احتجاجات العراق تكشف أزمة النظام

07 October 2019


الموجة الثالثة من الاحتجاجات في العراق، بعد 2015 و2018، ماضية في هزّ الأركان الثلاثة للنظام، رغم أن مطالبها الأساسية ليست سياسية، لكن بات هناك اقتناع عام باستحالة تحقيقها من دون تغيير عميق في ما يسمّى «العملية السياسية». ما يدلّ إلى ذلك أن النقاش المواكب للتظاهرات تناول ضرورة مراجعة الركائز التي يستند إليها عمل الدولة، وأهمها الدستور وقانون الانتخاب واستقلالية القضاء وتفعيل قرارات الهيئات المختصة بمكافحة الفساد، فضلاً عن حسم الجدل حول ازدواجية المؤسسة العسكرية والأمنية مع ميليشيات «الحشد الشعبي». هي أزمة نظام إذاً، وما كانت لتتفجّر على هذا النحو في الشارع، لو أن الحكومة والقوى السياسية والعراب الإيراني للميليشيات التفتت إلى أن واقع المنافع والمغانم الذي صنعته أدى إلى التهام الميزانيات وأهمل فئات الشعب عموماً، وبكل انتماءاتها الطائفية والعرقية، وأخضع معيشتها لمصالح أقلية مستفيدة. وإذا كان شباب المكوّنين السُنّي والكردي لم يشاركوا في التظاهرات، فلأنهم حدسوا مسبقاً بأن السلطات والأحزاب ستستخدم مشاركتهم طائفياً، لتقضي على حراك يهم الجميع معيشياً واجتماعياً.

صيف 2015 عمّت الاحتجاجات كل أنحاء العراق، باستثناء كردستان والمناطق السُنّية التي كانت تحت سيطرة تنظيم «داعش» أخرج الحرّ الشديد الناس إلى الشوارع، لتصرخ ضد الحكومة وتقصيرها في تأمين خدمات أساسية كالكهرباء والماء والصحة، ولتصرخ أيضاً ضد فساد الطبقة السياسية، كذلك ضد إيران وتدخّلاتها. هاجم المحتجّون «ثلاثي المنظومة» التي يحمّلونها مسؤولية تردّي أوضاعهم الحياتية. عمدت الأحزاب يومها إلى ركوب النقمة الشعبية، وتدخّل المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني، متبنياً مطالب المواطنين، حاملاً على الفساد والفاسدين، وحاثّاً الحكومة على التحرّك لتصحيح الأوضاع قبل أن يستشري اليأس في النفوس. اتخذ رئيس الوزراء حيدر العبادي آنذاك إجراءات لاستجابة المطالب، لكن دخول الأحزاب على الخط أحبط قراراته، وأدّى إلى تراجع تلقائي للتظاهرات التي لم تكن لها قيادات معروفة، وبدأت باندفاع شبابي لا علاقة له بالانتماءات السياسية.

هذا هو التوصيف الذي أعطي أيضاً للمتظاهرين في البصرة عام 2018 إذ كانت مطالبهم خدماتية، ولمتظاهري الأسبوع الماضي في بغداد ومحافظات أخرى، فالاحتجاجات لم تخرج بدوافع حزبية. لكن الفارق تمثّل هذه المرّة باستخدام متعمّد للقوة المفرطة من جانب السلطة، وبارتفاع منسوب الغضب لدى المحتجّين. وانفردت وسائل إعلامية تابعة لإيران بتبرير شدّة القمع، قائلة إن السلطة خشيت من وجود «مؤامرة على النظام» أو «انقلاب عسكري» بتدبير أميركي- إسرائيلي، بل كان هذا الإعلام أول مَن تحدّث عن طرف ثالث يطلق النار لإيقاع عشرات قتلى ومصابين ولمفاقمة الأزمة. وفي الوقت نفسه كان هذا الإعلام أول من «يبشّر» بأن السلطة تمكّنت من «إفشال الانقلاب».

معروف أن هذا الحراك الشعبي الشبابي متشابهٌ في موجاته الثلاث، وأنه انطلق من البيئة الشيعية التي تحتضن الأحزاب الكبيرة وميليشياتها المهيمنة على الحكومة والبرلمان. واللافت أنه في كل المرّات هاجمت التظاهرات مقار تلك الأحزاب، ولا سيما «حزب الدعوة»، وحفل دائماً بالشعارات التي تنال من ثلاثي منظومة الفساد إياها، وهو ما يمكن إيضاحه بأن الرأي العام العراقي بات واعياً بثلاثة أمور، أولها أن الأحزاب تتوزّع المناصب والوزارات وتتصرّف بالميزانيات في تعزيز نفوذها. ثانياً أنها تتحكّم بعمل الحكومة ومخططاتها، وتتحمل مسؤولية مباشرة عن عدم قيام «دولة للجميع». وثالثاً: أن النفوذ الإيراني الذي يدير الأحزاب الرئيسية وميليشياتها يلعب دوراً أساسياً في حماية مصالحها وتسلّطها على الدولة.

*نقلا عن صحيفة الاتحاد