إلا الحماقة

21 May 2019


لم أُصَدق نفسي وأنا أشاهد تلك الفقرة الإخبارية الحوارية في الفضائية البريطانية عن الهجوم على منشآت نفطية بالسعودية مع قطب بارز في الحركة الحوثية، فبينما كانت جميع الأطراف وفي مقدمتها دولة الإمارات العربية المتحدة، تتصرف بمسؤولية عالية وتتحدث منذ الأعمال التخريبية التي طالت سفناً وناقلات بترول في مياهها الاقتصادية، عن إجراء تحقيقات ودون توجيه اتهامات قبل توفر أدلة قاطعة.. إذا بذلك القطب الحوثي يتحدث بمنتهى البساطة عن مسؤولية الحوثيين عن الهجوم! ويبدو أن المذيع لم يصدق نفسه أيضاً، وهو يستمع إلى هذا السبق الذي جاءه على طبق من ذهب، فيسأل ضيفه: هل أفهم أنك تقر بمسؤوليتكم عن الهجمات؟ فيجيب بهدوء يُحسد عليه بالإيجاب، ثم يضيف الاستخفاف بالعقول إلى الحماقة عندما يُسأل عن مسؤولية إيران في هكذا عمل، فيجزم بألا علاقة لها به من قريب أو بعيد. ولكى يُثبِت براءتها يؤكد أنها أكثر المتضررين من هذه الهجمات في جو التصعيد المخَيم على المنطقة، متصوراً أن علاقة الحوثيين العضوية بالنظام الإيراني خافية على أحد. ثم يصل الأمر حدَّ الصفاقة عندما يُسأل عن إمكان تكرار الهجمات، فيجيب بأنها مستمرة، متصوراً بأن ما فعله الحوثيون في اليمن في غفلة من الزمن في ظل ظروف غير قابلة للتكرار، يمكن أن يدوم!

تصورت لبرهة أن ما سبق يمكن أن يكون سلسلة من زلات لسان شخص بلا مسؤولية تنفيذية، وإن كان عضواً في هيئة سياسية عليا في الحركة الحوثية، وأن هذه الحركة ستفعل المستحيل لكي تؤكد أن الحماقات السابقة تعبير عن موقف شخصي لا يعكس موقفها الرسمي، غير أن ظني خاب تماماً فسرعان ما حملت نشرات الأخبار بياناً ألقاه المتحدث العسكري باسمها عن الهجمات «الظافرة» لسلاح الجو الحوثي «المسير»، مكرراً مقولات القطب الحوثي.

ويكشف ذلك حقيقة الوضع الخطير الذي يمر به اليمن بسبب الحوثيين، فهم لم يكتفوا باغتصاب السلطة، وإنما يؤكدون تبعيتهم لإيران بمثل هذه التصرفات الحمقاء التي أصبح جلياً أن تداعياتها ليست محصورة في أرض اليمن وشعبه ولا حتى جيرانه المباشرين، وإنما باتت تطول أمن الإقليم وسلامته، بل الأمن العالمي ذاته، بالنظر إلى المكانة التي تحظى بها المنطقة في قضايا محورية كقضية الطاقة. ولا يبدو للأسف أن الأمم المتحدة واعية على نحو كافٍ بهذه المخاطر. ففي الوقت الذي انطلقت فيه الحماقات السابقة، كان المبعوث الأممي لليمن يمضي في تنفيذ اتفاق استوكهولم الجزئي الذي سبق التنويه غير مرة إلى فساد منهجه، أي منهج المعالجة الجزئية لقضايا الصراع. ولا ننسى أن هذا المنهج قد طُبق كي يوقف تقدماً كان ممكناً لقوات الشرعية والتحالف العربي أن تحسم به الصراع، غير أننا نذكر أن الاعتبارات «الإنسانية» قد وُظفت كالعادة لتبرير المطالبة بالتوقف عن مواصلة العملية العسكرية. وتفضح التطورات الأخيرة مدى فساد هذا المنهج، فكيف نتحدث عن انسحاب حوثي من ثلاثة موانئ، على رأسها الحديدة، ومفاوضات لتقاسم عوائد هذه الموانئ بين طرفي الصراع، في الوقت الذي ينفذ فيه الحوثيون الهجمات الأخيرة ويتفاخرون بأطماعهم المريضة؟! وليت الأمر قد توقف عند فساد منهج التسوية الجزئية للصراع من حيث المبدأ، فقد امتد إلى تطبيقه، وليس أدل على هذا من الجدل الذي دار بين الحكومة الشرعية اليمنية ومغتصبي السلطة الحوثيين على خلفية عدم استيفاء مسرحية الانسحاب أحادي الجانب الشروط المنصوص عليها في اتفاق استوكهولم ذاته، والتي تقول بضرورة أن يتم الانسحاب بمراقبة أطراف الصراع كافة وليس من جانب واحد، وقد تجاهل المبعوث الأممي تماماً اعتراضات الحكومة اليمنية وملاحظاتها وأدلى ببيانه الأخير في مجلس الأمن، منتصف الشهر الجاري، وهو سعيد بما تحقق من «تقدم»، بل أبدى «امتنانه» لعبد الملك الحوثي «على التزامه» ولجماعته «على الوفاء بوعودها»!

وأحسب أن كل ذلك يحتم إعادة النظر في دور الأمم المتحدة في تسوية الصراع باليمن.

*نقلا عن صحيفة الاتحاد