انعكاسات مباشرة:

كيف تؤثر الضغوط الخارجية على التوازنات الداخلية الإيرانية؟

27 May 2019


تشير الانتقادات التي وجهها المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي إلى كل من الرئيس حسن روحاني ووزير الخارجية محمد جواد ظريف، في 22 مايو 2019، والخاصة بطريقة تنفيذ الاتفاق النووي، إلى أن مرحلة جديدة من إعادة صياغة التوازنات السياسية الداخلية سوف تبدأ في الفترة القادمة، استعدادًا للاستحقاقات السياسية التي سوف تشهدها إيران خلال عامى 2020 و2021، والتي يتوقع فيها أن يسعى تيار المحافظين الأصوليين إلى إعادة تكريس نفوذه داخل مراكز صنع القرار، بعد تراجع رهان تيار المعتدلين على العوائد الاقتصادية والسياسية التي كان من الممكن أن يفرضها الاتفاق النووي.

النأى بالنفس:

كان لافتًا أن خامنئي حاول، خلال لقاءه بطلبة الجامعات وممثلي اللجان الطلابية في 22 مايو الجاري، التنصل من المسئولية عن إخفاق الاتفاق النووي، زاعمًا أنه لم يكن راضيًا عن الآليات التي استخدمت في تنفيذه، وأنه لا يتدخل في الشئون التنفيذية. لكن بالعودة إلى دراسة ردود فعل المرشد إزاء التطورات التي شهدها الاتفاق النووي، منذ الإعلان عن الوصول إليه في 14 يوليو 2015 وحتى الآن، يمكن القول إن هذه الادعاءات لا تتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض.

إذ أن المرشد كان طرفًا أساسيًا في الوصول للاتفاق، الذي لم يكن الرئيس روحاني أو وزير الخارجية جواد ظريف يستطيعان تمريره على الساحة الداخلية دون ضوء أخضر من جانبه. فضلاً عن أن روحاني نفسه لم يكن، عمليًا، الشخص المسئول عن الوصول إليه، خاصة أن المفاوضات التي مهدت له أجريت في عهد الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، حيث بدأت بشكل سري بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، ثم تطورت لتجرى بين إيران ومحموعة "5+1" (التي حلت محل مجموعة دول الترويكا الأوروبية التي ضمت فرنسا وألمانيا وبريطانيا)، وهى الدول التي توصلت في النهاية للصفقة النووية التي رفعت بمقتضاها العقوبات الدولية التي كانت مفروضة على إيران.

وبمعنى آخر، فإن النظام الإيراني وليس الحكومة هو الطرف المسئول عن الوصول للاتفاق، بعد أن أدرك من سير المفاوضات، السرية والعلنية، مع الولايات المتحدة الأمريكية ثم القوى الدولية الأخرى، أنه يمكن إبرام صفقة تتضمن مكاسب عديدة لإيران، يتمثل أهمها في الحفاظ على مختلف مكونات برنامجها النووي دون تفكيكه ومواصلة عمليات تخصيب اليورانيوم ورفع العقوبات الدولية، وهو ما يتوازى مع سعى النظام إلى استغلال الاتفاق لانتزاع اعتراف دولي بدوره في منطقة الشرق الأوسط.

لذلك، فإن محاولة المرشد الترويج لعدم تدخله في الشئون التنفيذية لم تكتسب أهمية وزخمًا خاصًا على الساحة الداخلية، خاصة أن سجل مواقفه من التفاعلات التي تجري داخل إيران أو التي تنخرط فيها على الساحة الخارجية، حافل بمثل هذا النمط من التدخل. ففي عهد الرئيس السابق أحمدي نجاد، تدخل خامنئي لإلغاء قرار الأول بإقالة وزير الاستخبارات حيدر مصلحي من منصبه، في 18 إبريل 2011، بشكل دفع الرئيس إلى الاعتكاف في منزله 8 أيام قبل أن يضطر للعودة إلى ممارسة مهام منصبه من جديد. 

وفي عهد الرئيس الحالي حسن روحاني، أصدر المرشد، في 4 يونيو 2018، قرارًا باتخاذ الإجراءات اللازمة بسرعة للوصول إلى 190 ألف سو (وحدة فصل) في تخصيب اليورانيوم. وكان هذا الإجراء أحد المداخل الرئيسية للقرارات التي اتخذتها إيران في 8 مايو الجاري، والخاصة بالتوقف عن بيع الفائض من اليورانيوم المخصب بنسبة 3.67% والماء الثقيل في الأسواق الدولية والتهديد برفع التخصيب إلى مستوى أعلى من ذلك وإعادة تشغيل مفاعل "آراك" الذي يعمل بالماء الثقيل في غضون شهرين ما لم ترفع القوى الدولية مستوى تعاملاتها التجارية والمصرفية مع إيران، فضلاً عن إعلانها، في 22 من الشهر نفسه، عن مضاعفة إنتاج اليورانيوم منخفض التخصيب أربع مرات.

ومن هنا، تشير اتجاهات عديدة إلى أن إيران قد تتخذ بالفعل مزيدًا من الإجراءات على صعيد أنشتطها النووية، في حالة ما إذا لم تستجب القوى الدولية لمطالبها، وهو احتمال مرجح، في ظل رفض الأخيرة لسياسة الابتزاز التي تتبناها إيران، فضلاً عن العقبات العديدة التي يمكن أن تحول دون رفع مستوى التعاملات التجارية والمصرفية، مع استمرار الولايات المتحدة الأمريكية في رفع مستوى إجراءاتها العقابية ضد إيران.

توسيع الصلاحيات:

يبدو أن حرص خامنئي على الإشارة، خلال اللقاء نفسه، إلى أن الهيكل الدستوري الحالي جيد وأن المشكلة لا تكمن فيه وإنما في "الأخطاء" التي يرتكبها المسئولون لم يكن بعيدًا عن الدعوة التي وجهها روحاني، في 20 مايو الجاري، بضرورة منحه مزيدًا من الصلاحيات الاقتصادية، على غرار ما كان قائمًا خلال فترة الحرب الإيرانية-العراقية (1980-1988). 

إذ أن خامنئي اعتبر، على ما يبدو، أن ذلك يمثل محاولة من جانب الرئيس لتعزيز موقعه السياسي داخل النظام وانتزاع صلاحيات جديدة تدخل ضمن سلطات المرشد نفسه، وهو ما يقابل دائمًا برفض من جانب الأخير، الذي واجه المطالب نفسها مع رؤساء الجمهورية السابقين، مثل هاشمي رفسنجاني (1989-1997) وأحمدي نجاد (2005-2013).

ويبدو أن ذلك لا يرتبط فقط بالإشكالية المزمنة التي تتمثل في تداخل الصلاحيات بين المرشد والرئيس، والتي تفرض أزمات سياسية في بعض الأحيان، وإنما يتعلق أيضًا بأن المرشد نفسه سبق أن انخرط في صراع على الصلاحيات، عندما كان رئيسًا للجمهورية (1981-1989)، لم يكن دائمًا هو الطرف المنتصر فيه، حيث كان الخميني يؤيد، في بعض الأحيان، القرارات التي يتخذها رئيس الوزراء الأسبق مير حسين موسوي آنذاك، وسبق أن رفض دعوات من الرئيس لإقالة الأخير. وقد كان لذلك تأثير كبير على العلاقة بين خامنئي وموسوي بشكل انعكس في الأزمة السياسية التي شهدتها إيران عام 2009 بعد اعتراض "الحركة الخضراء" التي قادها موسوي على نتائج الانتخابات الرئاسية، وأسفرت في النهاية عن فرض الإقامة الجبرية على الأخير وزوجته زهرا رهنافارد ورئيس مجلس الشورى الأسبق مهدي كروبي.

ومن هنا، كان لافتًا أيضًا أن المرشد حرص على الإشارة إلى أن إيران لن تجري تغييرًا قريبًا في هيكل النظام، خاصة فيما يتعلق بتحويله من رئاسي إلى برلماني، وهى المبادرة التي طرحها في 9 نوفمبر 2011 وأثارت جدلاً سياسيًا واسعًا على الساحة الداخلية الإيرانية.

ففي رؤية المرشد، فإن الظروف الحالية التي تمر بها إيران لا تتيح هامشًا واسعًا من الحركة يمكن أن يساعد في إجراء تغيير رئيسي على هذا المستوى، فضلاً عن أن هذا التغيير يمكن أن يتسبب في تصعيد حدة الصراعات السياسية الداخلية في وقت يبدو النظام حريصًا على توجيه رسائل إلى الخارج بأن الضغوط القوية التي تفرضها الإجراءات الأمريكية لم تؤثر على تماسك الجبهة الداخلية.

إلى جانب أن أى تغيير في هذه المرحلة سوف يضفي مزيدًا من الوجاهة والزخم على الدعوة التي وجهها روحاني بتوسيع صلاحياته، على نحو لا يتوافق مع سياسات المرشد ومحاولاته تعزيز نفوذ تيار المحافظين الأصوليين داخل مراكز صنع القرار من جديد.

وعلى ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن الضغوط القوية التي تتعرض لها إيران في الوقت الحالي، سواء على صعيد العقوبات الاقتصادية أو على مستوى الحشد العسكري الأمريكي المستمر بالقرب من حدودها، سوف تدفع النظام إلى اتخاذ مزيد من الإجراءات الكفيلة بإجراء تغييرات جديدة في توازنات القوى السياسية استعدادًا للاختبارات الأصعب التي تبدو إيران مقبلة عليها.