«هاشمي» العراق: دولة الميليشيات وسنة الاغتيالات

12 July 2020


هشام الهاشمي محللٌ سياسي عراقي يخرج دائماً للتعليق على أحداث العراق ومشكلاته المزمنة ما بعد عام 2003، بمنطقٍ وطني خالصٍ، ويضع يده على الجراح الكثيرة التي تدمي العراق من دون مداراة أو خوفٍ.

في مشهدٍ يلخص الأوضاع المتردية في العراق نزل شخصٌ من سيارته، وأشهر مسدسه «الصامت»، وأفرغ طلقاته في جسد الهاشمي حتى أرداه قتيلاً في ثوانٍ معدودة، وهكذا يكون حكم الميليشيات الذي يديره النظام الإيراني ويسعى لتعميمه في المنطقة. 

نماذج الإسلام السياسي متشابهة في العمق؛ لا يوجد فرقٌ كبيرٌ بينها، فالنموذج السني الذي أسسته جماعة «الإخوان المسلمين» لا يختلف كثيراً عن النموذج الشيعي الذي أسسه رموز الإسلام السياسي في إيران إبان ما عُرِف بالثورة الإسلامية في العراق.

لدى جماعات الإسلام السياسي مفهوم يسمّونه «سنة الاغتيالات»، والمقصود به تشريع تصفية الخصوم دينياً، والتدليل على ذلك بحسب مذهب كل جماعة سنية كانت أم شيعية. والهدف كما هو ظاهرٌ هدفٌ سياسي يقضي بقتل شخصٍ ما لإسكات أشخاصٍ كثر، بمعنى أن إخماد صوتٍ واحدٍ كفيلٌ بوأد تيارٍ سياسي بكامله.

ملّ المواطنون العراقيون من الأحزاب الدينية الموالية للنظام الإيراني، وسَئِموا من حكم الميليشيات الذي نشر الفقر والجوع والعوز في أرجاء العراق، وهو حكم الفساد المستحكم والولاء الخالص لدولة خارج الحدود وخدمة مشروع الأعداء داخل الوطن، وهو النموذج نفسه الذي تنشره إيران في مكانٍ وطأته أقدام ملالي السياسة الأشرار لا ملالي المذهب الكرام.

تاريخ طويل يمكن استعراضه لتاريخ «سنة الاغتيالات»، لا على مستوى التنظير الفكري أو التقعيد الفقهي، بل على مستوى الممارسة وتجلي الفكر واقعاً معيشاً يؤثر بشكل مباشرٍ على المجتمع وحيوات أفراده وذوي الرأي فيه، تحديداً منذ شرع حسن البنا في تأسيس «النظام الخاص» و«التنظيم السرّي» والتبشير بـ«يوم الدم»، ثم الشروع في التنفيذ والقتل والاغتيالات للسياسيين والقضاة والمخالفين بشتى أنواعهم، وتأسيس هذه الطريقة لدى العديد من جماعات الإسلام السياسي وتنظيمات العنف الديني وصولاً إلى تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، من دون استحضار عديد الجماعات وتسميتها على مدى عقودٍ من الزمن. النظام الإيراني سار على النهج ذاته، وإن اضطر الخميني إلى تأسيس فقهي يقوم على مبادئ المذهب الشيعي الكريم، لتعزيز رؤيته لخلق تقعيد فقهي يتيح له ولمن يأتي بعده استخدام الاغتيالات كسلاحٍ سياسي لتصفية الخصوم والقضاء على أي تهديدٍ لما كان يسميه «الثورة الإسلامية».

«حزب الدعوة» العراقي الذي يمثل نسخة شيعية أقرب ما تكون لجماعة «الإخوان المسلمين» منذ إنشائه وبعلاقاتٍ وتبادلاتٍ فكرية وتنظيمية مباشرة مع جماعة «الإخوان»، في أبعادٍ ليس هذا سياق رصدها وتفصيلها، عمد هذا الحزب إلى التخطيط والتنفيذ في محاولة اغتيال عدي صدام حسين التي جرت عام 1996، ولئن كانت هذه محاولة ممن كان يُسمّى حينها معارضة سياسية، فإن العجب لا ينتهي أن تستمر جماعات الإسلام السياسي وميليشياته في اغتيال المخالفين، حتى وهي تسيطر على الدولة والحكومة والشعب.

النظام الإيراني تغلغل في بعض الدول العربية، في العراق وسوريا كما في لبنان واليمن، وفي كلٍ من هذه الدول يمكن إعداد قوائم بأسماء من اغتالتهم ميليشيات النظام الإيراني وجماعاته، فضلاً عن التدمير الممنهج الذي يموت فيه العشرات والمئات والآلاف من البشر، بفتوى فقيه وخطاب مفكرٍ وتنظيم جماعة.

لا يستوي في التفكير السليم والمنطق المتسق أن تكون سياسياً مشاركاً في الحكومة، وأن تدير في الوقت نفسه ميليشيات تخلّ بالأمن وتقتل الأبرياء في الشارع العام وأمام أعين الشعب، ولكنه النموذج الإيراني الذي ينتمي إلى عصور الظلام، ولا علاقة له بالواقع الدولي المعاصر، ويسعى لنشره في كل دولة استطاع فرض قوته داخلها.

بدأت بعض الدول الأوروبية متأخرة في اكتشاف أن «حزب الله» اللبناني يمثل حزباً إرهابياً بالكامل، وأن الزعم بأنه حزب سياسي لا علاقة له بالجناح العسكري أكذوبة غربية لا يفهمها الحزب، ولم تدر بخلده يوماً، وأنه حزب أُسّس على الإرهاب من أول يومٍ، ولا أدل على ذلك من القائمة الطويلة من الاغتيالات السياسية التي خطط لها ونفذها الحزب عبر سنواتٍ طويلة لتغيير المشهد السياسي في البلاد واختطاف الدولة. المغدور هشام الهاشمي لم يكن يحمل سلاحاً بل فكراً، ولا قنبلة بل قلماً، وهو يمثل بجلاءٍ التيار الوطني في الدول العربية، التيار الذي يسعى لخدمة وطنه وتنميته والحفاظ على استقلاله ورفاهه وحريته ورفض أي تدخلاتٍ خارجية فيه، وهذا التيار تحديداً هو المقصود باغتيال الهاشمي؛ فالعملاء المؤدلَجون لا يمكن أن يجاروا الوطنيين المخلصين. يتعب المحللون السياسيون في محاولة استيعاب نموذج حكم دولة الميليشيات ضمن الأطر العلمية السياسية المعاصرة، وبالتالي يفشلون في محاولة شرح أفكار بسيطة، مثل أن الدولة هي التي تحتكر السلاح، أو أن بعض أجنحة الحكومة التي مهمتها نشر الأمن هي ذاتها التي تغتال المواطنين.

مع احتدام الصراعات الدولية في المنطقة يبدو أن نشر الفوضى ودعم ميليشيات الإرهاب وجماعاته وتنظيماته سيكون حاضراً بقوة في المرحلة المقبلة، ويكفي استحضار الجدل الدائر في المؤسسات الدولية تجاه تمديد منع السلاح عن النظام الإيراني، وبغض النظر عن النتيجة فهذا مؤشرٌ مهمٌ على حدة الصراعات الدولية وتناقضاتها، ودليلٌ على أن تخاذل بعض الدول الأوروبية عن أدوارها السياسية بدأ يكشف عن اختلالٍ في موازين القوى ستكون له آثارٌ مستقبلية وخيمة. نموذج «دولة الميليشيات» يناقض تماماً «دولة المواطنة» أو «الدولة الحديثة». ودعمه ونشره من قبل إيران أو تركيا وقطر في المنطقة ينذر بنهاية حقبة التوازنات السياسية ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي استطاعت تجاوز تحديات بحجم الحرب الباردة، وبالتالي الشروع في بناء حقبة جديدة لن تتضح معالمها قريباً، ولكنها بالتأكيد لن تكون بصيغة تريدها وتسعى لها الدول الداعمة للإرهاب، لأن لكل فعلٍ ردةَ فعلٍ كما هي قاعدة نيوتن الأثيرة.

أخيراً، ربما كان مقتل شخصٍ باباً لفرج أمة، وربما كان اغتيال الهاشمي نوراً يضيء عتمة حاضر العراق، ويكشف شيئاً من سجف الغيب عن مستقبله، ولكنّ الأكيد أنه لم يكن الأول ولن يكون الأخير.

*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط