استراتيجية التسلل:

دوافع حزب الله لتوسيع أنشطته في ألمانيا

19 December 2019


أُثير جدل في ألمانيا مؤخرًا عقب تقرير مجلة "دير شبيجل" الذي زعمت فيه أن وزارة الخارجية ووزارتي الداخلية والعدل اتفقوا على حظر النشاط السياسي لحزب الله في ألمانيا، أُسوة بما فعلته كل من الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة وهولندا وجامعة الدول العربية وإسرائيل وكوسوفو، وهو ما يدفع للبحث عما يفعله "حزب الله" في ألمانيا، ودوافعه لمد نفوذه وتوسيع شبكاته خارج لبنان.

استراتيجية التوسع الخارجي:

ينتشر "حزب الله" في أوروبا بشكل ملحوظ، خصوصًا في ألمانيا التي وصل عدد أنصار ونشطاء الحزب بها إلى ما يزيد عن 1050 عميلًا في 2018 مقارنة بـ950 في عام 2017، وفقًا لتقرير الاستخبارات الألمانية لعام 2019، منتشرين في جميع أنحاء ألمانيا، وخاصة ولاية شمال الراين -ويستفاليا التي تعتبر من أكبر الولايات الألمانية من حيث عدد السكان، فيما ينشط حوالي 250 من أعضاء الحزب في العاصمة برلين.

ويتجنب "حزب الله" في ألمانيا لفت الأنظار إليه أو إلى نشاطاته، خاصة أن الجناح العسكري للحزب محظور في ألمانيا ومُصنَّف كمنظمة إرهابية فيما سمح القانون الألماني للجناح السياسي بممارسة أنشطته بحرية في ظل رقابة المخابرات الداخلية الألمانية المعروفة بهيئة حماية الدستور، لذا يطيعون القانون الألماني ولا يسعون لإثارة المشكلات تجنبًا لأية ملاحقات قانونية قد تطالهم بما يؤثر على نشاط السياسي للحزب.

لكن برغم ذلك يحافظ الحزب على التواجد في بعض الفعاليات السياسية الهامة؛ ومن أبرزها مسيرة "يوم القدس" وهي مسيرة دعت إليها إيران قبل أكثر من 50 سنة، ويتم تنظيمها كل عام في برلين للمطالبة بتحرير القدس من المحتل "الصهيوني" على حد تعبيرهم، ويشارك في هذه الفعالية الآلاف، سواء من أنصار "حزب الله" أو من آخرين داعمين للقضية الفلسطينية. وقد أصبحت هذه المسيرة في الوقت الحالي مرفوضة من بعض الأحزاب الألمانية التي اعتبرتها مناسبة للتعبير عن معاداة السامية، وهو ما انعكس في خروج مظاهرات مضادة لها في نفس التوقيت ترتدي القلنسوة الخاصة باليهود المعروفة بالـ"كيباه".

وبالإضافة إلى مسيرة يوم القدس، حقق "حزب الله" وجودًا علنيًّا في ظروف أخرى أيضًا. فوفقًا لتقرير الاستخبارات الألمانية، يشارك مئات الناشطين من الحزب في الاحتفال السنوي بانسحاب قوات الدفاع الإسرائيلية من جنوب لبنان في عام 2000. كذلك ظهر نشاط الحزب في الاحتجاجات التي عمَّت ألمانيا في 2012 عقب إطلاق فيلم بعنوان "براءة الإسلام" الذي احتج عليه "حسن نصر الله" علانية.

آليات التمدد:

برغم محدودية النشاط العلني الظاهر لحزب الله اللبناني في ألمانيا، إلا أنه يسعى لتحقيق أهدافه ومد شبكات نفوذه خارج لبنان عبر بعض الأدوات والآليات التي تمثل مسارات لتحرك الحزب في أوروبا، وبالتحديد في ألمانيا، ويمكن إبراز هذه الآليات على النحو التالي: 

1- التسلل الدقيق: وذلك باستخدام وثائق وأوراق مزيفة، أو تحت غطاء الزواج من شاميات، كما يقومون بممارسة أنشطتهم باستخدام هُويات متعددة. وقد انعكس نجاح هذه الآلية في تزايد عدد المنتمين للحزب في ألمانيا، فضلًا عن تزايد أعداد المشاركين في الفعاليات الداخلية المختلفة مثل يوم القدس. ولم يقتصر الأمر على ألمانيا فحسب، بل حصل الحزب على دعم سياسي في عدة مدن أوروبية، هي: مدريد، وبروكسل، وكوبنهاجن، واستكهولم، ووارسو، وصوفيا، وبراتيسلافا، ونيقوسيا. 

2- جمع الأموال: حيث تجمع خلايا الحزب الأموال إما عن طريق التبرعات المقدمة للجمعيات الخيرية المرتبطة بالمساجد الشيعية المحلية، أو من خلال النشاط الإجرامي، كتهريب المخدرات، والاحتيال، وتجارة السيارات المسروقة، وغسيل الأموال. 

وقد قامت هيئة حماية الدستور في ألمانيا بفحص شبكة التبرعات في أوروبا، ووجدت أن "حزب الله" يمول عملياته من خلال المساجد والجمعيات الخيرية التابعة للحزب، ويجمع الأموال في إطار الاحتفالات الدينية والتبرعات ومساهمات العضوية داخل ألمانيا، وهو نفس ما أكده تقرير المخابرات الألمانية الصادر في 2019، حيث يُشتبه في أن يكون هناك ما لا يقل عن 30 مسجدًا وجمعية في ألمانيا ضمن هذه الشبكة، بما في ذلك مركز الإمام مهدي في مقاطعة هيلتروب في شمال الراين، ومسجد الإمام رضا وجمعية الإرشاد في برلين، ومسجد الإمام علي في هامبورغ، وهو أحد أقدم المساجد الشيعية في أوروبا، وكذلك مركز المصطفى المجتمعي في شمال ألمانيا، وغيرها.

أما بالنسبة لمصادر التمويل الأخرى؛ فتشير بعض التقديرات إلى أن الحزب كان يحصل على ما يتراوح بين 100 و200 مليون في السنة من الحكومة الإيرانية وكذلك السورية، لكن في محاولة الحزب ليكون أكثر استقلالية، ونتيجة للحرب الأهلية السورية والعقوبات الاقتصادية التي تعاني منها إيران، زاد "حزب الله" أنشطته الإجرامية للحصول على التمويل، وشملت تلك الجرائم تهريب المخدرات من بيروت إلى أوروبا، وتم اعتقال عدد من أعضاء الحزب في فرانكفورت منذ عام 2008 لمحاولتهم تهريب الكوكايين إلى أوروبا، فضلًا عن غسل الأموال؛ حيث يجد "حزب الله" في ألمانيا "مكانًا آمنًا" لغسيل أموال المخدرات، وفقًا لتقرير المخابرات الألمانية في 2019، مستغلًا ثغرات في قوانين مكافحة تمويل الإرهاب في البلاد، حيث يسمح القانون الألماني بالدفع نقدًا عند شراء العقارات أو أشياء أخرى فخمة، دون حدٍّ أدنى لاستخدام النقد، وهذا الأمر يجعل المال "القذر" قادرًا على إيجاد موطئ قدم في ألمانيا.

أما بالنسبة للتزوير فيظهر في نشاط الحزب في قطاع الأدوية والمستحضرات الصيدلانية المزيفة التي يتم تحضيرها في لبنان وتهريبها إلى بلدان أخرى عن طريق البر والبحر والجو، وتدر أرباحًا طائلة على الحزب، حيث يؤكد مدير المعهد الدولي لمكافحة الإرهاب "بواز غانور" أن "أرباح المنظمة الشيعية من تجارة الأدوية المزيفة تتراوح بين 10 ملايين إلى مئات الملايين من الدولارات في السنة".

3- تجنيد السكان المحليين: وذلك عبر توظيف شبكات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والقنوات المختلفة والجامعات للوصول إلى قطاعات عريضة من السكان وخاصة الطلاب واجتذابهم لأيديولوجيا الحزب. وتعد قناة "المنار"، وهي محطة تلفزيونية تصل إلى ما بين 10 إلى 15 مليون مشاهد يوميًّا من لبنان، من أهم أدوات الحزب لتجنيد المزيد من الأعضاء والتواصل مع خلاياه النائمة حول العالم. وعلى الرغم من حظر الحكومة الألمانية لتلفزيون المنار في 11 نوفمبر 2008 بموجب المادة 9 من الدستور الألماني، إلا أن هذا الحظر لا ينطبق إلا على "إعلانات المنار، وجمع التبرعات لاستديوهاته في بيروت، واستقبال المحطة في الفنادق"، لكنه لا يؤثر على استقبال المنار في المنازل الألمانية الخاصة، ومن ثم فهو ما زال متاحًا داخل ألمانيا. 

وكل ما سبق يهدف بالأساس لتوسيع نشاط الحزب خارجيًّا، واجتذاب أعضاء جدد، وإيجاد موطئ قدم له في القارة الأوروبية لما تمثله له من بيئة سياسية غير معادية لنشاطاته السياسية التي تختبئ وراءها أهداف الحزب ومساعيه للحصول على مزيد من الأموال والأرباح الطائلة عبر تهريب المخدرات أو غسيل الأموال أو المنتجات المزيفة وغيرها.

من ناحية أخرى، يمكن القول إنه برغم عدم توصل الحكومة الألمانية لدلائل واضحة تربط نشاط "حزب الله" في ألمانيا بالتخطيط لهجمات في أوروبا تشمل أهدافًا إسرائيلية أو يهودية؛ إلا أن الألمان يخشون من أن يقوم أعضاء الحزب باتخاذ إجراءات عفوية من شأنها تصعيد عنيف ضد إسرائيل والدول المعادية، ومنها بعض الدول الأوروبية، في أعقاب أزمة أو قرار معين مثل قرار نقل السفارة الإسرائيلية إلى القدس.

تحركات حكومية:

اتخذت الحكومة الألمانية عدة قرارات لتقويض بعض الأنشطة المشبوهة للجناح السياسي لـ"حزب الله" في ألمانيا، من أبرزها حجب قناة المنار كما أوضحنا، بالإضافة إلى حظر إحدى الجمعيات الخيرية للأطفال لكونها واجهة للحصول على تبرعات مشبوهة، فضلًا عن حظر رفع شعارات الحزب وأعلامه في المظاهرات العامة. كما حاولت الحكومة الألمانية استصدار قرار بحظر الحزب في البرلمان الأوروبي، لكن الرفض الفرنسي حال دون ذلك.

وفي أواخر نوفمبر الماضي، ثار الحديث مجددًا حول ضرورة حظر الجناح السياسي للحزب داخل ألمانيا، في ظل مزاعم، غير مؤكدة حتى الآن، بأن وزارات الداخلية والخارجية والعدل اتفقوا على حظر الحزب. ويُعتقد أن قرار الحظر المحتمل نابع من عدة أسباب، لعل أبرزها: سعي الحكومة الألمانية لاتخاذ بعض الإجراءات العملية لخفض مستوى معاداة السامية في ألمانيا، خاصة في ظل اتهامات الأحزاب المعارضة بأن السماح بمظاهرات "حزب الله" يمثل استعادة لروح معاداة السامية التي سادت ألمانيا تحت الحكم النازي.

يضاف إلى هذا الاستجابة للضغوط الأمريكية المتزايدة على برلين لاتخاذ مواقف أكثر صرامة من إيران وحلفائها في المنطقة، خاصة في ضوء الانتقادات الدائمة للحكومة الألمانية بسبب موقفها اللين من إيران ومواضيع أخرى، مثل مساهماتها في الناتو التي لا تتجاوز عتبة 2% من ناتجها الإجمالي، ومواجهة النفوذ الفرنسي في أوروبا، خاصة في ظل الخلافات الفرنسية الألمانية المتزايدة، ردًّا على إفشال باريس قرار الاتحاد الأوروبي بحظر الحزب كاملًا.

وتجدر الإشارة إلى أن البرلمان الألماني قد رفض قرارًا لتصنيف الحزب إرهابيًّا قبل 5 أشهر، وتحجج حينها حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي بأن قرار ألمانيا يجب أن يتماشى مع قرار الاتحاد الأوروبي، لكن في الوقت ذاته ثارت مزاعم بأن سبب الرفض هو أن حزب "البديل لألمانيا" اليميني المتطرف هو من طرحه؛ إذ عادةً ما ترفض الأحزاب الألمانية الارتباط بحزب «البديل لألمانيا» الذي يُحمّله كثير من السياسيين مسئولية تصاعد معاداة السامية وتزايد خطاب الكراهية في البلاد.

ومن شأن القرار الألماني إذا اتُّخذ أن تكون له تداعيات كثيرة، سواء على المستوى الداخلي في ألمانيا أو على مستوى علاقات ألمانيا مع لبنان وإيران. فداخليًّا ستفقد أنشطة "حزب الله" شرعيتها، ولن يحق له تنظيم مظاهرات أو رفع الأعلام والشعارات، كما يمكن إصدار مذكرات توقيف وملاحقة في حق من يُشتبه بانتمائهم أو تمويلهم لحزب الله. ومن ثم قد يلجأ الحزب إلى تأسيس منظمة خليفة، لكن سيتعيّن عليها أن تحمل اسمًا مختلفًا لكنها تقوم بنفس المهام، لكنه سيفقد علامته التجارية الهامة، وهي أحد المكونات التي تمثل قوة دعائية كبرى للحزب.

أما بالنسبة للعلاقات مع لبنان، فمن المرجح أن يضع قرار الحظر الألماني ضغوطًا على العلاقة مع لبنان، خاصةً أن الحزب يمثّل جزءًا من البرلمان منذ عام 1992، ناهيك عن أنّه فاز بـ13 مقعدًا في انتخابات عام 2018 وكان ممثلًا بـ3 وزارات في الحكومة الأخيرة. وعليه، فإن الحظر سيمثّل إهانة للحكومات المتعاقبة التي سيكون ممثلًا فيها، وسيفقد ألمانيا دور الوساطة النزيهة التي اعتادتها مثلما توسطت في اتفاق تبادل الأسرى بين إسرائيل و"حزب الله" في 2008.

ونظرًا للعلاقات الوثيقة التي تجمع بين "حزب الله" ونظام الملالي وإيران، فمن المحتمل أن يكون لقرار حظر الحزب تأثير سلبي على العلاقات مع إيران، إلا أن ذلك مرهون بمدى الأهمية التي توليها إيران للحظر، خاصة في ظل العلاقات الودية التي تربط إيران بألمانيا والاتحاد الأوروبي ككل في أعقاب انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي والعقوبات الاقتصادية الأمريكية المفروضة عليها في الفترة الأخيرة.