركيا بنهاية العام الماضي في إنتاج المقاتلة F35، وقبل ذلك فرض واشنطن عقوبات في عام 2018 على مسؤولين أتراك لتأمين الإفراج عن القس "أندرو برونسون"؛ مثّل ضربة موجعة لنفوذ أنقرة لدى مؤسسات صنع القرار في الولايات المتحدة، وهو ما يعني تراجع نفوذ تركيا في واشنطن والدوائر الإقليمية والدولية التي تدور في فلكها، ومنها حلف الناتو، خاصة مع تصاعد التوترات التركية مع دول مركزية في الأطلسي في الصدارة منها فرنسا واليونان.

كما يتوقع تراجع دور أنقرة في الولايات المتحدة مستقبلًا مع غياب حسم ملفات خلافية أخرى (قضية غولن، والعلاقة مع روسيا، والتوجه التركي العدائي ضد أكراد سوريا). كما يتوقع أن يصبح الرئيس الأمريكي المنتخب "جو بايدن" أكثر تشددًا مقارنة بسلفه "دونالد ترامب" تجاه أنقرة على نحو بدا جليًا في التصريحات التي أدلى بها قبل فوزه في الانتخابات ضد الرئيس "أردوغان" حيث وصفه بــ"المستبد"، وأكد على أولوية دعم المعارضة التركية باعتبار ذلك خطوة مركزية نحو إسقاط حكم العدالة والتنمية. ومن غير المرجّح أن يوقف "بايدن" حملة العقوبات التي بدأها "ترامب" متأخرًا، وكانت محل مطالبة من مجلسي مجلس الشيوخ والنواب.

2- أزمة الصناعات الدفاعية التركية: يتوقع أن يكون للعقوبات التي فرضتها واشنطن تأثير سلبي على قطاع الصناعات الدفاعية، خاصة أنها استهدفت بشكل أساسي هذا القطاع، وظهر ذلك في حظر المؤسسات المالية الأمريكية بموجب العقوبات من تقديم قروض لإدارة صناعة الدفاع التركية التي تتجاوز 10 ملايين دولار، فضلًا عن منع البنوك الأمريكية، وفي الصدارة منها بنك "التصدير والاستيراد"، من تقديم المساعدات المخصصة لمصلحة تطوير القطاع الدفاعي التركي. كما تضمنت العقوبات منع إصدار قروض للحكومة التركية من قبل الكيانات المالية العالمية، في حال وجود شكوك حول استخدام هذه القروض في القطاع الدفاعي.

على صعيد ذي شأن، فإن العقوبات التي فرضتها إدارة "ترامب" امتدت إلى حظر إصدار تراخيص التصدير الأمريكية، ومنع نقل أي سلع وتقنيات إلى المجمع الصناعي العسكري التركي. كما تضمنت تجميد الأصول الخاصّة برئيس إدارة الصناعات الدفاعية "إسماعيل دمير"، ومسؤولين آخرين فيها، وفرض قيود التأشيرة عليهم.

في هذا السياق، ربما يفرض اتجاه المؤسسات الأمريكية إلى تفعيل قانون أعداء أمريكا، وفرض عقوبات جديدة، تأثيرات مباشرة على قطاع الصناعات الدفاعية التركية من خلال أربعة مسارات رئيسية: يتمثّل أولها في تقليص قدرات هيئة الصناعات الدفاعية، التي باتت تشكّل حجر الزاوية في سياسة تركيا الخارجية، وأحد أهم أوراق صعودها في المنطقة. وينصرف ثانيها إلى احتمال خروج العديد من الشركات الدفاعية التركية من أسواق تصدير السلاح، أو على الأقل تراجع صادراتها تحت وطأة العقوبات، وتوجد في تركيا نحو 700 شركة تعمل في مشاريع دفاعية، ناهيك عن تأثر سمعة الشركات السبع الدفاعية الكبيرة، والمصنفة وفقًا لمجلة "ديفنس نيوز" من بين أفضل مائة شركة تصنيع في العالم. وثالثها يرتبط بردع مجموعة متنوعة من الشركات الدفاعية الدولية من العمل مع هيئة الصناعات الدفاعية التركية لتجنب العقوبات الأمريكية. وراء ما سبق فإن تقييد وصول تركيا إلى تراخيص التصدير يمكن أن يقيد خطط نشاط الإنتاج الدفاعي محليًّا، ناهيك عن التأثير المحتمل على عقود التوريد للجيش التركي، فوفقًا لمعهد استكهولم الدولي لأبحاث السلام، تمثل واشنطن أكبر مورد عسكري لتركيا بنهاية عام 2019.

والأرجح أن ثمة مؤشرات تبدو كاشفة عن تصاعد الانعكاسات السلبية المحتملة للعقوبات على ارتباطات القطاع الدفاعي التركي مع الأسواق الخارجية. فعلى سبيل المثال، قد تتعثر صفقة بقيمة 1.5 مليار دولار لتزويد باكستان بطائرات هليكوبتر هجومية تركية الصنع من طراز "تي 129" مع عدم حصول أنقرة على تراخيص تصدير لمحركها "تي 800 4 إيه" مشترك الصنع بين لندن وواشنطن. في المقابل، يتوقع أن تلتزم دول أوروبية بشكل تطوعي بمنع رخص التصدير لقطاعات الصناعة العسكرية التركية في سياق الحرص على العلاقات الودية مع الولايات المتحدة. فمثلًا قد تستمر شركة "إم تي يو إينجن" الألمانية في تجميد تزويد أنقرة بمحرك من نوع MTU 883 ذي قدرة 1500 حصان، والمطلوب لتشغيل الدبابات التركية "ألتاي" الممول من قطر، مما سيؤدي إلى تجميد الإنتاج ومن ثم تعطيل تسليم الصفقات المتفق عليها مع دول الخارج، ومن بينها الدوحة التي تعاقدت في مارس 2019 مع تركيا لشراء 100 دبابة من هذا النوع.

3- تصعيد العقوبات الأوروبية: قد تمهد العقوبات التي اتخذتها واشنطن ضد تركيا في دفع القمة الأوروبية المقرر لها مارس 2021 نحو تبني إجراءات عقابية أكثر قسوة ضد تركيا، وقد تصل العقوبات الأوروبية إلى مستويات غير مسبوقة مع ممارسة إدارة "بايدن" الحكم في واشنطن. وفي هذا السياق، قد تدعو دول الاتحاد "بايدن" إلى اتخاذ إجراءات فاعلة ضد مخاطر التوسع التركي شرق المتوسط، وتجاوزات أنقرة في صراعات الإقليم.

وعلى هذا الأساس، فإن العقوبات الأمريكية على تركيا توفر بيئة خصبة لبناء مواقف أوروبية أمريكية مشتركة تجاه تركيا، خاصة أن "بايدن" يؤكد أهمية إصلاح العلاقات الأمريكية الأوروبية، ويدعو إلى ضرورة تبني مقاربة أمريكية للمسائل الدولية تأخذ في الاعتبار مصالح الحلفاء الأوروبيين وشركاء الناتو.

4- زيادة الضغوط على الاقتصاد: تبدو العقوبات الأمريكية المفروضة على القطاع الدفاعي أزمة كبيرة للاقتصاد التركي الذي يعاني تراجعًا حادًا بفعل انهيار سعرف صرف العملة المحلية (الليرة)، وتداعيات تفشي وباء كورونا، حيث تمثل عوائد الصادرات الدفاعية مصدرًا رئيسيًا لتوفير العملات الأجنبية، والتي وصلت بحسب بيانات جمعية المصدرين الأتراك إلى نحو 2.2 مليار دولار عام 2018، وقفزت إلى 3 مليارات دولار بنهاية عام 2019، وهو ما جعل تركيا تشغل المرتبة رقم 14 في صادرات السلاح عالميًّا، وفق تقرير "معهد استكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)". كما يتوقع أن تنعكس العقوبات الأمريكية على قطاعات التشغيل في الاقتصاد التركي، حيث توفر الصناعات الدفاعية بابًا مهمًا لتشغيل العمالة، وتنمية المهارات. في المقابل، قد يتراجع موقع تركيا كسوق واعدة لتوطين اقتصاديات تكنولوجيا الصناعات الدفاعية.

مواجهة العقوبات:

كشفت مواقف تركيا تجاه التعامل مع تفعيل الولايات المتحدة قانون أعداء أمريكا "كاتسا" على قطاع الصناعات الدفاعية التركية، إلى اتجاهها نحو تجنب الصدام، جنبًا إلى جنب مع البحث عن خيارات أكثر قدرة على إعادة ضبط العلاقات التركية-الأمريكية، ومن دون أن تسهم في زيادة مساحات التوتر، وذلك من خلال ما يلي: 

1- سياسة مرنة: دفعت التطورات الأخيرة، خاصة في ظل تكثيف الضغط الأوروبي على تركيا، إلى تفضيل أنقرة تبني سياسة أكثر عقلانية، بإظهار عدم الصدام للحفاظ على مكتسبات العلاقة مع واشنطن. ففي الوقت الذي قال فيه "أردوغان" في 17 ديسمبر: "إن العقوبات الأمريكية موقف عدائي ضد سيادة تركيا، وإنها تستهدف الإضرار بجهود الصناعات الدفاعية التركية"، صرح وزير الخارجية التركي "مولود تشاوش أوغلو" في اليوم ذاته قائلًا: "يمكن أن تعود العلاقات إلى طبيعتها إذا لبت الولايات المتحدة تطلعات تركيا"، في إشارة إلى طلب أنقرة بالحصول على منظومة "باتريوت". كما كتب رئيس دائرة الاتصال في الرئاسة التركية "فخر الدين ألطون" على تويتر قائلًا، إن "الشراكة الاستراتيجية بين تركيا والولايات المتحدة مهمة جدًّا ليتم التضحية بها لأجل أهداف سياسية على المدى القريب تسترضي اللوبيات المعادية لتركيا". وأضاف: "نتمنى أن تغيّر الولايات المتحدة هذا الخطأ الكبير دون تأخير".

الأرجح أن مساعي أنقرة لضبط التوتر مع واشنطن يعود بالأساس إلى اعتبارات متعددة، أولها مخاوف أنقرة من سعي خصوم أوروبيين، على رأسهم فرنسا واليونان وقبرص، لتنسيق المواقف مع واشنطن لتعظيم الضغوط على تركيا. وثانيها خشية تركيا من أن زيادة التصعيد مع الولايات المتحدة قد يجعل العلاقة أكثر تعقيدًا مع إدارة "بايدن" المقبلة، وهي التي لديها توجهات سلبية تجاه أنقرة، وترفض حيازة أنقرة منظومة الدفاع الصاروخية الروسية S400، ومن ثم فإن تبني سياسة الشد والجذب ربما توفر فرصة لأنقرة لإقناع الإدارة الأمريكية المقبلة بالتراجع عن هذه العقوبات أو على الأقل تجميدها عند هذا المستوى، خاصة أن العقوبات الحالية لم تتعرض لبعض المشاريع الدفاعية التي تنفذها تركيا عبر شركات خارجية أو داخلية.

وثالثها يرتبط بتصريحات أمريكية مطمئنة عشية فرض العقوبات، حيث أكد وزير الخارجية الأمريكي "بومبيو"، في 15 ديسمبر الجاري، على أن تركيا "تعتبر حليفًا مهمًّا وشريكًا أمنيًّا إقليميًّا هامًّا للولايات المتحدة، وأنهم يسعون لمواصلة التاريخ الممتد لعقود من التعاون المثمر في قطاع الدفاع من خلال إزالة عقبة امتلاك تركيا S-400 في أقرب وقت ممكن".

2- التهدئة مع الخصوم: تضع أنقرة العديد من السيناريوهات في مواجهة العقوبات الأمريكية التي طالت قطاعها الدفاعي، وقيدت فرص التعاون التقني في المجال العسكري مع أنقرة، أهمها تعزيز الانعطافة شرقًا، وبخاصة تجاه روسيا والصين. فتوطيد العلاقة مع الأولى قد يوفر لها فرص الحصول على مكونات عسكرية روسية بديلة للقطع الأمريكية. فعلى سبيل المثال، يمكن لروسيا توفير محركات المقاتلات والطائرات محلية الصنع، وكذلك الاتفاق على عقد آخر لتوريد أنظمة "إس 400"، ناهيك عن إبداء موسكو استعدادها لتوريد مقاتلات من طراز Su-57 لتركيا. في المقابل، قطعت تركيا شوطًا معتبرًا على صعيد توثيق العلاقة مع الصين، وكشف عن ذلك انطلاق أول قطار شحن بضائع من تركيا إلى الصين في 4 ديسمبر الجاري، والذي يمر عبر دول الجوار، وهو ما سيزيد حجم التبادل التجاري بين البلدين. 

3- تعزيز الجبهة الداخلية: اتجه الرئيس التركي إلى توظيف العقوبات لتحشيد الداخل، وبناء موقف وطني جامع من خلال التأكيد على أن العقوبات تستهدف سيادة الدولة التركية واستقلالها، وبدا ذلك في إصدار الأحزاب الممثلة في البرلمان (الشعب الجمهوري، وحزب الخير، وحزب الحركة القومية) مع حكومة العدالة والتنمية، بيانًا في 15 ديسمبر الجاري، دعت فيه واشنطن للعدول عن قرارها بفرض عقوبات على تركيا في أقرب وقت ممكن.

والأرجح أن توظيف البعد القومي في الداخل التركي لمواجهة أزمة العقوبات الأمريكية قد يوفر بيئة خصبة من جهة لإنقاذ ما تبقى من الرصيد التقليدي للرئيس "أردوغان" وحزبه بعد تعرضه لانتكاسة غير مسبوقة في الداخل على خلفية تردي الأوضاع الاقتصادية. ومن جهة أخرى، فإن الاندفاع القومي في الداخل من شأنه تحفيز أنقرة على مواصلة بناء قدرتها الدفاعية المحلية، حال الفشل في التحايل على العقوبات التي فرضتها واشنطن.

في الختام، فإن العقوبات الأمريكية على قطاع الصناعات الدفاعية الذي يمثل أولوية في توجهات السياسية الخارجية التركية، قد يسفر عن تداعيات مؤلمة لتركيا، خاصة أنها تعتمد على واشنطن في استيراد جانب معتبر من مكونات صناعاتها الدفاعية المحلية، حيث بلغ حجم صفقات التسليح بين البلدين في الفترة من 2015 وحتى العام الماضي نحو مليار دولار، وفقًا لبيانات "معهد استكهولم الدولي لأبحاث السلام". كما احتلت تركيا في عمليات شراء الطائرات والصواريخ المرتبة الأولى بين أفضل 20 عميلًا للولايات المتحدة. هنا، يمكن فهم حرص تركيا على الابتعاد عن الصدام مع واشنطن بعد فرض العقوبات، من أجل احتواء أي تصعيد إضافي محتمل ضدها، وبخاصة حال تولي إدارة "بايدن" مقاليد السلطة. في المقابل فإن هذه العقوبات قد تدفعها إلى إعادة حسابات تحالفاتها الخارجية بمواصلة الحفاظ على علاقاتها مع قوى دولية مؤثرة، منها الصين وروسيا، إضافة إلى فتح دوائر خارجية في أمريكا اللاتينية مثلًا يمكن توظيفها كأوراق ضاغطة في حلحلة القضايا الخلافية مع الولايات المتحدة.