إنقاذ الحليف:

دوافع تصاعد الانخراط التركي في ليبيا

27 July 2019


تصاعد الانخراط التركي في الصراع الليبي، وذلك عبر تكثيف عمليات تهريب الأسلحة والمقاتلين من تركيا إلى ليبيا، سواء كان ذلك جوًّا أو بحرًا، خاصةً في ظل الهزائم المتتالية لميليشيات حكومة الوفاق في مواجهة الجيش الوطني الليبي. وارتباطًا بذلك، فقد أعلن اللواء "أحمد المسماري" -المتحدث باسم الجيش الليبي- في 10 يوليو الجاري، عن قيام سلاح الجو الليبي بتنفيذ ضربات جوية على مخازن للأسلحة والذخائر في مدينة غريان غرب البلاد. وفي هذا الإطار، يستعرض التحليل مؤشرات هذا الانخراط، ودوافعه، وانعكاساته.

تهريب الأسلحة التركية:

كشفت تقارير نشرتها العديد من الصحف في مطلع يوليو الجاري، عن رصد مسار عددٍ من الطائرات التابعة لشركة أوكرانية، وهي مُحمّلة بأسلحة ومتطرفين قادمين من سوريا، مُتجهة من كييف ثم إلى مطار إيسنبوجا التركي في أنقرة، وصولًا إلى مدينتي طرابلس ومصراتة في ليبيا، حيث إن تلك الطائرات لا يتم تحديد وجهتها النهائية كما تستدعي الترتيبات المعمول بها عالميًّا، وذلك بهدف إخفاء طبيعة الرحلات أو حمولتها خاصةً مع تعمُّد إغلاق أجهزة التتبُّع الخاصة بالطائرات أثناء الدخول إلى الأجواء الليبية، حيث لا يتم تشغيلها مرةً أخرى إلا بعد دخول الأجواء التركية.

ولا تُعد هذه الممارسات التركية بالأمر الجديد، إذ لم تتوانَ أنقرة على مدار السنوات الماضية عن محاولات تهريب الأسلحة إلى ليبيا بما يُعدّ خرقًا لقرار مجلس الأمن رقم 1970 الصادر في مارس 2011، وهو القرار الذي تمَّ تجديده بإجماع أعضاء مجلس الأمن في 10 يونيو الماضي، حيث تمَّ ضبط حمولة تركية بها حوالي 32 مليون طلقة ذخيرة للبنادق الهجومية والرشاشات، كانت في طريقها إلى الميليشيات المُسلَّحة في طرابلس في نوفمبر 2014، وكذلك في ديسمبر 2014 تمَّ اعتراض أربع حاويات من الأسلحة قادمة من تركيا، وفي يناير عام 2018 أعلنت اليونان عن ضبط سفينة تركية كانت متجهة إلى ليبيا، وعلى متنها حوالي 500 طن من المتفجرات، وفي ديسمبر 2018 تمَّ ضبط حاوية تحوي أسلحة وذخيرة قادمة من تركيا، ومن ضمن الأسلحة المضبوطة 4.3 ملايين رصاصة وحوالي 400 بندقية و3000 مسدس.

وفي منتصف مايو الماضي، وصلت سفينة "أمازون" التركية إلى ميناء طرابلس قادمة من أحد الموانئ التركية، وعلى متنها صواريخ "ستنيجر" المضادة للطائرات، وخمس حاملات صواريخ، بالإضافة إلى حوالي أربعين مدرعة وصاروخًا. وقد أعلن المتحدث باسم الجيش الليبي اللواء "أحمد المسماري" في ذلك الوقت عن قيام تركيا بتهريب طائرات بدون طيار إلى جانب أسلحة أخرى بهدف دعم ميليشيات حكومة الوفاق.

ويمكن القول إن النصف الأول من عام 2019 شهد نقلة في نوعية التسليح الذي تقوم به تركيا للميليشيات المُسلَّحة المسيطرة على العاصمة طرابلس، بما يعكس تصاعد اتجاهات التهريب إلى ليببا، وهو ما تجلّى بشكل بارز في معركة غريان جنوبي طرابلس، إذ تمكنت الميليشيات من استعادة قاعدة غريان الاستراتيجية من قبضة الجيش الوطني الليبي في أواخر يونيو 2019. وفي هذا الإطار، صرح اللواء "أحمد المسماري" -المتحدث باسم الجيش الليبي- عن مشاركة أكثر من 8 طائرات تركية بدون طيار في الهجوم على قوات الجيش في تلك المعركة.

لماذا ليبيا؟

تتعدد الأسباب التي دفعت تركيا إلى تكثيف دعمها العسكري واللوجستي لحكومة الوفاق خلال الفترة الأخيرة، لا سيما فيما يتعلق بتهريب الأسلحة. وفي هذا الإطار، يمكن تناول أبرز الدوافع التركية فيما يلي:

1- إنقاذ الحليف: يحاول "أردوغان" إنقاذ حليفه رئيس حكومة الوفاق "فايز السراج"، وقد أشارت عدة تقارير صادرة عن موقع "أفريكان إنتلجنس" (African Intelligence) نقلًا عن مصادر استخباراتية إلى أن زيارة "السراج" الأخيرة إلى إسطنبول في 5 يوليو 2019، كانت في الأساس بهدف طلب مزيد من الدعم العسكري التركي، حيث طلبت حكومة "السراج" تسليم دفعة جديدة من الطائرات بدون طيّار، وذلك عبر استمرار مسارات التهريب التي تستخدمها تركيا وصولًا إلى طرابلس، وكذلك إلى مصراتة، وذلك بالرغم من استمرار الحظر الدولي على توريد الأسلحة إلى ليبيا.

2- تصدير الأزمات: تحاول تركيا إعادة إنتاج النموذج السوري في ليبيا، حيث يلاحظ أن سياستها الخارجية قد تغيرت من تصفير المشكلات إلى تصدير الأزمات، وذلك عبر محاولة نقل مزيدٍ من مقاتلي الجماعات الإرهابية، وبالتحديد جبهة النصرة، إلى طرابلس، من أجل نقل الأزمات من الجوار التركي المتمثل في سوريا إلى جوار خصوم إقليميين آخرين، ويعكس تصاعد تهريب الأسلحة والمقاتلين تلك الرغبة التركية الحثيثة خاصةً مع تزايد مستوى ونوعية التسليح، وهو ما دفع الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين"، في 4 يوليو 2019، إلى انتقاد تدفُّق المقاتلين من محافظة إدلب السورية إلى ليبيا، وهو انتقاد ضمني له دلالات هامة تتمثل بالأساس في تحذير تركيا من الاستمرار في تهريب المقاتلين إلى ليبيا، ورفض المقاربة السياسية التركية القائمة على حلحلة الوضع السوري عبر تأزيم الوضع الليبي أو "سورنة" ليبيا.

3- دعم الاقتصاد التركي: تهدف تركيا إلى استثمار التدهور في الوضع الليبي من أجل انتشالها من أزماتها الاقتصادية المتفاقمة عبر تعزيز العوائد المالية لتدفُّق الأسلحة المُهرّبة إلى ليبيا، حيث إن الحكومة التركية تسعى إلى زيادة صادراتها من الصناعات الدفاعية خلال عام 2019 إلى نحو 3 مليارات دولار، بعد أن بلغت في عام 2018 حوالي 2.2 مليار دولار فقط. وفي هذا الإطار، فإن ليبيا الغنية بالموارد الطبيعية، تعتبر فرصة سانحة من أجل زيادة مبيعات الأسلحة جنبًا إلى جنب مع وجود مخططات تركية من أجل الاستفادة من اكتشافات الطاقة في البحر الأبيض المتوسط، خاصةً في ظل الإخفاقات الكبيرة للاقتصاد التركي الذي حقَّق معدل نمو منخفض للغاية خلال عام 2018 بلغ 2.6% فقط وفق بيانات معهد الإحصاء التركي في مقابل 7.4% في عام 2017. كما يشير تقرير صادر عن وكالة "بلومبرج" في 8 يوليو الجاري، إلى أن تركيا تستهدف من دعمها حكومة "السراج" استئناف مشاريع البناء التي تبلغ قيمتها حوالي 18 مليار دولار.

4- مساومة الخصوم: يحاول الرئيس "أردوغان" تعويض هزائمه الداخلية، المتمثلة في خسارة انتخابات مدينة إسطنبول مؤخرًا وتراجع شعبية حزبه، وكذلك هزائمه الخارجية، في ظل زيادة الضغوط والخسائر في معركة إدلب السورية، خاصةً مع ارتفاع أعداد الضحايا من الجنود الأتراك بها، وقد عكس تكثيف التوجهات التركية نحو تهريب مزيد من الأسلحة والمقاتلين إلى ليبيا خلال الفترة الأخيرة إدراكًا تركيًّا لتحوُّل الوضع الليبي من مرحلة "التوازن" إلى مرحلة "القائد المُسيطر"، وذلك في ظل النجاحات المتتالية التي حققها المشير "خليفة حفتر" خاصةً مع إطلاقه معركة طوفان الكرامة في أبريل الماضي من أجل القضاء على الميليشيات المُسلَّحة الموجودة في طرابلس، حيث إن إسقاط طرابلس يعني سقوط ورقة المساومة التركية في الملف الليبي.

انعكاسات سلبية:

تصاعد اتجاهات التهريب -سواء للأسلحة أو المقاتلين باتجاه ليبيا- من شأنه أن يؤدي إلى انعكاسات خطيرة، خاصةً في ظل استمرار حالة عدم الاستقرار الأمني والسياسي، وذلك على النحو التالي:

1- تأجيل الحسم: تدفق الأسلحة والمقاتلين من أجل دعم حكومة الوفاق يُعزّز استمرار قيام الميليشيات المُسلَّحة المنتشرة بطرابلس في تأجيج الصراع الليبي في ظل توفير غطاء سياسي لهم من جانب "السراج" وحكومة الوفاق، وهو ما يعرقل جهود الجيش الوطني الليبي في التخلُّص من هذه الميليشيات، وما يستتبعه ذلك من تأجيل حسم معركة طوفان الكرامة التي انطلقت منذ حوالي ثلاثة أشهر.

 2- تمدد التنظيمات الإرهابية: يشكل تدهور الأوضاع في ليبيا بيئة خصبة لتمدد أنشطة التنظيمات الإرهابية الفارّة من سوريا والعراق، ولا سيما تنظيم "داعش" الذي يبحث عن إعادة التموضع من جديد في ليبيا بعد هزيمته وطرده من سرت في أواخر عام 2016، وهو ما يمكن التدليل عليه بتزايد الهجمات الإرهابية التي ينفذها تنظيم "داعش" خلال الشهرين الأخيرين على قوات الجيش الوطني الليبي، ولعلَّ آخرها هجوم "داعش" على حقل نفطي في جنوب شرقي ليبيا في العاشر من يوليو الجاري، وقبل ذلك ببضعة أيام قام عشرات المقاتلين التابعين لتنظيم "داعش" في ليبيا ببث فيديو مُصوَّر يُجدّدون فيه البيعة لزعيم التنظيم، ويتوعدون فيه الجيش الوطني الليبي بعمليات انتقامية.

وترتكز استراتيجية الميليشيات المُسلَّحة والتنظيمات الإرهابية في الوقت الحالي على تشتيت جهود الجيش الوطني، وإثنائه عن هدفه الرئيسي لتحرير العاصمة طرابلس، وذلك عبر نقل المعركة إلى المناطق الأكثر استقرارًا الواقعة تحت سيطرة الجيش، وهو ما تجلّى بشكل كبير في تصاعد العمليات الإرهابية، سواء في شرق ليبيا أو في جنوبها، ولعلَّ آخرها الهجوم الإرهابي في بنغازي شرقي ليبيا في 11 يوليو الجاري، الذي استهدف قيادات عسكرية تابعة للجيش الوطني الليبي، وقد سبق ذلك، وبالتحديد في 8 يوليو الجاري، تصدّى الجيش الوطني لهجوم من مرتزقة أجانب موالين لحكومة الوفاق على مدينة مرزق في أقصى الجنوب الليبي.

3- تعزيز الاستقطاب: تزايد الانغماس التركي في الصراع الليبي من شأنه أن يُعزِّز من حالة الاستقطاب الداخلي في ظل إمداد أحد طرفي الصراع بمزيدٍ من الأسلحة والمقاتلين، كما أن ذلك من شأنه أن يزيد حالة الاستقطاب الإقليمي والدولي حول ليبيا، خاصةً في ظل تباين المصالح بين أغلب الدول المنخرطة في ذلك الصراع، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى إطالة أمد الصراع بشكل أكبر، واستبعاد الحلول السياسية التي يمكن أن تؤدي إلى إعادة بناء الدولة الليبية، خاصةً في ظل ضعف الدور الأممي وعدم حياديته. ولعلَّ عدم خروج أي إدانة رسميّة من جانب المبعوث الأممي إلى ليبيا "غسان سلامة" بخصوص تهريب تركيا للأسلحة والمقاتلين إلى ليبيا، يُعد مثالًا واضحًا في هذا الشأن.

وختامًا، فإن اتجاهات تهريب الأسلحة والمقاتلين إلى ليبيا مُرشّحة للتصاعد بشكل أكبر خلال المرحلة المقبلة، انطلاقًا من تكثيف عمليات التهريب، ورفع مستوى التسليح عبر تكتيكات متباينة من المراوغة والتخفّي، جنبًا إلى جنب مع تراخي الأطراف الدولية الفاعلة عن القيام بمسئولياتها تجاه منع استمرار تلك التدفقات، وهو ما ينعكس بشكلٍ رئيسيّ على تزايد حدّة العسكرة في الصراع الليبي.