توازنات جديدة:

هل تزداد قوة الرئاسة الجزائرية بعد رحيل "قايد صالح"؟

25 December 2019


نال الفريق "أحمد قايد صالح"، نائب وزير الدفاع ورئيس الأركان الجزائري، بعد رحيله تقديرًا واسعًا من الأوساط السياسية الجزائرية المختلفة رغم عدم التوافق على دوره في إدارة المشهد السياسي طوال المرحلة الانتقالية. وشهد الجميع بدوره في حفظ استقرار البلاد وحماية الأرواح؛ حيث عمل على حفظ التوازن، وضبط إيقاع المشهد السياسي.

من هو "قايد صالح"؟

ينتمي "قايد صالح" المولود في ولاية باتنة جنوب شرق الجزائر عام 1940، إلى الجيل الذي حارب في صفوف جيش التحرير الوطني الذي حارب ضد الاستعمار الفرنسي، ثم استمر في صفوف الجيش الوطني الشعبي بعد الاستقلال، وتدرج في الرتب والمناصب إلى أن عينه "بوتفليقة" رئيسًا للأركان في 2004، وقلَّده رتبة فريق عام 2006، وعينه نائبًا لوزير الدفاع الوطني عام 2013، ومن ثم بات عضوًا في مجلس الوزراء. 

ويرى الخبراء الجزائريون أن تعيينه نائبًا لوزير الدفاع الوطني جاء مكافأة له نظير دوره في تفكيك جهاز الاستخبارات المتمثل في دائرة الاستعلام والأمن التي كانت تُعرف وقتها بأنها دولة داخل الدولة. وتمكن "قايد صالح" عام 2015 من إبعاد مديرها القوي "محمد مدين" بعد 25 عامًا من ترؤسه الاستخبارات الجزائرية.

دعم الانتقال السياسي:

كان الفريق "قايد صالح" بمثابة المهندس والضامن الفعلي للانتقال السياسي الذي شهدته الجزائر بداية من تنحي الرئيس السابق "عبدالعزيز بوتفليقة" في أبريل 2019 وصولًا إلى إجراء الانتخابات الرئاسية، وتنظيم حفل تنصيب الرئيس المنتخب "عبدالمجيد تبون" ديسمبر 2019. وسنشير فيما يلي إلى ملامح الدور التاريخي الذي اضطلع به للحفاظ على مؤسسات الدولة وضمان استقرار عملها. 

1- تعجيل رحيل "بوتفليقة": على الرغم من قرب "قايد صالح" من نظام "بوتفليقة"، ولعبه أدوارًا بارزة لصالح ترسيخ سلطته على المؤسسة العسكرية؛ لكن دعوته بالتطبيق الفوري للنص الدستوري في المادة 102، والمتعلقة بعجز الرئيس الكلي عن القيام بمسئولياته كانت حاسمة في تنحي "بوتفليقة"، والبدء في مرحلة محاكمة رموز نظامه بتهم تتعلق بالفساد المالي والسياسي. وتجدر الإشارة إلى أن "صالح" رفض في السابق دعوات الأحزاب والشخصيات السياسية التي طالبته بالتدخل في العملية السياسية بعد العجز الكلي الذي ظهر عليه "بوتفليقة" بعد انتخابات 2014؛ إذ أعلن صراحة استقالة الجيش من السياسة رافضًا الزج بالمؤسسة العسكرية في العملية السياسية، واحترم ذلك حتى اندلع الحراك الشعبي في فبراير 2019، واستجاب له في سياق إصراره على عدم الحيد عن النصوص الدستورية، وما ترتبه من إجراءات سياسية وقانونية لإدارة المرحلة الانتقالية.

2- إجراء الانتخابات الرئاسية: رغم حالة الاعتراض والرفض التي لاقاها اقتراح إجراء الانتخابات الرئاسية من الحراك الشعبي وبعض القوى السياسية، وتعثر إجرائها لمرتين، إلا أن إصرار الإدارة الانتقالية للبلاد بزعامة الرئيس المؤقت "عبدالقادر بن صالح"، و"قايد صالح" رئيس أركان الجيش الوطني بإنجاز مهمة الانتقال السياسي، وسد الشغور الرئاسي الذي نتج عن استقالة "بوتفليقة" كان قاطعًا، وبالفعل نجح في قيادة الجزائر نحو الرئاسيات في ديسمبر 2019، وضمن شفافية وسلمية الانتخابات، بدءًا من حماية المرشحين وفاعلياتهم، وصولًا إلى تأمين الصناديق الانتخابية وإعلان النتائج النهائية. ويُعد توقيت إتمام استحقاق الانتخابات الرئاسية، وتسلم الرئيس المنتخب سلطاته قبل وفاة "قايد صالح" مثاليًّا، وذلك خوفًا من تعطل الاستحقاق الدستوري في حال سبقت وفاته إجراء الانتخابات.

3- ضبط الإيقاع: شهدت مرحلة ما بعد استقالة "بوتفليقة" حالة من الانهيار وعدم الاستقرار داخل المؤسسات، وانتقل الزخم السياسي من المؤسسات إلى الشارع والحراك، لا سيما مع تراجع الثقة في أحزاب السلطة ممثلة في حزبي جبهة التحرير، والتجمع الوطني. واستطاع الفريق "قايد صالح" في هذه المرحلة مقابلة الضغوطات الشعبية بتسريع تشكيل المؤسسات الانتقالية وشرعنة أعمالها، مثل: التعجيل بتنصيب رئيس مجلس الأمة "عبدالقادر بن صالح" كرئيس انتقالي، وإعلان حكومة كفاءات وطنية، وتشكيل هيئة الوساطة والحوار الوطني التي تمخض عنها تأسيس السلطة الوطنية لتنظيم الانتخابات، وتمكن بذلك من ضبط إيقاع المرحلة الانتقالية، وحفظ دستور البلاد، وإجراء الانتخابات الرئاسية، وتسليم البلاد إلى رئيس مدني منتخب كما وعد. 

4- كسب ثقة الشارع: رغم رفض الحراك للدور السياسي الذي اضطلعت به المؤسسة العسكرية بعد استقالة "بوتفليقة"، إلا أنه لا أحد يُنكر الدور الإيجابي الذي اضطلع به "قايد صالح" في التعجيل برحيل "بوتفليقة"، والحفاظ على سلمية الاحتجاجات، والوفاء بالوعد الذي قطعه على نفسه بالحياد وعدم تدخل المؤسسة العسكرية لصالح أيٍ من المتنافسين، والعمل على عدم إراقة قطرة دم واحدة. واستطاع بحفظ الأرواح، والمؤسسات والدولة، تحقيق المعادلة الصعبة للاستقرار. ورغم النظرة الإيجابية للدور الذي اضطلع به "قايد صالح" خلال الفترة الانتقالية، إلا أن الحراك نظر له نظرة سلبية، خاصة بعد إصراره على إجراء الانتخابات الرئاسية، ورفضه تمديد الفترة الانتقالية.

وكذلك ما صاحب الحراك من حملات اعتقال واسعة في صفوف المتظاهرين. ورغم ذلك، يُذكر لـ"قايد صالح" حرصه على التواصل مع الشعب الجزائري والحراك؛ حيث ألقى خلال الفترة الانتقالية وحدها ما يُقرب من 54 خطابًا للجيش والشعب، وحملت خطاباته رسائل تؤكد التزامه بتعهداته تجاه الحراك، وتحذير الجهات الداخلية والخارجية من التآمر. وكانت قد أعلنت وزارة الشئون الدينية والأوقاف الجزائرية عن إقامة صلاة الغائب على الراحل بعموم مساجد الجزائر.

5- تماسك المؤسسة العسكرية: وضع "قايد صالح" منذ بدء الحراك الشعبي تماسك المؤسسة العسكرية نُصب عينيه باعتبارها حائط الصد الأول أمام محاولات جرّ البلاد إلى العنف والتفكك. ورغم دعمه للعهدة الخامسة للرئيس السابق "بوتفليقة"، إلا أنه تراجع عن ذلك وانحاز للحراك تجنبًا لانقسام المؤسسة العسكرية التي دعم أغلب قياداتها مطالب الحراك، خاصة ما يتعلق برفض العُهدة الخامسة. ونجح "قايد صالح" كذلك في تجنيب الجيش الوطني خطر التورط في إراقة دماء المحتجين متمسكًا بما تُمليه النصوص الدستورية. إضافةً إلى ذلك، التزم سياسة الشفافية والحوار مع أبناء الجيش في القواعد والنواحي العسكرية المختلفة؛ حيث قام بأكثر من 50 جولة ميدانية، وأكثر من 50 خطابًا بهدف ترسيخ سياسة الحوار، وإشراك الضباط والجنود من الرتب الدنيا. 

تداعيات الوفاة:

رغم أن هناك اتجاهات واسعة داخل الأوساط السياسية الجزائرية تعتبر أن تغيب "صالح" عن المشهد السياسي الجزائري لن يكون مؤثرًا بدرجة كبيرة، إلا أننا نعتبر الغياب المفاجئ للرجل سينعكس بدرجةٍ أو بأخرى على طبيعة العلاقات بين الفاعلين في المشهد السياسي الجزائري، خاصة العلاقة بين مؤسستي الرئاسة والجيش الوطني، والعلاقة بين الحراك ومؤسسة الرئاسة.

ومن المتوقع أن يستفيد الرئيس المنتخب "تبون" من غياب "قايد صالح" باعتباره رجل الجزائر الأقوى منذ أبريل 2019؛ إذ بإمكانه التحرر من الوصاية العسكرية على المشهد السياسي من خلال التقرب من الحراك، والإنصات لمطالبه، لا سيما وأنه دعا الحراك للحوار، وأعلن التزامه بتعديل الدستور وحل البرلمان وإطلاق سراح معتقلي الحراك، وتوسيع الحريات العامة، وهو ما سيسمح بتقليص دور المؤسسة العسكرية الذي تضاعف طوال المرحلة الانتقالية، وقد يدعمه في ذلك أيضًا شخصية رئيس الأركان بالنيابة "سعيد شنقريحة" التي تميل لتجنب الظهور الإعلامي، ودعمه للحراك منذ بداياته، وحرصه على ضرورة النأي بالمؤسسة العسكرية عن الهجوم الإعلامي. ومن المتوقع أن تعود المؤسسة العسكرية بعد وفاة "قايد صالح" للتركيز على أوضاعها المهنية، خاصة أن الجزائر تمتلك حدودًا ملتهبة مع مالي التي تعج بالجماعات الإرهابية المتشددة كحركة التوحيد والجهاد وأنصار الدين، مع ليبيا التي تغوص في الفوضى وعدم الاستقرار منذ ثورة 17 فبراير، ومع تونس التي تشهد تواجدًا لحركة أنصار الشريعة المتورطة في اغتيال المعارضين التونسيين وارتكاب عمليات إرهابية. وكل ذلك يدعم عودة المؤسسة إلى الوضع الصامت.

إجمالًا، ساهم حزم "قايد صالح" خلال المرحلة الانتقالية، وتمسكه باحترام الدستور وإجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها؛ عاملًا رئيسيًّا في استقرار الجزائر، ووصولها إلى مرحلة الاستقرار المؤسسي بعد تنصيب "تبون" في 19 ديسمبر 2019، وبالتالي نجا بالبلاد من سيناريو الشغور الدستوري الذي يربطه الجزائريون بالحرب الأهلية التي مروا بها أوائل التسعينيات.