التعليم والإعلام ومناجم الكراهية

18 March 2019


لا غرابة أن يصابَ العالم بالذهول والغضب والذعر. المشاهد تفوق القدرة على الاحتمال على رغم التمرس بالقساوات والجرائم في الأعوام الأخيرة. شاهد ملايين الأشخاص شلالات الحقد تتدفق على الشاشات. إرهابي واحد أطلق «تسونامي» من الكراهية. بدت المسألة أخطر من انغماس شاب موتور في جنازة أو عرس والانفجار وسط الحاضرين وتطاير أشلائهم. بدت مذبحة مبرمجة ومروعة. قاتل محترف يتصرف بدم بارد. تساقط جثث الأبرياء يضاعف عطشه إلى المزيد. يعيد تلقيم سلاحه كأنه يتدرب في نادي الرماية. لا تلجمه صرخات المصابين. ولا حرمة المكان. ينتقل عن سابق تصور وتصميم إلى مسجد آخر ليضاعف عدد القتلى. بث حي مقزز. سبقه بيان سياسي طويل يحاول عبثاً تبرير ما لا يمكن تبريره. استباحة كاملة لحياة أبرياء كانوا يصلون. واستباحة لحرمة المسجد الذي يحتضنهم.

ليس من عادة العالم أن يلتفت إلى نيوزيلندا. لا تهز أمنه ولا اقتصاده. ثم إنها ليست ميداناً لـ«صراع الحضارات» ولا مسرحاً لخطوط تماس ملتهبة بين الأديان أو الأعراق. دولة صغيرة ومتواضعة وآمنة. جزر تقيم في جنوب غرب المحيط الهادي حالمة بأيام أفضل لسكانها. ديمقراطيتها قادرة على الرقابة والتصحيح والفساد لا يفسد اقتصادها أو يومياتها. دولة منهمكة بتطوير قدرتها على اجتذاب السياح مع انشغالها التقليدي بأسعار اللحوم وثروتها من الألبان. فجأة احتلت الموقع الأول على الشاشات. شاء سوء حظها أن تدفع إلى الأضواء على يد إرهابي أسترالي أحمق اختارها مسرحاً لثاراته الوافدة من كهوف التاريخ.

في بيانه الذي سعى من خلاله إلى تبرير جريمته اعتبر برينتون تارانت أن تدفق المهاجرين على الدول الغربية يشكل أخطر تهديد لمجتمعاتها ووجودها نفسه، لأنه يرقى إلى «الإبادة الجماعية للبيض». وصف المهاجرين بأنهم «غزاة» يجب إقناعهم بـ«أن أراضينا لن تكون لهم أبداً». وأكد أنه تحرك انتقاماً لـ«ملايين الأوروبيين الذين قتلهم الغزاة الأجانب عبر التاريخ وآلاف الأوروبيين الذين قضوا في هجمات إرهابية على الأراضي الأوروبية». وأكد تارانت أنه لا يشعر بالندم و«يتمنى فقط أن يستطيع قتل أكبر عدد ممكن من الغزاة والخونة أيضاً». وشدد على أنه «ليس هناك من بريء بين المستهدفين، لأن كل من يغزو أرض الغير يتحمل تبعات فعلته». ولفت إلى تراجع معدلات الخصوبة لدى البيض والتغيير الواسع الذي يحدق بهوية البلدان التي تستقبل المهاجرين. ولم يخفِ أنه استوحى فعلته من إرهابي آخر يعرف بسفاح النرويج وهو أندرس بريفيك الذي قتل 77 شخصاً في هجوم 2011 وهو ينتمي إلى اليمين المتطرف ومعروف عنه عداؤه للإسلام.

ليس سراً أن أمواج الهجرات الواسعة التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة والتي ترافقت مع هجمات إرهابية لـ«القاعدة» وبعدها «داعش» أثارت قلقاً واسعاً لدى اليمين المتطرف في عدد من البلدان. وليس غريباً أن يسمع الزائر في عواصم غربية عدة كلاماً من قماشة أن «باريس لم تعد باريس» وأن «هولندا الحالية لا تشبه هولندا السابقة» وأن «ألمانيا لن تكون بعد عشر سنوات هي نفسها ألمانيا التي نعرفها حالياً». وقد ترجمت تلك المخاوف في صعود لليمين المتطرف والنزعات العنصرية في أكثر من مكان وفي تراجع في شعبية الأحزاب «التي فتحت أبواب اللجوء على مصراعيها».

وعلى رغم تأكيد قيادات أوروبية في طليعتها المستشارة الألمانية الغربية أن استقبال المهاجرين واجب إنساني، لكنه في الوقت نفسه حاجة اقتصادية، فإن اليمين المتطرف ذهب بعيداً في إثارة المخاوف على الهوية والتقاليد. ويمكنك سماع فرنسي يقول إن جاره الوافد إلى البلاد من ثقافة أخرى يرفض التكيف مع الثقافة الفرنسية أو «قيم الجمهورية» ويصر ليس فقط على العيش خارج هذه القيم، بل يحاول فرض أسلوبه في العيش على البلاد التي تتحمل عبء استضافته. وأبرزت وسائل إعلامية أكثر من مرة موضوع ارتفاع معدلات الجريمة بعد التدفق الكثيف للاجئين، مشيرة إلى نظرة هؤلاء المختلفة إلى الدولة وحكم القانون والنظرة إلى المرأة.

تتحمل أطراف كثيرة مسؤولية تصاعد المخاوف من الإسلام في بعض المجتمعات الغربية. غداة سقوط الاتحاد السوفياتي بدا الحديث عن «الحاجة إلى عدو جديد» وأن الإسلام «هو الخطر المقبل». وتكاثرت التحليلات التي تتوقع صداماً مروعاً بين الحضارات وحروباً بين الأديان. وجاءت بعض التمزقات لتغذي نظرية حروب الهويات الدامية وبينها صور الجثث الوافدة من الطلاق الصارخ بين مكونات ما كان يعرف بيوغوسلافيا. ثم تدافعت أمواج الهجرة باتجاه الغرب بفعل الفشل الاقتصادي أو القمع أو الغرق في مستنقعات حروب أهلية اتخذت أحياناً أشكالاً من الإبادة الجماعية.

في موازاة ذلك، لعبت القوى العمياء في العالم الإسلامي دوراً كبيراً في تدعيم حجج القوى العمياء في الأماكن الأخرى. ففي مطلع القرن نقلت «القاعدة» الحرب إلى الأراضي الأميركية نفسها عبر هجمات 11 سبتمبر (أيلول) واجتاحت صور الخراب والضحايا شاشات العالم، وأسهم الرد على تلك الهجمات في أفغانستان ثم حرب العراق في توفير مناخات حادة أججت المشاعر وساعدت المتشددين على مزيد من الاستقطاب. وكانت إطلالة «داعش» تطوراً فظاً في هذا السياق حين شاهد العالم سكاكين «الدواعش» تحز أعناق أفراد لا لشيء إلا بسبب انتمائهم المختلف. كما شاهد «داعش» يروع عبر خلاياه النائمة أو ذئابه المنفردة مدناً ودولاً وينادي بالعودة إلى كهوف التاريخ.

غداة «مجزرة المسجدين» توحد العالم في إدانة الإرهابي القاتل وفكره وتبريراته. أدرك العالم خطورة الانحدار إلى ممارسات ترمي إلى إشعال خطوط التماس بين الأعراق والحضارات والأديان. لكن الإدانات والإجراءات العقابية بحق المنفذين لا تكفي. لا بد من معركة يومية واسعة لإنقاذ قيم التعايش والتسامح. لا مخرج للعالم من مستنقعات العنصرية والتعصب إلا بمعركة يومية داخل المدارس والجامعات والمنابر الدينية والاجتماعية والسياسية لمنع المتعصبين من الاستيلاء عليها وإطلاق أمواج التعصب والكراهية. ولا بدَّ لوسائل الإعلام من سلوك طريق المسؤولية ومنع تحول منصاتها منابع للكراهية. إن السباق إلى استقطاب المتابعين باستخدام الصور الفظة والعبارات المثيرة يسقط وسائل الإعلام في يد المتطرفين الحالمين بنسف كل الجسور لبناء عالم الجدران العالية والهويات المسورة بالدم. والواجب يقضي بالوقوف ضد ينابيع الكراهية في المنزل والعمل والكتب و«تويتر» و«فيسبوك» وفي كل مكان. من دون قبول صريح بحق الآخر أن يكون مختلفاً سنشهد تدفق مزيد من أمواج الكراهية.

*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط