كيف نتصرف في عالم مضطرب؟

06 May 2020


عندما يدخل رجال مسلحون بالبنادق إلى قاعة المجلس التشريعي بولاية ميشيغان الأميركية، فإن معنى ذلك أنَّ أموراً خاطئة كثيرة تجري في الولايات المتحدة على المستوي السياسي بالطبع، ولكنها أكثر من ذلك على المستوى الفكري أيضاً. ولكن ذلك بالنسبة للعالم يعني حالة من الاضطراب غير المسبوق كشفت عنها أزمة «كوفيد - 19» أكثر من أزمات أخرى جرت في التاريخ المعاصر. هذه الحالة من الشك وعدم اليقين بالنسبة للمستقبل تظهر بشدة في الآراء المختلفة الخاصة بمستقبل العالم بعد الأزمة وتظهر في الاختلافات الكبيرة حول ما سوف تكون عليه الدنيا بعد أن يستقر غبار المرض، ويدفن الأحياء موتاهم. دورية «السياسة الخارجية» الأميركية حاولت التوصل إلى أبعاد ما سوف يكون من خلال استطلاع رأي 12 من المفكرين والمحللين. وكانت النتيجة معبرة ليس فقط عن عدم الاتفاق، وذلك طبيعي، وإنما بعد الشقة في طريقة التفكير والمنظور المنهجي للتحليل، والخلاف الكبير حتى بين من نظروا للأمر من زاوية الغابة العالمية كلها، وهؤلاء الذين نظروا من خلال شجرة واحدة اختفت أمم وشعوب خلفها. في دوريات أخرى كلها عن «الشؤون الخارجية» والعلاقات الدولية تردد اليقين من «نهاية الاستراتيجيات العليا»، وبات على الولايات المتحدة أن تبحث في أمور صغيرة، وفي اتجاه مقابل كانت هذه الاستراتيجيات ذاتها هي ما جرى النصح به، فقال أحدهم إنَّ على الولايات المتحدة أن تتقاسم «مناطق النفوذ» مع منافسيها الكبار، خاصة روسيا والصين؛ وكان الرد أن أميركا لم تسمح بذلك قط، وأنها لم تقبل باستمرار الإمبراطورية البريطانية بعد الحرب العالمية الثانية، ولا قبلت بهيمنة الاتحاد السوفياتي على أوروبا الشرقية وأنها استخدمت وسائل كثيرة حتى تبقى واشنطن قائدة للعالم، لأنَّ ذلك «قدرها» التاريخي الذي بدأته مع مبدأ «مونرو» الذي حجب القوى العالمية الأخرى عن الأميركيتين في العالم الغربي، ومنها استحوذت الولايات المتحدة على قيادة العالم كله في إطار «العولمة».

من الممكن الاستمرار في رصد أشكال الاضطراب الفكري الجارية في النظرة إلى عالم ما بعد «الكورونا»، بل إنه يمكن النظر له من زاوية أن الأزمة ذاتها لا تزال مستمرة، وأن دلائل عدم اليقين بالنسبة لها لا تزال ماثلة، فلا أحد يعرف متى تنتهي، وحتى الاعتماد على أن نقطة النهاية سوف تكون مع وجود اللقاح والدواء لا يمنع من وجود إمكانية لمعاودة العدوى مرة أخرى؛ ولا أن خصائص المرض ذاتها لا تزال غامضة. ويمكن أيضاً الاستسلام لفكرة أن العالم كان مضطرباً قبل ظهور «الكوفيد» حينما جرى التمرد على «العولمة» والانكماش في اتجاه «الدولة القومية»، فيما سمي سياسات «الهوية» التي جعلت كل جماعة بشرية تنسحب أو تنكمش على نفسها. حدوث مثل ذلك مع الاستمرار في التقدم التكنولوجي وتطبيقاته في الثورة التكنولوجية الرابعة لا بد أن يؤدي إلى كثير من الاضطراب والحيرة خاصة أن الحوكمة العالمية، والمنظمات الدولية، والإقليمية أيضا، ضعفت وقل شأنها وهيبتها؛ وباتت حتى أشكال مختلفة من المفاوضات والمعاهدات الدولية متعددة الأطراف موضع الشك والتراجع. ما نعلمه حقا أننا نعيش في عالم مضطرب، وأن هذا العالم المضطرب هو أهم معطيات عالم ما بعد الوباء، والسؤال المهم هو ماذا نفعل في عالمنا العربي إزاء هذه الحقيقة؟

ملك الأردن عبد الله الثاني ابن الحسين نشر مقالاً في إحدى الصحف الأميركية في 27 أبريل (نيسان) الماضي تحت عنوان «حان وقت العودة إلى العولمة؛ وهذه المرة لنفعلها بشكل صحيح». الملك في المقال يطالب بإعادة العولمة التي تقوي وتبني القدرات وتبشر بتعاون عالمي حقيقي بدلاً من المنافسة والتي تعترف بأن دولة واحدة، تعمل وحدها، لا يمكن أن تنجح. «نحن بحاجة إلى إعادة تشكيل المؤسسات الدولية وبناء مؤسسات جديدة عند الحاجة. نحن بحاجة إلى إنشاء واستدامة منظمات جديدة تعتمد على مهارات وموارد القطاعات المختلفة، عبر الحدود الوطنية». العولمة الجديدة إذن تقوم على تعاون «حقيقي» كان غائباً عن العولمة القديمة، لأن ما اختلط مع التعاون فيها كانت حقائق القوة النابعة من عدم التوازن في النظام الدولي ككل بين دول تحتكر قدراً كبيراً من عناصر القوة الرئيسية (العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية والناعمة) وأخرى لا تملكها. والرد التاريخي على حالة عدم التوازن هذه كان دائماً أن تتبع الدولة واحدة من ثلاث استراتيجيات: الاعتماد الكامل أو الكبير على الذات، اللحاق بتحالف كبير أو دولة عظمى، أو إنشاء تحالف إقليمي يعزز من المكانة والقدرة على التفاوض في النظام العالمي.

في هذا المقام سبق التنويه من قبل إلى حالة من «العروبة الجديدة» تجمع ما بين دول عربية متقاربة جغرافيا وفكريا، وكل منها يحاول الحفاظ على استقلاله إزاء الدول العظمي، ومشتركة في نية الإصلاح العميق لبنيتها الاقتصادية والاجتماعية، وسعيها إلى الاعتدال والسلام العادل في علاقاتها الإقليمية. هذه الدول تضم مصر والسعودية ودول الخليج العربية والأردن المتلامسة والمتلاحمة جغرافياً، ومرت تواً بتجربة ناجحة لمواجهة جائحة «الكوفيد»، تحركت فيها وأظهرت بطولة تاريخية قطاعات الصحة والعلم والمؤسسات، وحدث ذلك في ظل الأوضاع العالمية الصعبة، وانخفاض أسعار النفط، إضافة إلى ضغوط اقتصادية كبيرة. لقد ثبت لهذه الدول أنه لا يوجد بديل للإصلاح وتنويع مصادر الثروة الوطنية، وتثبيت أركان الدولة الوطنية في مواجهة كل الآيديولوجيات العابرة للقوميات من أول آيديولوجية الإخوان المسلمين، وتوابعها الإرهابية، وحتى «العولمة» التي ترتكز على أطراف لديها من القوة ما يجعلها لا تلتزم بقواعد الإنصاف. وسواء كان العالم المضطرب الآن سوف يستقر على تعان دولي أفضل، أو توازن عالمي جديد بين الصين والولايات المتحدة، أو أنه كما قال أحد الكتاب لا تنظروا إلى واشنطن أو بكين، وإنما انظروا إلى برلين التي تعيد اللحمة إلى أوروبا مرة أخرى من خلال أزمة الكورونا، وكأن ألمانيا لم تتم هزيمتها في الحرب العالمية الثانية؛ أيا ما كان عالم ما بعد الأزمة، فإن هذه المجموعة من الدول العربية المتقاربة لا يمكنها التعامل مع عالم ما بعد الأزمة وحدها.

الأمر بالطبيعة يستدعي أسئلة كثيرة، وربما أيضا يستدعي تجارب عربية سابقة لم تكن ناجعة، وأحيانا ربما لا تكون هناك لا أسئلة ولا أجوبة، وإنما الاستغراق في مشكلات الحاضر وعقبات التنمية الجارية التي تجعل الحديث عن أمور أخرى ليس مما تستدعيه الحكمة. الأخطار الحالية ليست قليلة سواء أكانت استراتيجية أو اقتصادية، ولكن بعضا من معالجتها، وما سوف يأتي معها من تطورات، يحتاج بشدة إلى قدرات مجمعة لسوق تقرب من 200 مليون نسمة وطبقة وسطى واسعة وقواعد علمية وجامعات ومشاهد سياحية معتبرة مع قدرات نفطية وغازية سوف يكون لها وقتها المعتبر عندما ينتهي اضطراب العالم، وإذا لم ينته فإن في الجمع العربي بين البحر الأحمر والخليج ما يكفي على الأقل في هذه المرحلة من التاريخ.

*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط