Green Wave:

كيف تؤثر أحزاب الخضر على صناعة القرار في أوروبا؟

25 July 2019


أُجريت انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو 2019، وهي الانتخابات البرلمانية التاسعة منذ أول انتخابات مباشرة في عام 1979. وشهدت هذه الانتخابات تشكُّل خارطة سياسية جديدة في البرلمان الأوروبي ستُنهي الثنائية الحزبية التاريخية المهيمنة على البرلمان في مقابل صعود الأحزاب الشعبوية واليمين المتطرف والخضر، وذلك برغم احتفاظ القوى المؤيدة للاتحاد الأوروبي بغالبية كبيرة. 

وهذا الوجه الجديد للبرلمان الأوروبي سيجعل التوصل لتوافق بين مختلف الكتل أمرًا أكثر تعقيدًا، كما أن صعود بعض الأحزاب الأخرى قد يؤثر على أجندة البرلمان الأوروبي في السنوات المقبلة وأدواته لمواجهة التحديات المختلفة التي تعاني منها القارة الأوروبية.

آليات عمل البرلمان الأوروبي:

يعد البرلمان الأوروبي هيئة صنع وصياغة القوانين في الاتحاد الأوروبي، فضلًا عن كونه مسئولا عن انتخاب رئيس المفوضية الأوروبية. ويشترك البرلمان مع مجلس الاتحاد الأوروبي في ممارسة السلطة المالية والموازنة، ويمكنه إدخال تغييرات على الإنفاق العام للاتحاد والموافقة النهائية على الميزانية، كما يقوم البرلمان بالإشراف على أعمال مجلس الاتحاد الأوروبي، ويصدّق على ترشيح المفوّضين، ويمتلك حقّ سحب الثقة من مجلس الاتحاد، ويمارس إشرافًا سياسيًّا على كل مؤسسات الاتحاد.

ويتكون البرلمان الأوروبي من 751 عضوًا، يطلق عليهم أعضاء البرلمان الأوروبي، يُنتخبون مباشرة من قبل ناخبي الاتحاد الأوروبي كل خمس سنوات. ويُمثّل هؤلاء الأعضاء مصالح المواطنين من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي البالغ عددها 28 دولة، قبل خروج بريطانيا من الاتحاد، وفي حالة خروجها سيتم إلغاء مقاعدها أو توزيعها على دول أخرى.

ويتألف البرلمان، الذي لديه مقران في بروكسل وستراسبورغ، من عدة مجموعات رئيسية تجلس معًا بناء على انتماءاتها السياسية والأيديولوجية؛ فهناك مجموعات لتمثيل يمين الوسط، والاشتراكيين، والخضر، وغيرها من القوى الفاعلة في دول الاتحاد، كما يوجد بعض الأعضاء المستقلين، وتتمتع أكبر مجموعة سياسية بعد الانتخابات بحق اختيار الشخص الذي يتبوأ منصب رئاسة المفوضية الأوروبية.

ويتم تمثيل الدول داخل البرلمان الأوروبي وفقًا لعدد سكان كل دولة؛ لذا نجد أن ألمانيا تحظى بالنصيب الأكبر من المقاعد في البرلمان الأوروبي بعدد 96 مقعدًا نظرًا لكون عدد سكانها يصل إلى 82.8 مليون نسمة، تليها فرنسا بـ74 مقعدًا، ثم كل من إيطاليا والمملكة المتحدة بـ73 مقعدًا، كما يوجد في الاتحاد دول صغيرة مثل مالطا ولوكسمبورغ وإستونيا وقبرص، وحصتهم في البرلمان هي 6 أعضاء فقط لكل دولة على حدة.

كذلك تختلف أنظمة التصويت في الانتخابات البرلمانية الأوروبية من دولة إلى أخرى في الاتحاد؛ فهناك دول تعتمد على نظام القوائم المغلقة، وأخرى تعتمد على القوائم المفتوحة، ويتم انتخاب أعضاء البرلمان الأوروبي وفق نظام الدوائر، في بلدان مثل إيطاليا، بينما في بلدان أخرى -مثل ألمانيا- يعدّ البلد بأكمله عبارة عن دائرة انتخابية واحدة.

صعود أحزاب الخضر:

حققت أحزاب الخضر مفاجأة في انتخابات البرلمان الأوروبي إلى درجة أن وصفها البعض بحصان الانتخابات الأسود؛ حيث حققت مكاسب في جميع أنحاء أوروبا، من ألمانيا إلى البرتغال وعبر بلدان الشمال الأوروبي، وهو ما يرجع طبقًا لبعض قادة الحزب إلى تزايد الناخبين الشباب، والغضب من السياسات الحالية، وزيادة الوعي بالتغير المناخي.

وقد حصلت أحزاب الخضر على 75 مقعدًا بنسبة حوالي 10% من إجمالي مقاعد البرلمان الأوروبي مقابل 51 مقعدًا في انتخابات 2014، حيث حقق الخضر نجاحات في جميع العواصم الأوروبية؛ وقد كانت أعلى نتائج حققها الخضر في ألمانيا وأيرلندا والمملكة المتحدة وفرنسا. ففي ألمانيا حصل حزب الخضر على أكثر من 20% من أصوات الناخبين الألمان، أي حوالي 22 مقعدًا، محققًا هزيمة كبيرة للحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي تحول الكثير من الناخبين -خاصة الشباب- من اليسار الديمقراطي إلى حزب الخضر.

كما شهد حزب الخضر طفرة في أيرلندا، خاصة لعدم وجوده في البرلمان الأوروبي منذ أكثر من عقدين من الزمان؛ حيث حصل على مقعدين من 11 مقعدًا لأيرلندا في البرلمان الأوروبي، وهو مكسب كبير نظرًا لأن الحزب لم يكن له أي مقاعد في السابق. وكذلك في بريطانيا، فبرغم سيطرة موضوع خروج بريطانيا من الاتحاد على جدول الأعمال، فقد حصل الخضر على 11 مقعدًا. وفي فرنسا حصد 12 مقعدًا برلمانيًّا. كما حصل على مقعدين أو ثلاثة في غالبية العواصم الأوروبية الأخرى.

وقد دفع هذا الأمر العديد من المحللين إلى وصف ذلك النجاح غير المسبوق بأنه "موجه خضراء" تجتاح أوروبا، وأنه ستكون له تأثيرات كبيرة على القرارات والسياسات الأوروبية المتعلقة بالبيئة وحقوق الإنسان وغيرها، وأن الخضر قد أصبحوا قوة لا يُستهان بها في البرلمان الأوروبي. في حين أشار آخرون إلى أن الخضر لم ينجحوا بشكل لافت سوى في أوروبا الغربية، لكنهم لم يحققوا نتائج لافتة في وسط وشرق أوروبا على عكس الأحزاب اليمينية، ومن ثم لا يمكن اعتبار ذلك النجاح بأنه ظاهرة تكتسح أوروبا.

بيد أن نجاح الخضر ما زال في طوره الأول منذ عقود؛ وربما تكون انتخابات البرلمان الأوروبي هي بداية الظاهرة الخضراء في أوروبا، وأن الانتخابات القادمة -سواء على المستويات الوطنية أو المستوى الأوروبي- ستشهد نجاحات أكبر للخضر، سواء من حيث عدد المقاعد أو فاعلية التأثير على القرار الأوروبي.

أسباب التقدم:

توجد العديد من الأسباب التي ربما تفسِّر النجاح غير المسبوق الذي حققه الخضر في انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة، والذي من المرجح أن يستمر بوتيرة أعلى، سواء على المستوى الوطني أو المستوى الأوروبي، خاصة إذا ما استطاع الخضر إعادة ترتيب أجندة البرلمان الأوروبي. ولعلَّ أبرز أسباب نجاح الخضر ما يلي:

1- زيادة نسبة المشاركة في انتخابات البرلمان الأوروبي لهذا العام والتي وصلت إلى نسبة 51% من الناخبين المؤهلين للتصويت، وهي أعلى نسبة منذ أكثر من عشرين عامًا، وكان أكثرهم من فئة الشباب التي لم تكن تهتم في السابق بالمشاركة في التصويت في الانتخابات. وتعبِّر هذه النسبة عن عودة اهتمام الناخبين بالبرلمان الأوروبي، الذي يُنظر إليه منذ فترة طويلة على أنه من الدرجة الثانية، وتم اعتباره في جميع أنحاء القارة بأنه أقل أهمية من السياسة الوطنية. 

ويأتي هذا الاهتمام في ضوء التحديات المتعددة التي تواجه القارة الأوروبية في المرحلة الحالية، وقد أضفى طابعًا خاصًّا على تلك الانتخابات، ودفع الناخبين إلى التركيز على التصويت لصالح أحزاب أخرى غير المعتادين عليها، ومن الواضح أن أحزاب الخضر كانت من بين تلك القائمة.

2- إخفاق الأحزاب التقليدية، يمين الوسط ويسار الوسط، لأول مرة منذ 40 عامًا، في الحفاظ على هيمنتها على البرلمان، وذلك لصالح أحزاب أصغر وأكثر شغفًا كالخضر بجانب مجموعة متنوعة من الأحزاب الشعبوية. إذ حصل حزب الشعب الأوروبي، الذي يمثل المحافظين، على 182 مقعدًا في البرلمان الأوروبي الجديد ليحافظ على موقعه كأكبر كتلة فيه، لكنه خسر 42 مقعدًا، فيما حل تحالف الاشتراكيين والديمقراطيين في المرتبة الثانية بـ153 مقعدًا، لكنه خسر بدوره 43 مقعدًا.

وتعبر هذه الخسارة عن رفض الناخبين للوضع الحالي؛ وهو ما دفعهم للبحث عن إجابات في أماكن أخرى؛ فبعضهم مال إلى اليمين القومي الذي يَعِدُ بوضع حدٍّ للهجرة ومنح المزيد من السلطات والصلاحيات للبرلمانات الوطنية وليس لبروكسل. أما البعض الآخر ففضلوا البديل المؤيد للاتحاد الأوروبي، لكنه ليس من الأحزاب التقليدية، مثل أحزاب الخضر والجماعات الليبرالية، والتي حققت نتائج جيدة في هذه الانتخابات.

3- حملات أحزاب الخضر المستمرة لرفع وعي المواطن الأوروبي بالتحديات الكبرى التي تواجه القارة الأوروبية والتي ظهرت بشكل ملحوظ في الفترة الأخيرة؛ سواء قضايا تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان في أعقاب احتجاجات السترات الصفراء في فرنسا، أو قضايا العدالة الاجتماعية وحكم القانون، أو قضايا البيئة والتغير المناخي والاحتباس الحراري، والتي يضعها حزب الخضر في قائمة أولوياته، ويسعى لتركيز اهتمام أوروبا عليها في الفترة القادمة.

4- مواجهة صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تسعى لتغيير ملامح القارة الأوروبية؛ إذ إن خوف الناخبين الأوروبيين، وخصوصًا الشباب، من هيمنة الأحزاب القومية المناهضة لأوروبا على البرلمان الأوروبي، دفعهم إلى ضرورة المشاركة والتصويت لأحزاب أخرى غير الأحزاب المتطرفة، وفي ظل غضبهم على الأحزاب التقليدية المحافظة لعدم تقديمها حلولًا جذرية للمشكلات التي تواجه أوروبا، فكان البديل الأفضل هو حزب الخضر، لما يقدمه من رؤى بنَّاءة وقابلة للتطبيق، فضلًا عن اهتمامه بالقضايا البيئية التي تؤثر بالسلب على أوروبا والعالم.

تغيرات السياسات الأوروبية:

يمثل الخضر نسبة 10% من البرلمان الجديد المجزأ، ومع تراجع هيمنة الأحزاب التقليدية على البرلمان، ستحتاج الكتل الكبرى إلى دعم من الكتل الأصغر -مثل الخضر- لتمرير التشريعات، وتعيين المفوضين الأقوياء والمناصب العليا الأخرى، خاصة أن هناك أربعة وظائف كبيرة شاغرة: رئاسة المفوضية الأوروبية، والمجلس الأوروبي، والبنك المركزي الأوروبي، بالإضافة إلى الممثل الأعلى للسياسة الخارجية.

ومن ثمّ سيكون تصويت الخضر حاسمًا في اختيار تلك المناصب ابتداء؛ وليس من المرجح أن يرشح الخضر شخصًا لتولي أي منصب دون أن يدعم أجندتهم الحزبية، وهو ما يزيد من نفوذهم وتأثيرهم في البرلمان الأوروبي، بما قد يدفع المفوضية الأوروبية إلى انتهاج سياسات أكثر صرامة تتعلق بتنظيم الصناعات الملوثة للبيئة، أو محاسبة الشركات متعددة الجنسيات ضريبيًّا، أو مطالبة الشركاء التجاريين بالمساعدة في احتواء تغير المناخ، وقد يمكنها كذلك من الضغط على الدول الأعضاء، خاصة في الشرق الأوروبي، في سبيل عدم الإضرار بالحقوق المدنية.

وينبع تأثير أحزاب الخضر في البرلمان من اتحادهم وانضباطهم والتزامهم بمنهجية الحزب المشتركة، وذلك على عكس الأحزاب الشعبوية المناهضة لأوروبا والتي حصدت حوالي 117 مقعدًا في البرلمان الأوروبي (وكان من المتوقع أن يحصلوا على مقاعد أكثر) لكن نفوذهم أقل تأثيرًا من أحزاب الخضر، نظرًا لكونهم منقسمين حول العديد من القضايا، من العلاقة مع "بوتين" إلى حقوق المثليين وحتى قضايا الهجرة واللاجئين.

ولا يقتصر الانقسام بين الشعبويين فقط على بعض القضايا وإنما في التحالفات أيضًا؛ إذ رفض كل من حزب الاستقلال البريطاني "بريكست" والحزب الشعبي الدنماركي المناهض لأوروبا تشكيل تحالف كبير مناهض للفكر الأوروبي، بسبب رفضهم تشكيل كتلة مع الجبهة الوطنية الفرنسية المناهضة للأجانب، مما سيدفع الحزب الهولندي "بي في في" برئاسة "خيرت فيلدرز" للبحث عن كتلة برلمانية مع الأحزب اليمينية النمساوية والسويدية لغرض مادي فقط؛ إذ يخصص البرلمان الأوروبي ميزانية لكل كتلة برلمانية.

لذلك نجد أن نفوذ الخضر سيكون أقوى في البرلمان الأوروبي، خاصة فيما يتعلق بمشاريع القوانين الخاصة بالتغيرات البيئية والعدالة الاجتماعية وتعزيز الديمقراطية، سواء من خلال الضغط على الأحزاب الكبرى من أجل إعطائها تأييدها في مقابل دعم أجندة الخضر الأساسية، أو من خلال توظيف الرأي العام المؤيد لها للضغط على بقية الأحزاب في البرلمان الأوروبي.

ختامًا، برغم محدودية المقاعد التي حصل عليها الخضر مقارنة ببقية الأحزاب، فإن حدود تأثيرهم تتجاوز المقاعد البرلمانية، وقد تكون هذه الانتخابات مجرد بداية لتعزيز نفوذ البديل الأخضر في أوروبا، سواء على مستوى الانتخابات الوطنية أو الأوروبية، وقد يصبح الخضر أكثر فصيل سياسي قادر على مواجهة صعود أحزاب اليمين القومي المتطرف.