مأزق مزدوج:

أسباب تفجر الاحتجاجات الشعبية في أمريكا اللاتينية

21 November 2019


تشهد منطقة أمريكا اللاتينية، منذ عدة أسابيع، حالة من عدم الاستقرار السياسي الناتج عن اندلاع موجة من الاحتجاجات، طالت العديد من دول المنطقة. وعلى الرغم من أن الموجة الحالية من الاحتجاجات في أمريكا اللاتينية ليست الأولى من نوعها، فالمنطقة معروفة بتكرار حدوث الموجات الاحتجاجية، وتنظيم المظاهرات الشعبية التي تنادي بتحقيق مطالب متنوعة؛ غير أن ذلك يُثير بعض التساؤلات حول دلالات الموجة الراهنة من الاحتجاجات، وأبرز التداعيات الفعلية والمحتملة لها.

دلالات الاحتجاجات:

للاحتجاجات والمظاهرات الشعبية التي تشهدها العديد من دول أمريكا اللاتينية، دلالات عدة، ويتضح ذلك فيما يلي:

1- أزمة اقتصاد السوق الحر: من أولى الدلالات المتعلقة بمظاهرات أمريكا اللاتينية أن نموذج اقتصاد السوق الحر والسياسات الاقتصادية التقشفية المرتبطة به، يواجهان أزمة عميقة في غالبية دول المنطقة. وتتعلق هذه الأزمة، على وجه التحديد، بالرفض الشعبي لحزمة السياسات الاقتصادية الليبرالية التي سعت بعض الحكومات اللاتينية إلى تطبيقها. 

وتباينت مظاهر هذا الرفض، فبينما تم التعبير عنه عبر صناديق الاقتراع في الأرجنتين، حيث أسفرت نتائج الانتخابات الرئاسية التي جرت في السابع والعشرين من شهر أكتوبر الماضي عن هزيمة الرئيس اليميني "موريسيو ماكري"، وهو ما كان بمثابة نوع من التصويت العقابي من قبل الناخبين على السياسات الاقتصادية التقشفية التي طبقها "ماكري" منذ توليه السلطة عام 2015. كما جاءت نتائج الانتخابات اعتراضًا على طلب "ماكري" الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي، وهو الأكبر في تاريخ الصندوق (57 مليار دولار)، وذلك مقابل تطبيق حزمة من السياسات المالية والنقدية التقشفية. 

وعلى العكس من الأرجنتين، فقد اتخذ المواطنون في الإكوادور وتشيلي الاحتجاجات الشعبية وسيلة للاعتراض على قرارات الحكومة اليسارية في الإكوادور واليمينية في تشيلي المتعلقة بإلغاء الدعم الحكومي ورفع الأسعار. فقد شهدت الإكوادور احتجاجات واسعة النطاق ضد قرار الرئيس "لينين مورينيو" بإلغاء الدعم الحكومي على الوقود، وذلك بموجب اتفاق بين الحكومة وصندوق النقد الدولي حصلت بموجبه الإكوادور على قرض تقدر قيمته بنحو 4.2 مليارات دولار.

وبالمثل، جاءت الاحتجاجات التي تشهدها تشيلي في البداية، رفضًا لقرار أصدرته لجنة مستقلة، بزيادة أسعار تذاكر المترو بقيمة 4 سنتات، وذلك لمواجهة ارتفاع أسعار النفط وانخفاض قيمة العملة الوطنية.

2- تراجع الديمقراطية: ارتبطت المظاهرات التي تشهدها بعض دول القارة اللاتينية بتصاعد الغضب الشعبي من الممارسات الحكومية التي تنتهك القواعد الديمقراطية السليمة. وفي هذا الإطار، جاءت المظاهرات التي اجتاحت بوليفيا رفضًا لنتائج الانتخابات الرئاسية التي جرت في 20 أكتوبر الماضي، وأسفرت عن فوز الرئيس الاشتراكي "إيفو موراليس"، الذي يحكم البلاد منذ عام 2006، بولاية رئاسية رابعة، خاصةً مع ما كشفت عنه تقارير المراقبين المحليين والدوليين بوجود مخالفات جسيمة بها، وحدوث تلاعب في نتائجها لصالح "موراليس".

وفي الوقت نفسه، تفاقمت المظاهرات التي تشهدها هندوراس وهايتي منذ عدة شهور بفعل مزاعم بتلقي رئيس هندوراس "خوان أورلاندو هرنانديز" أكثر من مليون دولار لتمويل حملة إعادة انتخابه عام 2013 من قبل عصابات الاتجار بالمخدرات في مقابل حمايتهم من المحاكمة. وفي هايتي، كشفت التحقيقات عن تورط بعض المسئولين الحكوميين في فضائح فساد بمليارات الدولارات من عائدات البرنامج الفنزويلي المعروف باسم "بتروكاريبي".

3- الدول مرتفعة الدخل: بالرغم من تركز المظاهرات في بعض الدول التي تعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية، مثل الإكوادور وهايتي وسلفادور؛ فإن المظاهرات قد طالت تشيلي أيضًا، وهو ما يعني أنه حتى الدول الغنية والمستقرة في أمريكا اللاتينية لم تعد بمأمن عن الاضطرابات.

فتشيلي هي الدولة ذات معدلات التنمية البشرية العالية، ولديها واحد من أعلى متوسط لنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في المنطقة، إضافةً إلى أنها من أكثر دول المنطقة تقدمًا من الناحية الاقتصادية، مما مكّنها من الانضمام لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عام 2010. 

في المقابل، تأتي تشيلي في مقدمة بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من حيث التفاوت في توزيع الدخل، إضافة إلى انخفاض أجور العمال (550 دولارًا شهريًّا أو أقل)، في مقابل ارتفاع تكاليف المعيشة، مما يعني إمكانية النظر إلى الاحتجاجات التي تشهدها تشيلي في سياق السخط الشعبي المتزايد من اتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء، وسيادة الاعتقاد بأن الحكومة التشيلية لا تعمل لصالح غالبية المواطنين.

4- دور القوي الأجنبية: من أبرز الدلالات المرتبطة بمظاهرات أمريكا اللاتينية أنه ربما يكون هناك دور للقوى الأجنبية في إثارة الغضب الشعبي وتفاقم الاضطرابات الاجتماعية، لكن تلك القوى لا يمكن أن تكون المحرك الوحيد للاحتجاجات الشعبية، خاصة أن جميع دول القارة -بلا استثناء- تواجه أزمات داخلية عميقة، بعضها له جذور تاريخية، وبعضها الآخر حديث بسبب انخفاض أسعار السلع الأولية.

وفي هذا الإطار، تُحمِّل الحكوماتُ اليسارية في المنطقة، الولايات المتحدة والمعارضة اليمينية الموالية لها، المسئولية عن استقالة الرئيس البوليفي "إيفو موراليس" في الحادي عشر من شهر نوفمبر الجاري، بعد مطالبة قائد الجيش له بالاستقالة، كما تصف الإطاحة بـ"موراليس" بأنها بمثابة "انقلاب".

في المقابل، اتهم الرئيس الإكوادوري "لينين مورينيو" فنزويلا بالمسئولية عن أعمال العنف والنهب التي شهدتها البلاد. كما ألقى الرئيس التشيلي "سيباستيان بينيرا" اللومَ على أطراف خارجية بسبب الأحداث الدموية التي تشهدها البلاد. وفي السياق ذاته، وجّهت الإدارة الأمريكية اتهامًا لروسيا بإشعال المظاهرات التي تشهدها تشيلي.

تداعيات التظاهرات:

للمظاهرات التي تشهدها بعض دول القارة اللاتينية تداعيات فعلية ومحتملة على الصعيدين الداخلي والخارجي، وذلك على النحو التالي:

1- مزيد من تراجع الثقة في الديمقراطية: جاءت غالبية المظاهرات التي شهدتها دول القارة اللاتينية تعبيرًا عن تراجع الثقة في المؤسسات الديمقراطية، كما كشفت عن تراجع حاد في الرضا عن الديمقراطية باعتبارها أفضل نظام للحكم في البلاد. وقد كشفت نتائج مسح Latinobarometro لعام 2018، وهو مسح إقليمي، عن تراجع الثقة في السياسيين. 

كما انخفض التفضيل العام للديمقراطية كنظام سياسي من 79 بالمائة في عام 2013 إلى 65 بالمائة في عام 2018 في المنطقة ككل. وفي الوقت نفسه، زاد الاعتقاد بأن النظام السياسي يعمل لصالح عدد قليل من المجموعات القوية من 61 بالمائة في عام 2009 إلى 79 بالمائة عام 2018. ومع استمرار المشكلات المتعلقة بالفساد والمحسوبية والحكم لصالح الأقلية، سوف يزداد تراجع دعم شعوب المنطقة للديمقراطية باعتبارها أفضل نظام للحكم، وسوف تتفاقم أزمة الثقة في مؤسسات الدولة.

2- تفاقم الأزمات الاقتصادية: في ظل الاحتجاجات المستمرة في بعض دول أمريكا اللاتينية، من المرجّح أن يستمر التباطؤ في حركة التجارة والاستثمار، وربما تواجه القارة اللاتينية "العقد الضائع" الثاني، فمعروف أن عقد الثمانينيات كان يُعرف بـ"العقد الضائع" في أمريكا اللاتينية، وذلك بعد أزمة الديون التي تسببت في تراجع معدل النمو الاقتصادي، وتفاقم مشكلات البطالة والفقر في العديد من دول القارة.

وبالنسبة للعديد من دول القارة، يمكن أن يكرر العقد الحالي نفس التجربة، خاصة مع تراجع حركة التجارة العالمية وانخفاض أسعار المواد الخام، بالإضافة إلى استمرار الاحتجاجات وأعمال العنف في بعض الدول. وهناك توقعات قوية باستمرار التراجع في معدل النمو الاقتصادي، فوفقًا للجنة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية والكاريبي، من المتوقع أن ينمو الاقتصاد بنسبة 0.1 بالمائة بنهاية 2019، بعدما كانت التوقعات تُرجح أن يبلغ معدل النمو في المنطقة 1.3 بالمائة.

3- اتساع الاستقطاب الداخلي والإقليمي: كان من بين النتائج المترتبة على المظاهرات التي تشهدها بعض دول القارة اللاتينية، حدوث مزيد من الاستقطاب المجتمعي. ومن ذلك الوضع الراهن في بوليفيا، الذي يكشف عن حالة من الانقسام الشديد بين أنصار "إيفو موراليس" ومعارضيه، وكذلك الانقسام الواضح بين الرئيسة المؤقتة "جانين آنيز" التي تولت السلطة خلفًا لـ"موراليس" والحزب الاشتراكي الموالي له والذي يسيطر على أغلبية ثلثي أعضاء الكونجرس في بوليفيا. 

وكان من العوامل التي ساهمت في تفاقم الانقسامات الداخلية، وقوع العديد من الضحايا من المدنيين في إطار المواجهة بين قوات الأمن وأنصار "موراليس"، حيث قُتل 6 من أنصاره في يوم واحد، ليزيد عدد القتلى في بوليفيا منذ اندلاع المظاهرات عن 23 شخصًا. والأمر نفسه في تشيلي التي تشهد استقطابًا حادًّا بين الحكومة والمواطنين، وأسفرت المواجهات بين المتظاهرين وقوات الشرطة والجيش عن سقوط أكثر من 24 قتيلًا.

وعلى المستوى الإقليمي، تكشف الاتهامات المتبادلة بين رؤساء الدول التي يحكمها اليمين وتلك التي يحكمها اليسار بالتورط في الاضطرابات الاجتماعية التي تشهدها كل منها، عن حالة من الاستقطاب الإقليمي الحاد، التي ارتبطت بالاتهامات بالتحالف مع قوى خارجية لزعزعة الاستقرار في كلٍّ منها.

وفي ظل استمرار المظاهرات الشعبية وما يرتبط بها من تغير في التوجهات السياسية للمواطنين بين تأييد تيار اليمين أو اليسار، فمن المرجح أن تستمر الاتهامات المتبادلة بين كبار المسئولين في الحكومات اليمينية واليسارية، وما يعنيه ذلك من استمرار حالة الاستقطاب الإقليمي، وتراجع فرص استعادة التكامل بين دول القارة مرة أخرى.

4- تغيّر السياسة الخارجية: ترتبط التغيرات السياسية الناتجة عن الانتخابات أو الاحتجاجات التي تشهدها دول المنطقة ارتباطًا وثيقًا بتغير توجهات السياسة الخارجية، فالدول التي يحكمها اليسار تتحالف بشكل وثيق مع الحكومات اليسارية الأخرى في المنطقة، كما تربطها علاقات قوية بكل من روسيا والصين وإيران وتركيا. والحكومات اليمينية على العكس من ذلك، تتقارب مع الحكومات المماثلة في المنطقة، وكذلك مع الولايات المتحدة.

وتدعم التغيرات الأخيرة التي شهدتها بعض دول المنطقة هذا الرأي، فمع تولي تيار اليسار الحكم في المكسيك والأرجنتين، أصبح البلدان أكثر قربًا من الحكومات اليسارية في المنطقة. وعلى النقيض، بدأت الرئيسة البوليفية المؤقتة، ذات التوجهات اليمينية، في إعادة صياغة السياسة الخارجية لبلادها، نحو مزيد من التقارب مع الولايات المتحدة، والتباعد عن الحكومات اليسارية في المنطقة وخاصة فنزويلا وكوبا. ومن المرجح أن يُفضي التغير السياسي المرتقب في القارة اللاتينية، سواء على وقع الانتخابات الديمقراطية أو الاحتجاجات الشعبية، إلى مزيد من التغير في توجهات السياسة الخارجية لدول القارة.

ختاماً يمكن القول إن الاحتجاجات الشعبية نجحت بالفعل في دفع بعض الحكومات إلى الاستجابة لمطالب المحتجين، سواء في الإكوادور أو بوليفيا، غير أن هناك حكومات أخرى لا تزال عاجزة عن تلبية مطالب المواطنين، كما هو الحال في تشيلي وهندوراس وهايتي. وفي الوقت نفسه، هناك دول أخرى قد تكون مرشحة لأن تشهد احتجاجات مماثلة ومنها البرازيل. مما يُرجح أن تتفاقم أوضاع عدم الاستقرار السياسي المرتبطة بحالة الغموض وعدم اليقين في مختلف دول المنطقة خلال الفترة القادمة.