معضلة مستمرة:

تأثير التصعيد في إدلب على التوافق الروسي-التركي

12 February 2020


تكشف التصريحات المتبادلة التي يدلي بها المسئولون الروس والأتراك تجاه الأوضاع الميدانية في إدلب عن صعوبة توصل الطرفين إلى تفاهمات جديدة لتجاوز الخلافات القائمة، ويعزز هذا الاتجاه المواجهات العسكرية التي اندلعت في الفترة الأخيرة، في ظل استمرار العمليات العسكرية من جانب الجيش السوري، بدعم روسي، دون توقف، بالإضافة إلى إصرار موسكو على تفعيل اتفاق سوتشي مع أنقرة، على نحو ما أكد عليه ديمترى بيسكوف المتحدث باسم الكرملين، الذي ألمح إلى أن الأخيرة لم تلتزم بالبند الرئيسي في الاتفاق وهو "تحييد" الجماعات الإرهابية في إدلب، وذلك في مقابل اتجاه أنقرة إلى الانخراط في مواجهة مباشرة مع الجيش السوري، بعد أن أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن "إجراءات عنيفة" قد تتخذ ضد الأخير. 

وقد دفع ذلك اتجاهات عديدة إلى طرح تساؤلات حول مدى قدرة موسكو وأنقرة على تجاوز المعضلة الحالية في إدلب، في ضوء التباينات التي تتسع تدريجياً بينهما، حيث من المؤكد أن عدم تجاوز هذه المعضلة سينعكس على التفاهمات القائمة بينهما، في إطار ما يسمى بـ"مسار الأستانة" بالمشاركة مع إيران. 

تحركات ضاغطة:

أصبحت العديد من النقاط الأمنية التركية محاصرة من جانب الجيش السوري، الذي تشير مواقفه، من جانب آخر، إلى أنه لن يتراجع بعد تقدمه على عدد من النقاط الإستراتيجية، ومنها معرة النعمان شرق إدلب وطريق M5، كما أنه يوظِّف الموقف الروسي الداعم له لصالحه. وفي هذا الصدد تشير العديد من التقارير الميدانية إلى أن القوات الروسية تسير على خط تنفيذ اتفاق سوتشي وفقاً لتصريحات الدبلوماسي الروسي بيوتر إيليتشوف الذي قال أنه "بموجب الاتفاق تعهدت تركيا بفصل المعارضة المعتدلة عن الإرهابيين وإقامة منطقة منزوعة السلاح وحرية المرور عبر طريقى M4 وM5 الدوليين، لكن لم يتم تنفيذ شىء من ذلك خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية"، بما يعني أن التحركات التي يقوم بها الجيش السوري والقوات الروسية تهدف إلى رفع مستوى الضغوط على تركيا وفرض خيارات محدودة أمامها للتعامل مع تلك التطورات.

اشتباك معقد:

وفي هذا السياق، تتجه روسيا إلى الضغط في اتجاه المضى قدماً إلى الأمام في معركة إدلب، مستندة إلى أن هناك صعوبة في التراجع إلى الخطوط الخلفية مرة أخرى، بما فيها النقاط الأمنية التركية التي باتت محاصرة من قبل الجيش السوري، ومنها على سيل المثال نقاط تل الصرمان ومعر حطاط ومورك، على نحو تقابله أنقرة بتوجيه انتقادات قوية لموسكو، لاسيما أنها لا تريد بدورها التراجع عن نقاط الانتشار المتفق عليها، بل وتعمل على زيادتها كما فعلت مع إنشاء نقطتين جديدتين في منطقة سراقب، التي استعادها الجيش السورى أيضاً، وهو ما فرض في النهاية اشتباكاً معقداً بين الأطراف المنخرطة في المواجهات المسلحة. 

رسائل أمريكية:

وقد كان لافتاً أنه بالتوازي مع تصاعد حدة التوتر بين تركيا من جهة وكل من روسيا والنظام السوري من جهة أخرى، سارعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى التدخل عبر مساندة الأولى، حيث جدد وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو تصريحاته التي قال فيها أن واشنطن تدعم أنقرة حليفتها في "الناتو"، وهو الموقف الذي سبق أن ألمح إليه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مؤخراً لتمرير رسالة جديدة إلى روسيا من هذه الزاوية مفادها أن هناك إسناداً أمريكياً لموقف أنقرة، ربما تحاول الأخيرة استغلاله لمواجهة الضغوط التي تمارسها روسيا والنظام السوري ضدها. 

معركة حاسمة:

من هنا، تبدو معركة إدلب حاسمة، خاصة بالنسبة للجيش السوري، الذي كان لافتاً أنه حدد اعتباراً مختلفاً للتحرك حالياً في مواجهة الوجود التركي، وهو اعتبار "السيادة" الذي أكد عليه بيانه في 11 فبراير الجاري، والذي اتهم فيه تركيا بتصعيد الانتهاكات ضد السيادة السورية من خلال إرسال الكثير من التعزيزات إلى محافظتى إدلب وحلب، وهو ما يؤشر إلى أن الموقف السوري الحالي تجاه التواجد التركي في إدلب ربما يختلف عن المواقف التي اتخذت في مراحل سابقة، لاعتبارات خاصة بتغير توازنات القوى في سوريا وتصاعد حدة التوتر على الساحة الإقليمية بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، واتساع مساحة الخلافات بين روسيا وتركيا. 

سيناريوهات محتملة: 

يبدو التوجه التركي واضحاً نحو التصعيد عبر اللجوء للخيار العسكري، حيث جدد المسئولون الأتراك، في 12 فبراير الجاري، الحديث عن ضرورة خروج الجيش السوري من نقاط المراقبة حتى نهاية فبراير الحالي، بما فيها النقاط الجديدة. واللافت في نبرة التصعيد التركية الجديدة أنها وضعت روسيا في دائرة الاستهداف، إذ أشار هؤلاء المسئولون صراحة إلى "الهجمات السورية الروسية التي تستهدف المدنيين وليس الإرهابيين"، معتبرين أن الهجمات تهدف إلى "إجبار المدنيين على التوجه نحو الحدود التركية كى يسهل على القوات المهاجمة عملية احتلال المناطق".

وفي مقابل ذلك، قد تتجه روسيا بدورها إلى التصعيد عبر تعزيز تقدم الجيش السوري، حيث تخشى الهجمات الارتدادية على قاعدة "حميميم" وفقاً لما أشار إليه إيليتشوف، بما يزيد من احتمالات نشوب تصعيد متبادل من جانب الطرفين قد يصل إلى مرحلة الصدام المباشر في حالتين: الأولى، اعتراض الطائرات الروسية، حيث ألمح أردوغان إلى أنه لن يسمح بالطيران فوق تلك المناطق. والثانية، استهداف الجيش السوري في المقابل لقوات تركية مجدداً بعد سقوط 14 قتيلاً تركياً في الأسبوع الماضي، حيث ستقوم أنقرة، في الغالب، بالرد على ذلك، بشكل لا يستبعد معه اندلاع مواجهات مباشرة مرة أخرى، خاصة وأن هناك تعزيزات تركية جديدة وصلت إلى شمال إدلب. 

مع ذلك، فإن اتجاه الأطراف المعنية إلى تبني سياسة الاحتواء قد يكون احتمالاً قائماً، من أجل ضبط حدود المواجهات ومنع تطورها إلى صراع مباشر، إلا أن ذلك سيتوقف على مدى مرونة أحد الأطراف في تقديم تنازل والعودة خطوة إلى الخلف والتفاهم على الخطوات المقبلة، والتي قد يكون من بينها ترحيل خطوط سوتشي باتجاه الحدود السورية- التركية، حتى تجري عملية فض الاشتباك بين القوات. ولا يستبعد انخراط أطراف أخرى في هذا المسار، على غرار إيران التي عرضت التوسط من أجل إجراء حوار سوري – تركي. إلا أن هذا الانخراط سوف يكون محدود التأثير، في ضوء الحسابات المتشابكة للأطراف المختلفة. 

في النهاية، يمكن القول إن اتخاذ أى قرار، سواء بالتصعيد أو بتسوية الأزمة، سوف يكون له تداعيات مباشرة على التوافق التركي- الروسي الحالي الذي اتسع نطاقه في سوريا خلال السنوات الماضية، بما يعني أن اختبار إدلب سيكون مصيرياً بالنسبة لهذا التوافق.