استعادة القوة:

إعادة التفكير في الأمن القومي الأمريكي في عالم متغير

28 October 2020


عرض: عبدالمجيد أبو العلا - باحث مساعد – مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

ينشغل الأمريكيون خلال عام الانتخابات الرئاسية الذي تميّز بالوباء والاحتجاج بأسئلة حول العدالة العرقية، وعدم المساواة الاقتصادية، والتفاوتات في الرعاية الصحية، وما إذا كانت الولايات المتحدة مستعدة لمواجهة مجموعة من التهديدات، كالأوبئة، وأزمة المناخ، والتحديات متعددة الأبعاد من الصين وروسيا.

في هذا السياق، تناولت "هيلاري كلينتون"، وزيرة الخارجية السابقة والمرشحة الديمقراطية في الانتخابات الرئاسية لعام 2016،  في مقالها التحليلي بعدد (نوفمبر – ديسمبر 2020) من مجلة "الشئون الخارجية Foreign Affairs" تضاؤل القوة الصناعية والتكنولوجية الأمريكية، وتعرض سلاسل الإمداد للخطر، وتوتر التحالفات. مُحَاوِلةً وضع أزمة كورونا في مصاف الصدمات الدراماتيكية الكبرى التي نبهت الولايات المتحدة إلى ضرورة استعادة القوة ومواجهة التحديات، مثل: بيرل هاربور، وسبوتنيك، و11 سبتمبر.

سياسات قصيرة النظر 

فكّر صانعو السياسات في الولايات المتحدة لعقود من الزمن بشكل ضيق للغاية في الأمن القومي، حيث فشلوا في استيعاب أو تمويل نهج أوسع لا يضم فقط الصواريخ الباليستية العابرة للقارات وحركات التمرد، وإنما يشمل أيضًا الهجمات الإلكترونية والفيروسات وانبعاثات الكربون والدعاية عبر الإنترنت، وتحويل سلاسل التوريد. وهو ما انتهى إلى فشل إدارة "دونالد ترامب" في التعامل مع الفيروس الذي يمكن أن يكون خطيرًا مثل الإرهابي. بل إن فريق الرئيس الأمريكي تجاهل أمر مواجهة الأوبئة مركزًا على تهديد الأمن البيولوجي حتى فككوا مديرية الأوبئة التابعة لمجلس الأمن القومي، وضموها إلى المكتب المسؤول عن أسلحة الدمار الشامل. كما ملأت الإدارة الحالية مخزونًا طبيًّا بأدوية الجمرة الخبيثة والجدري، مع تجاهل معدات الحماية الشخصية اللازمة لمواجهة الوباء. وأغلقت برنامج الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية الذي تم إنشاؤه لاكتشاف التهديدات الفيروسية حول العالم، بالإضافة إلى محاولات خفض تمويل مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها.

ولم يختلف الأمر بالنسبة للتهديدات غير التقليدية الأخرى، حيث أغفلت إدارة "ترامب" أي إشارة إلى تغير المناخ في استراتيجيتها للأمن القومي لعام 2017، كما ألغت الإدارة أولوية التجسس الإلكتروني في مفاوضاتها التجارية مع الصين، وفشلت في مواجهة روسيا بشأن تدخلها في الانتخابات الأمريكية.

ولا تعني تلك الوقائع أن الأزمة في إدارة "ترامب"، وإنما المشكلة أعمق بكثير، حيث ترى "هيلاري" أن إدارات الحزبين قللت منذ فترة طويلة من تقدير الآثار الأمنية للسياسات الاقتصادية التي أضعفت الصناعات المهمة استراتيجيًّا، وأرسلت سلاسل التوريد الحيوية إلى الخارج.

كما يتجلى قصر النظر أيضًا في الأطر المبسطة المطبقة على التحديات المعقدة التي تواجهها الولايات المتحدة، مثل الإصرار على رؤية المنافسة مع الصين من منظور الحرب الباردة، حيث تشكل بكين وروسيا اليوم تهديدًا مختلفًا تمامًا عن تهديد الاتحاد السوفيتي. فالمنافسة اليوم ليست عسكرية تقليدية، وإنما هي في منطقة رمادية بين الحرب والسلام، حيث تلجأ هذه الدول إلى استغلال الإنترنت والاقتصاد المفتوحين لتقويض الديمقراطية الأمريكية، وفضح ضعف العديد من أنظمة الأسلحة القديمة.

وقد تسبب انسحاب "ترامب" من الاتفاق النووي مع إيران في عودة أجهزة الطرد المركزي الإيرانية للدوران، وتحطم نظام العقوبات الدولي، والحديث عن تحالف إيراني صيني.

ومع التأكيد على كون إضفاء الطابع العسكري المفرط على السياسة الخارجية للولايات المتحدة عادة سيئة تعود إلى الأيام التي حذر فيها الرئيس "دوايت أيزنهاور" من "المجمع الصناعي العسكري"؛ إلا أنها تُحّمل السياسيين المسؤولية بسبب تصديقهم على ميزانيات عسكرية ضخمة، والحد من ميزانيات الوكالات المدنية خوفًا من التعرض للهجوم. وتؤكد "هيلاري" على أن المقاومة الأيديولوجية اليمينية قد أعاقت الاستثمار في الدبلوماسية الأمريكية والتنمية في الخارج والابتكار الأمريكي في الداخل، حيث حدت من ميزانيات المساعدات الخارجية للبنية التحتية المحلية، والإنفاق على البحث والتطوير.

تحديات ملحّة وإصلاحات ضرورية

تدعو "هيلاري" إلى يتكيف البنتاجون مع مشهد استراتيجي يختلف كثيرًا عن المشهد الذي واجهته خلال الحرب الباردة أو الحرب على الإرهاب، حيث تعمل التقنيات الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي على جعل الأنظمة القديمة أنظمة بالية، وتخلق فرصًا لم تتقنها أية دولة حتى الآن، ولكنّ الكثيرين يسعون إليها.

ويواجه الجيش الأمريكي تحديات شائكة بشكل خاص في شرق آسيا. فبينما كان يخوض حروبًا برية مكلفة في الشرق الأوسط، استثمرت الصين في أسلحة رخيصة نسبيًّا للدفاع ومنع الوصول إليها، مثل الصواريخ الباليستية المضادة للسفن، والتي تشكل تهديدات موثوقة لحاملات الطائرات باهظة الثمن في الولايات المتحدة.

ورغم التفوق العسكري الأمريكي على الصين في الميزانية والقوة النارية؛ إلا أن ذلك لا ينبغي أن يدفع الولايات المتحدة للشعور بالأمان الزائف. ومن الخطأ الاعتقاد بأن المنافسة مع الصين عسكرية بالأساس، فقد اعتمدت بكين على الإكراه المالي والأدوات الاقتصادية لكسب النفوذ، وهي تبني البنية التحتية في جميع أنحاء العالم. فبينما كانت إدارة "ترامب" -طبقًا للكاتبة- تقضي على وزارة الخارجية وتقوّض تحالفات الولايات المتحدة في آسيا وأوروبا؛ ضاعفت الصين ميزانيتها الدبلوماسية، وضخت المليارات في الدول النامية، متجاوزة الآن واشنطن في المساعدات والمناصب الدبلوماسية حول العالم.

وتحتاج ميزانية الدفاع إلى إصلاح كبير، فمن المهم أن يتم تحديد مواقع الإنفاق ومواقع خفض الإنفاق عبر تحليل واضح لاحتياجات الأمن القومي، وليس الضغوط السياسية. ويجب أن تهدف التغييرات في الميزانية إلى إعداد الولايات المتحدة للصراع غير المتكافئ مع الخصوم المتقدمين تقنيًّا. ويجب أن يستثمر الجيش في الأدوات التي ستمنح القوات ميزة في صراعات المستقبل، بما في ذلك أنظمة الاتصالات والاستخبارات المطورة، بدلًا من الدبابات الثقيلة والكثافة العددية للجنود، حيث يمكن أن يوفر تقليل عدد الجنود والدبابات الثقيلة عشرات المليارات من الدولارات على مدى العقد المقبل. كما أن الولايات المتحدة بحاجة إلى مقاربة جديدة للأسلحة النووية، حيث يجب تقليل الاعتماد على الصواريخ الباليستية القديمة العابرة للقارات، وتمديد معاهدة ستارت الجديدة مع روسيا.

إعادة بناء القوة الصناعية والتكنولوجية 

فيما تتكون استراتيجية "القوة الذكية" من الدفاع والدبلوماسية والتنمية، إلا أنه حان الوقت لإضافة عنصر رابع هو: التجديد المحلي، وإعادة بناء القوة الصناعية والتكنولوجية للبلاد. وبسبب تضاؤل القدرة الصناعية للولايات الأمريكية والاستثمار غير الكافي في البحث العلمي، فإنها الولايات المتحدة تعتمد بشكل خطير على الصين، وغير مستعدة للأزمات المستقبلية، ولذلك يجب توسيع نطاق الصناعات والموارد التي تعتبر حيوية، فلم يعد كافيًا إعطاء الأولوية للمواد والتقنيات المستخدمة في أنظمة الأسلحة وأشباه الموصلات؛ بل إن أمن الولايات المتحدة يعتمد أيضًا على التحكم في المستحضرات الصيدلانية والطاقة النظيفة وشبكات الجيل الخامس والذكاء الاصطناعي. ناهيك عن أن الاستثمارات في العلوم الأساسية والبحوث الطبية يمكن أن تحقق مكاسب اقتصادية ضخمة، حيث قدر الاقتصاديون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن زيادة التمويل الفيدرالي لـلبحث في الولايات المتحدة بنسبة 0.5٪ من الناتج المحلي الإجمالي، أو حوالي 100 مليار دولار سنويًّا، سيخلق حوالي أربعة ملايين وظيفة.

ورغم أن الاستثمارات الجديدة الضخمة في التصنيع المتقدم والبحث والتطوير باهظة الثمن، إلا أنها ضرورية لمصالح الولايات المتحدة الاقتصادية والأمنية طويلة الأجل، وستؤتي ثمارها لسنوات قادمة. ورغم مخاوف تراكم الديون؛ إلا أن الولايات المتحدة بحاجة إلى هذه الاستثمارات الجريئة، حيث لا تستطيع تحمل تأجيل هذه الاستثمارات لفترة أطول.

نهج متكامل

سيؤدي الابتعاد عن أنظمة الأسلحة القديمة إلى اضطراب اقتصادي. لذا، يجب أن يتم التحديث العسكري جنبًا إلى جنب مع الاستثمارات المستهدفة في المجتمعات المتعثرة اقتصاديًّا، وجلب التصنيع المتقدم والبحث والتطوير إلى الأماكن الأكثر تضررًا من تخفيضات الدفاع، حيث يخلق إنفاق مليار دولار على الطاقة النظيفة أو الرعاية الصحية أو التعليم وظائف أكثر بكثير مما يخلقه الإنفاق العسكري. وبذلك فالحكومة الأمريكية ستساعد العمال وأولئك الذين يتركون الجيش على الانتقال إلى ملايين الوظائف الجديدة التي يمكن خلقها من خلال الاستثمارات المحلية الجديدة الكبرى. 

وإذا أرادت الولايات المتحدة أن تكون جادة بشأن تغير المناخ، فإنها تحتاج للمزيد من المصانع لإنتاج سيارات كهربائية نظيفة. ويجب على البنتاجون وحده استبدال معظم أسطوله المكون من 200000 سيارة غير تكتيكية بالكهرباء.

إجمالًا، على الولايات المتحدة توسيع نهجها للأمن القومي، وتجديد أسس قوتها الوطنية، حيث يجب أن يكون من بين الأولويات القصوى للولايات المتحدة تحديث القدرات الدفاعية بالابتعاد عن أنظمة الأسلحة القديمة المكلفة المصممة لعالم لم يعد موجودًا. بالإضافة إلى تجديد الأسس المحلية لقوتها الوطنية عبر دعم الابتكار الأمريكي والصناعات المهمة استراتيجيًّا وسلاسل التوريد. ودمج السياسة الخارجية والمحلية بهذه الطريقة سيجعلهما أكثر فعالية، وسيساعد الولايات المتحدة على استعادة موطئ قدم في هذا العالم.

المصدر:

Hillary Clinton, A National Security Reckoning: How Washington Should Think About Power, Foreign Affairs, November/December 2020.