حسابات معقدة:

هل توجه واشنطن مزيداً من الضربات لحلفاء طهران في العراق؟

17 March 2020


جاء تكليف الرئيس العراقي برهم صالح، في 17 مارس الجاري، لمحافظ النجف الأسبق النائب عن تحالف "النصر" في البرلمان عدنان الزرفي بتشكيل الحكومة الجديدة، بعد أيام قليلة من تزايد وتيرة التصعيد العسكري بين مليشيا "حزب الله" العراقي والقوات الأمريكية في العراق، حيث تبادل الطرفان شن هجمات متبادلة بدأها الحزب بهجوم على معسكر التاجي في بغداد الذي تتواجد فيه قوات أمريكية، في 11 مارس الحالي، أسفر عن مقتل جنديين أمريكيين وآخر بريطاني، ردت عليه القوات الأمريكية، في 13 من الشهر نفسه، عبر قصف خمس مواقع له في العراق وعلى الحدود المشتركة مع سوريا، فيما جدد الحزب هجومه مرة أخرى، بعد ذلك بيوم واحد، بشكل أدى إلى إصابة بعض منتسبي القوات الجوية العراقية. 

ويرجح مراقبون محليون استئناف القوات الأمريكية هجماتها على معسكرات ومخازن أسلحة المليشيا العراقية التي تدرجها واشنطن كمنظمة إرهابية، خاصة بعد أن حذرت الأخيرة، في 16 مارس الجاري، من أنها لن تتهاون في حماية جنودها، بالتوازي مع إطلاق صاروخين على معسكر بسماية جنوب شرق بغداد.

 لكن اللافت في هذا السياق، هو أن هذه التحذيرات تأتي في الوقت الذي أشارت تقارير إعلامية، في 17 مارس الجاري، إلى استعداد الجيش الأمريكي للانسحاب من ثلاثة قواعد رئيسية في العراق من بينها قاعدة "القائم".

وربما يكون هذا التصعيد أحد أهم التحديات التي سوف تواجه المرشح الجديد لتشكيل الحكومة عدنان الزرفي، وهى مهمة لا يبدو أنها سوف تكون يسيرة في ظل الخلافات القائمة وتشابك مصالح القوى المعنية بما يجري على الساحة العراقية.

مواقف متباينة:

تعد موجة التصعيد الحالية هى الأعنف في المواجهات بين الطرفين منذ بدأت المليشيا هجماتها ضد الوجود الأمريكي في العراق في 27 ديسمبر الماضي لدى استهدافها قاعدة عسكرية بالقرب من كركوك قتل فيها مقاول يعمل لدى الجيش الأمريكي، صعّدت في مقابلها الولايات المتحدة بقصف أكثر من موقع للمليشيا بطائرات دون طيار، واستمر التصعيد حتى قامت الأولى بتوجيه ضربة عسكرية أدت إلى مقتل قائد "فيلق القدس" في الحرس الثوري قاسم سليماني ونائب قائد "الحشد الشعبي" أبومهدي المهندس في 3 يناير الماضي.

وعلى الصعيد السياسي، عكست ردود الفعل في العراق مستوى غير مسبوق أيضاً من القلق، لاسيما وأن تلك المواجهات تأتي في ظل حالة من السيولة السياسية في البلاد بسبب تعثر تشكيل الحكومة، رغم قيام الرئيس برهم صالح، في 17 من الشهر الحالي، بتكليف محافظ النجف الأسبق عدنان الزرفي بتشكيلها، الأمر الذي جعل أغلب القوى السياسية تدعو إلى التهدئة والتحلي بالمسئولية في ظل الظروف السياسية الراهنة.

 وكان الموقف الأبرز بينها جميعاً هو موقف التيار الصدري المعروف بتشدده تجاه الوجود الأمريكي في العراق، والذي دعا زعيمه مقتدى الصدر، على عكس ما كان متوقعاً، إلى "تجنب التصعيد ونشر السلام في البلاد"، وأشار إلى أن "مراعاة الظروف المحيطة تدفع لمطالبة السلم مع المحتل".

أما على المستوى العسكري، فبدا أن هناك تحفظاً من البداية على تصرف المليشيا، وفق تقديرات محلية أشارت إلى أن القوات المسلحة العراقية تعتبر أن تلك الضربات تشكل تحدياً لها على مستوى التداعيات، فضلاً عن الأزمة العميقة التي تتمثل في عدم القدرة على القيادة والسيطرة على فصائل "الحشد الشعبي"، حيث تؤكد تلك الهجمات صعوبة إدماج تلك الفصائل في إطار مؤسسي. لكن بعد أن طالت صواريخ المليشيات الجزء الخاص بالقوات العراقية في معسكر التاجي، عكس بيان القوات المسلحة لهجة شديدة تجاهها. 

تشابكات مستمرة:  

من المتصور أن هناك دوافع غير معلنة للتصعيد على المستويين السياسي والأمني. فعلى المستوى السياسي، هناك إشارات أمريكية تحوم حول مدى تأثير إيران على عملية اختيار رئيس الوزراء العراقي. وفي المقابل، توجه طهران اتهامات لواشنطن بالوقوف خلف الاحتجاجات ضد تركيبة النظام السياسي العراقى ذات الطابع المحاصصي.

 أما على الصعيد العسكري، فإن هذه التطورات لا تنفصل عن إعلان الولايات المتحدة نشر أنظمة دفاع "باتريوت" في العراق، وهو الأمر الذي تعارضه إيران بشدة، ومع اقتراب نشر تلك الأنظمة تجدد التصعيد، ويقول مراقبون محليون أن الدولة قد لا تكون على اطلاع كامل بتفاصيل نشر تلك الأنظمة في ظل الوضع السياسي الراهن. 

وبالتالي، يمكن القول إن هناك إشكالية رئيسية تتعلق بقواعد العمل العسكري الأمريكي في العراق، والتي لم تكن محل خلاف في السابق لدى أى طرف من الأطراف، ومن بينها إيران، لكن تطورات الوضع العسكري الأمريكي بعد تخفيض الوجود في سوريا، ثم تعزيز البنية العسكرية الأمريكية على نحو يفرض تحدياً للحركة الإيرانية في العراق وسوريا، يعد هو الإشكال الرئيسي الذي يقف خلف تغيير قواعد الاشتباك التقليدية المتعارف عليها. 

دلالات عديدة: 

يطرح التصعيد العسكري الأخير مجموعة من الدلالات التي تتمثل في:

1- عامل التوقيت: جاءت عملية استئناف الهجمات من جانب مليشيا "حزب الله" بعد أسبوع من زيارة علي شمخاني أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، أشاد خلالها بدور "القوى المقاومة" للوجود الأمريكي في العراق، وهى أول زيارة لمسئول إيراني رفيع على مدار الشهرين التاليين بعد مقتل سليماني، وكان على رأس وفد عسكري واستخباراتي كبير وفقاً للتقارير الإعلامية العراقية، كما أنه، بحسب جدول أعمال الزيارة، التقى أرفع المسئولين الأمنيين والاستخباراتيين ورئيس هيئة "الحشد الشعبي" فالح الفياض، في حين لم تشر التقارير، على سبيل المثال، إلى أنه التقى عبد العزيز المحمداوي "أبو فدك" الذي جرى اختياره كرئيس لأركان "الحشد الشعبي" الشهر الماضي خلفاً للمهندس، ومن المؤكد أن هذا اللقاء عقد بعيداً عن وسائل الإعلام، على نحو كانت له تداعياته على ما جرى على الساحة لاحقاً. 

2- غياب آليات التنسيق: تضفي الإشارة المتكررة من جانب القيادات السياسية في العراق، لاسيما الرئاسات الثلاث، بأنها لا تريد تحول العراق إلى ساحة لتصفية الخلافات بين واشنطن وطهران، مزيداً من الأهمية على وجهة النظر التي تدعو إلى تفعيل دور الحكومة العراقية كمنسق بين الطرفين في العراق، باعتبار أن وجود حكومة قوية يمثل آلية مهمة يمكن من خلالها تقليل فرص الاحتكاك، حيث أن غياب تلك الآلية يجعل الطرفين على مسار الصدام المباشر باستمرار. 

3- طبيعة الهجمات: في الهجوم الأول – الأربعاء 11 مارس الجاري– ذكر بيان عسكري أمريكي أنه تم إطلاق 18 قذيفة صاروخية من نوع "كاتيوشا"، في حين تم إبطال مفعول 18 قذيفة أخرى، كانت في مواقع محيطة وجاهزة للإطلاق. وفي الهجوم الثاني – ظهر السبت 14 من الشهر نفسه– أُطلِقت 33 قذيفة صاروخية من النوع نفسه، وبالتالي هناك مضاعفة للعدد، وهو مؤشر على أن القوات الأمنية لم تتمكن من مسح المواقع بالكامل التي نشرت فيها منصات الإطلاق، وقد لا تكون لديها في الأساس المعلومات الكافية بتلك المواقع، على نحو يشير بوضوح إلى ملامح وأبعاد العلاقة بين "الحشد" والجيش، ويلقي الضوء على الدور الذي يقوم به "حزب الله" الذي أصبح يُنظر إليه على أنه من يقود "الحشد" حالياً. 

4- تكرار استهداف التاجي: لا تحمل قاعدة التاجي رمزية مختلفة عن مواقع سبق استهدافها من قبل مليشيات "الحشد"، لكن يعتقد أن نتائج الضربات كاشفة عن الهدف من وراء ذلك، حيث أنها تعكس مدى قدرة "حزب الله" على إصابة تلك الأهداف بدقة، وهو ما أرجعه بعض المراقبين إلى نجاحه في تجنيد عناصر داخل القاعدة مكنته من تحديد الإحداثيات على نحو أدى إلى استهداف الجزء الأمريكي في القاعدة خلال الضربة الأولى. 

أما في الضربة الثانية، فهناك احتمالان، فإما أن يكون الانحراف المحدود في إصابة الهدف جاء نتيجة أن معسكر العمليات المشتركة "العراقي – الأمريكي" في هذا الجزء من القاعدة يكاد يجاور مقر قوة الدفاع الجوي العراقية وبالتالى أصابها، أو أن "حزب الله" أراد أن يستهدف بالفعل القوى العراقية دون أن يؤكد أنه يهدف إلى ذلك، في رسالة للجيش العراقي بأن يوقف عمليات التدريب المشتركة مع الجانب الأمريكي حتى تنتهي تلك الذريعة التي تقوم على أن القوات الأمريكية موجودة بهدف تدريب القوات العراقية هناك.  

السيناريو القادم: 

قد تتعدد السيناريوهات في الحالة الراهنة، لكن من غير المتصور أن تتمكن مليشيا من خوض مواجهة حربية بالمعنى العسكري مع القوات الأمريكية في العراق. ومع ذلك، لا يمكن استبعاد نشوب معارك استنزاف على الجانبين، وفقاً لقواعد الاشتباك المرحلية، حيث ربما توجه القوات الأمريكية ضربات جديدة إلى مليشيا "حزب الله"، على غرار الضربات المركزة التي استهدفت مخازن الأسلحة في منطقة جرف الصخر في بابل. 

وفي الأخير؛ يمكن القول إن هناك محاولة من جانب إيران والمليشيات الموالية لها لرفع كلفة اغتيال سليماني والمهندس. ومع ذلك، فإن الدافع الاستراتيجي الأهم للتصعيد الأخير يتمثل في اتجاه الولايات المتحدة نحو تعزيز قدراتها العسكرية في العراق تحسباً لاستمرار التحولات السياسية والعسكرية التى تشهدها الساحة العراقية خلال الفترة الحالية.