جدل ستوكهولم:

لماذا تتصاعد المخاوف من "مناعة القطيع" بالسويد؟

23 April 2020


احتدم الجدل مؤخرًا داخل السويد، وفي إطار محيطها الإقليمي، حول نهج ستوكهولم في مواجهة فيروس كورونا في ضوء تصاعد أعداد الوفيات بشكل لافت بالأسبوع الأخير جرَّاء الفيروس. ففي حين تصر الحكومة على عدم إغلاق البلاد وفرض الحظر على المواطنين، وتجادل بأن الركود الاقتصادي سينتج عنه ضحايا أكثر على المدى الطويل؛ تطالب أصوات داخلية بضرورة إعادة النظر في السياسة الحكومية المتبعة، وتأكيد أن سياسة "مناعة القطيع" ستؤدي إلى مزيد من الوفيات، خاصة أنه لم يتم اختبار فاعليتها سابقًا في أي دولة أخرى.

مؤشرات الوضع الحالي:

قبيل الدخول في تفاصيل النهج السويدي في مواجهة فيروس كورونا، ينبغي التعرف على طبيعة الوضع الحالي في السويد، من تطور أعداد المصابين والمتوفين، وكذلك نسب الشفاء من الفيروس، خاصة أن هذه المؤشرات تمثل مرآة عاكسة لنهج السويد في التعامل مع الأزمة. ولعلَّ أبرز هذه المؤشرات:

1- تزايد معدلات الإصابة: بلغ إجمالي عدد الحالات المصابة بفيروس كورونا في السويد، حتى 21 أبريل، 15,322 إصابة وفقًا لمرصد "جامعة جونز هوبكنز"، وبمتوسط حوالي 547 إصابة يومية، بما يوضح مسار تطور الحالات المصابة في الأيام القادمة.

 تطور معدلات الإصابة اليومية جراء فيروس كورونا في السويد


Source: Worldmeters

ويتضح من الشكل (1) أن هذه الزيادة المطردة قد بدأت في منتصف مارس الماضي، ويبدو أن المنحنى سيظل آخذًا في التصاعد مع صعوبة تسويته في ظل إصرار الحكومة السويدية على عدم اتخاذ إجراءات مشددة وتطبيق سياسات الحظر والإغلاق للمجتمع.

2- تزايد الوفيات مقابل تراجع حالات التعافي: إذ تشير أحدث الإحصائيات عن تداعيات الفيروس في السويد إلى تزايد معدل الوفيات اليومية جراء الفيروس؛ حيث وصل العدد الإجمالي للوفيات حتى 21 أبريل إلى 1,765 حالة وفاة، وذلك في مقابل تدني أعداد الحالات المتعافية من الفيروس إلى ما يقرب من ثلث عدد الوفيات، حيث بلغ عدد المتعافين حتى الآن 550 حالة.

ومن الجدير بالذكر أن أعداد الوفيات في الأسبوع الأخير فقط (من 14 – 20 أبريل) قد وصلت إلى 661 حالة وفاة، بما يمثل حوالي 42% من إجمالي عدد الوفيات، وبمتوسط يصل إلى 94 حالة يومية، الأمر الذي يُنبِّه إلى إمكانية تصاعد حالات الوفاة في الأسابيع المقبلة تزامنًا مع تزايد أعداد المصابين اليومية.

معدلات الوفاة مقابل حالات التعافي من كورونا  في السويد


Source: Worldmeters

وثمة ملاحظة جديرة بالإشارة هي أن معدل الوفيات اليومي المتزايد في السويد لا يقابله تزايد مطرد في أعداد المتعافين؛ بل إن الفجوة تتسع بين أعداد الوفيات وأعداد المتعافين، ليس فقط لتزايد معدل الوفيات بوتيرة أكبر من معدلات التعافي، بل أيضًا لثبات أعداد الحالات المتعافية من الفيروس (550 حالة منذ 18 أبريل) في مقابل استمرار صعود الحالات المتوفية نتيجة له.

مقاربة "مناعة القطيع":

تبنَّت السويد نهجًا مختلفًا، وربما فضفاضًا، في تعاملها مع انتشار وباء كورونا. فعلى عكس معظم دول العالم، بما فيها جارتاها الدنمارك والنرويج، لم تفرض السويد حظرًا على حركة المواطنين ولا إغلاقًا شاملًا أو حتى جزئيًّا للأماكن العامة والمحال التجارية وغيرها؛ بل إنها "نصحت" ببعض التدابير الوقائية الخاصة بالتجمعات الخارجية، والعمل من المنزل قدر المستطاع لمواجهة تفشي فيروس كورونا.

وقد انطلقت المقاربة السويدية من حقيقة أن الفيروس منتشر في جميع أنحاء العالم، وبدون لقاح أو تفشٍّ واسع النطاق يحقق "مناعة القطيع" فلن يتم التخلص منه، وأنه حتى إذا فعلت السويد ما فعلته الصين وأغلقت على نفسها بهدف القضاء على الفيروس داخل حدودها، فسوف يعود بمجرد السماح باستئناف أي سفر منها وإليها.

ومن ثم استندت السويد في سياساتها في التعامل مع الفيروس إلى فرضيتين؛ تنطلق الفرضية الأولى من أن الفيروس لا يمكن قمعه لكن يمكن إدارته، فلا فائدة من إغلاق البلاد، بل سيتعين علينا التعايش معه. أما الفرضية الثانية فتنطلق من أن المواطنين لن يتسامحوا مع الإغلاق الشديد لأكثر من شهر أو شهرين، لأن الملل والعزلة واليأس الاقتصادي سيزداد.

وبرغم أن الحكومة السويدية لم تَحْذُ حذو الدول الأخرى في فرض قيود صارمة على حركة المواطنين؛ إلا أنه ليس صحيحًا أنها لم تتخذ أية إجراءات لمحاصرة الفيروس، لكن الاختلاف يكمن في طريقة تنفيذها لهذه التدابير؛ وذلك لأنها حرصت على توجيه التعليمات للمواطنين من خلال وضعهم أمام مسؤوليتهم المجتمعية دون إجبار، معتمدة على ثقافة الشعب السويدي وثقته في حكومته.

التدابير الحكومية:

تقوم إدارة الأزمات في السويد على مبدأ المسؤولية؛ بمعنى أن الوكالة الحكومية المسؤولة عن مسألة معينة في الظروف العادية هي المسؤولة أيضًا عن هذه المسألة في حالة الأزمات. كما يعتمد النظام السويدي على الوكالات الحكومية المستقلة المتخصصة التي قدَّمت المشورة للحكومة بشأن التدابير اللازمة للحد من انتشار فيروس كورونا ومكافحة آثار انتشار العدوى في المجتمع. ثم يعود الأمر إلى الحكومة لاتخاذ القرارات. كما يمكن لهذه الوكالات أيضًا اتخاذ قرارات مستقلة معينة بشأن مكافحة العدوى. ووفقًا لذلك، اتخذت الحكومة السويدية مجموعة من الإجراءات لمواجهة فيروس كورونا، تمثلت أبرزها ما يلي:

1- استمرار فتح المدارس وإغلاق الجامعات: فلا تزال المدارس التمهيدية للأطفال من سن 6 إلى 16 عامًا مفتوحة، مع بعض الاستثناءات، في حين تم إغلاق الجامعات. إذ أشارت وكالة الصحة العامة في السويد إلى أن إغلاق جميع المدارس في السويد لن يكون إجراءً ذا مغزى في الوقت الحاضر، خاصة أنه لا توجد دراسات علمية تؤكد أن إغلاق المدارس سيكون له أي تأثير كبير. 

2- عدم إغلاق حضانات الأطفال: برغم أن الحضانات ما زالت مفتوحة في السويد، إلا أن الحكومة قد تُفكر في إغلاقها في مرحلة لاحقة. لذا تم تمرير قانون جديد يضمن توفير رعاية للأطفال الذين يمتلك آباؤهم وظائف عامة حيوية، مثل العاملين في القطاع الصحي أو قطاع الشرطة.

3- منع التجمعات وحث المواطنين على البقاء في المنازل: إذ قررت الحكومة منع التجمعات لأكثر من 50 شخصًا، كما أغلقت منتجعات التزلج، وحثت المواطنين على العمل من المنزل قدر المستطاع، خاصة وأن الشعب السويدي مُدرّب على ذلك. وطالبت الحكومة كل من يشعر بأعراض مرضية، أو من يزيد عمره على 70 عامًا، بالعزل الذاتي. كما شجعت المواطنين على الالتزام بضوابط التباعد الاجتماعي حفاظًا على أرواحهم، دون أن تأمرهم بذلك.

4- استمرار عمل المطاعم بشروط: سمحت الحكومة باستمرار عمل المطاعم والبارات لكن من خلال تقديم خدمة المائدة فقط، ومع الحفاظ على تباعد المسافات بين الموائد، كما تقوم متاجر البقالة بتركيب فواصل زجاجية بين العملاء والصرافين.

5- تسهيلات في سداد الضرائب والرسوم: حيث يمكن للشركات المتأثرة ماليًّا بفيروس كورونا التقدم بطلب للحكومة للحصول على إعفاء من دفع الضرائب والرسوم إلى وقت لاحق. كما تم تخفيض رسوم أصحاب العمل مؤقتًا ومساهمات العمل الحر.

بيد أن هذه التدابير واجهت بانتقادات حادة بعد تصاعد أعداد الوفيات مؤخرًا، والإشارة إلى أنها "غير كافية" لمواجهة انتشار هذا الوباء العالمي، خاصة وأنه لا توجد سابقة لسياسة مناعة القطيع في أي دولة بالعالم. فلماذا تخاطر السويد هذه المخاطرة بأرواح المواطنين بهدف الحفاظ على الاقتصاد؟!. 

من ناحية أخرى، أشار الرافضون لسياسة الحكومة إلى أنه يتعذر ممارسة التباعد الاجتماعي للوقاية من العدوى مع تطبيق نظرية "مناعة القطيع" في الوقت ذاته، كما اتهم آخرون الحكومة بأنها لم تكن أصلًا مستعدة على الإطلاق لمواجهة الوباء.

لكن على الجانب الآخر، تصر الحكومة على أن خطتها مستدامة على المدى الطويل، رافضة تطبيق الإجراءات الصارمة قصيرة المدى باعتبارها غير فعالة للغاية. مشيرة إلى أن المواطنين التزموا من تلقاء أنفسهم بالتعليمات الوقائية، واتبعوا توصيات الحكومة، وغيَّروا من عاداتهم اليومية، مستدلة بدراسة أُجريت في الأسبوع الأخير من مارس الماضي، أكد خلالها ثلثا السويديين أنهم توقفوا عن السفر ومقابلة الأشخاص واستخدام وسائل النقل العام. كما أظهرت بيانات "البنك السويدي" انخفاضًا حادًّا في النشاط بالأسبوعين الأولين من أبريل.

تقييم التجربة السويدية:

من المبكر الجزم بنجاح السويد أو إخفاقها في مقاربتها الاستثنائية لمحاربة انتشار فيروس كورونا، وذلك لسببين؛ أولًا: أنه ليس من المعروف إلى متى ستظل الحكومة السويدية متمسكة بهذا النهج في محاربة الفيروس، خاصة أن رئيس الوزراء "ستيفان لوفين" بدأ يتحدث بلهجة أكثر قتامة، حيث أشار إلى أن بلاده قد تواجه "آلاف" الوفيات الناجمة عن فيروس كورونا، وأن الأزمة قد تستمر لأشهر بدلًا من أسابيع.

كما ذكرت صحيفة "إكسبرسن" السويدية أن حكومة "لوفين" قد تسعى للحصول على سلطات استثنائية لتجاوز البرلمان من أجل وضع خطة أكثر صرامة لمواجهة فيروس كورونا.

أما السبب الثاني فهو أنه برغم تحلي المواطنين بالمسؤولية الجماعية، والتزامهم بتوصيات الحكومة، وطبيعتهم الميَّالة للعزلة؛ إلا أن أعداد الإصابات في تزايد مخيف يوميًّا، وتتزايد معها أعداد الوفيات، وهو ما يعني أنه لم يتم إبطاء انتشار الفيروس، بل -على العكس من جيرانها- زادت معدلات الإصابة في السويد بشكل كبير.

وقد أشار "أندريس تينجيل"، عالم الأوبئة السويدي ومهندس الاستراتيجية السويدية، في 19 أبريل، إلى أن "سكان استكهولم -مركز تفشي المرض في البلاد- يمكن أن يحصلوا على مناعة القطيع في وقت مبكر من الشهر المقبل (مايو)". وتعتمد هذه التصريحات على نماذج رياضية تتنبأ بحجم انتشار الفيروس، بيد أن المشكلة تكمن في أنه لا يزال من غير الواضح ما إذا كان التقاط الفيروس يجعل الأشخاص محصنين من التقاطه مرة أخرى أم لا.

ومن ثم سيظل نجاح الحكومة السويدية من عدمه في نهجها الفريد لمواجهة كورونا مرهونًا بعدة عوامل؛ منها قدرتها على الاستمرار في اتّباع النهج نفسه برغم تزايد أعداد الإصابات والوفيات، واستمرار ثقة المواطنين في السياسات الحكومية مهما كانت العواقب، وضمان عدم التقاط الفيروس مرة أخرى بعد اكتساب المناعة ضده.

ختامًا، إذا نجحت السويد في مقاربتها فإنها ستكون ملهمة لتجارب أخرى، ونموذجًا تحتذي به الدول في مواجهة كورونا؛ لكنها إن فشلت فربما سيكون الأوان قد فات على تغيير الخطة واتخاذ قرارات صارمة لمواجهة انتشار هذا الوباء، مما سيضعها في مأزق ربما لن تخرج منه في وقت قريب.