خطوات متقاطعة:

هل تتفاوض إيران حول دورها الإقليمي؟

25 February 2019


لا يبدو أن التحذيرات الأخيرة التي وجهها المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي، في 18 فبراير 2019، من عواقب الثقة في الدول الأوروبية، ترتبط فقط بالسياسة التي تتبناها الأخيرة إزاء الاتفاق النووي، الذي يتعرض في المرحلة الحالية لاختبارات صعبة قد تقلص في النهاية من أهمية مواصلة العمل به بالنسبة للأطراف المعنية بذلك. 

إذ توحي تلك التحذيرات، التي أعقبتها تصريحات أخرى لقائد "فيلق القدس" قاسم سليماني دعا فيها إلى "عدم السعى لاتفاق إقليمي يهدف إلى تجفيف روح وحركة إيران الثورية"، بأن هناك نقاشًا عامًا داخل دوائر صنع القرار في إيران حول القضايا "غير النووية" التي يمكن أن تمثل محاور لمفاوضات محتملة مع الأطراف الأخرى، ولا سيما الدول الأوروبية، التي زاد اهتمامها بالعواقب التي تفرضها تدخلات إيران في الأزمات الإقليمية المختلفة.

ومع ذلك، فإن هذا "النقاش العام" قد يكون خطوة متعمدة من جانب النظام الإيراني لتحقيق أهداف مزدوجة في آن واحد، تتصل بمحاولاته تعزيز فرص مواصلة العمل بالاتفاق النووي رغم تراجع عوائده، والتحسب من احتمال تغير نمط التفاعل مع بعض القوى الدولية، مثل روسيا، من التعاون إلى الخلاف أو بمعنى أدق الصراع بسبب اتساع مساحة التباين في التعامل مع استحقاقات التطورات الميدانية في سوريا بعد استعادة النظام السوري سيطرته على القسم الأكبر من الأراضي السورية، إلى جانب الاحتفاظ بخيار الوصول إلى "صفقة" مع الولايات المتحدة الأمريكية رغم عدم الاستناد إليه في المرحلة الحالية. 

إشارات متعددة:

لم تخف حكومة الرئيس حسن روحاني سعيها إلى الانخراط في "نقاشات" مع الدول الأوروبية حول بعض الملفات الإقليمية. إذ صرح الرئيس روحاني أن زيارته إلى كل من النمسا وسويسرا، التي بدأت في 2 يوليو 2018، تتضمن محادثات حول ملفى سوريا واليمن تحديدًا. وسبق ذلك تلميح مساعد وزير الخارجية الإيراني وعضو وفد التفاوض النووي عباس عراقجي، في 28 مايو من العام نفسه، إلى أن إيران أجرت محادثات مع الدول الأوروبية المنخرطة في الاتفاق النووي حول التطورات في اليمن تحديدًا. 

ومع ذلك، لا يمكن القول إن تلك "النقاشات" ارتقت إلى مرحلة "المفاوضات" بين الطرفين. إذ أن إيران تعمدت، على ما يبدو، أن لا تتجاوز هذه الحدود حتى الآن. وبمعنى آخر، فإن القيادة العليا ممثلة في خامنئي سمحت للحكومة بالانخراط في تلك "النقاشات" مع وضع خطوط حمراء لا يمكن أن تتجاوزها إلا في حالة ظهور معطيات أخرى تعزز من أهميتها.

وهنا، يمكن القول إن ثمة أهدافًا رئيسية ثلاثة تسعى إيران إلى تحقيقها عبر تلك الإشارات المتوازية، تتمثل في:

1- استمرار "برجام": بدا لافتًا من البداية أن حكومة روحاني حاولت، بالتوازي مع دعوتها للدول الأوروبية لتفعيل آلية الأغراض الخاصة من أجل مواصلة التعاملات التجارية مع إيران، اتخاذ خطوات أخرى لتعزيز استمرار الاتفاق النووي الذي يطلق عليه في إيران مصطلح "برجام"، مثل السعى إلى تمرير انضمام إيران لبعض الاتفاقات الدولية الخاصة بمكافحة الإرهاب وغسيل الأموال، على غرار اتفاقية "FATF"، والانخراط في "نقاشات" حول التطورات الإقليمية، لا سيما في كل من سوريا واليمن. 

وبعبارة أخرى، فإن الحكومة كانت تحاول دفع الدول الأوروبية إلى اتخاذ خطوات جدية لرفع مستوى التعاملات التجارية عبر التلويح بإمكانية فتح الملفات الأخرى "غير النووية"، أو على الأقل إظهار جديتها في معالجة بعض ما يمكن تسميته بـ"مكامن القلق" الأوروبية إزاء الاتهامات الموجهة لإيران بدعم بعض التنظيمات الإرهابية وعرقلة الجهود التي تبذل للوصول إلى تسوية للأزمتين السورية واليمنية. 

وهنا، فإن هذه "الجدية" التي تبديها حكومة روحاني لا تكمن في قدرتها على اتخاذ قرارات في هذه الملفات، وهو ما تدرك الدول الأوروبية والأطراف الأخرى صعوبته، وإنما في سعيها إلى التأثير في تلك القرارات، عبر التدخل لدى القيادة العليا التي تمتلك الصلاحيات الكاملة في هذا السياق.

وقد لا يكون هذا التدخل الذي يمكن أن تقوم به القيادة العليا مباشرًا، بمعنى أنه قد لا يعني اتخاذ قرار محدد في أحد هذه الملفات، وإنما يعني، على الأقل، منع الأطراف الأخرى المناوئة من عرقلة الجهود التي تبذلها الحكومة في هذا الصدد، وعلى رأسها الحرس الثوري.

2- استعدادات مسبقة: تدرك إيران أن توافقاتها الحالية مع روسيا في سوريا مؤقتة، بانتظار نضوج الخلافات الكامنة بين الطرفين في المرحلة التالية على تراجع الاستناد إلى الآلة العسكرية. فالخلافات بين الطرفين ليست ثانوية وقد تتحول، في مرحلة ما، إلى صراع مباشر، بسبب تحفز كل من الطرفين للحصول على العوائد الخاصة بتدخله في الصراع السوري على المستويات المختلفة السياسية والعسكرية والاقتصادية. 

فضلاً عن أن رؤية طهران وموسكو لمستقبل سوريا، وتحديدًا مستقبل النظام الحاكم، تمثل متغيرًا محوريًا قد يؤدي إلى توسيع مساحة الخلافات بين الطرفين، بعد أن بدأت الأخيرة في توجيه إشارات متعددة بصعوبة استمرار النظام الحالي على وضعه القائم في مرحلة ما بعد انتهاء الصراع العسكري، على نحو لا يبدو أنه يحظى بقبول من جانب الأولى، التي ترى أن استمرار هذا النظام يمثل ضمانة لمصالحها ونفوذها داخل سوريا.

ومن هنا، ربما ترى إيران أن إفساح المجال أمام "نقاشات" مع الدول الأوروبية، قد تتطور إلى "محادثات" أو "مفاوضات" في مرحلة لاحقة، يتوافق مع مصالحها في سوريا، خاصة من ناحية تعزيز دورها كطرف في عملية إعادة صياغة الترتيبات السياسية والأمنية في مرحلة ما بعد انتهاء الصراع العسكري. 

وبعبارة أخرى، فإن إيران لا تريد أن تنفرد روسيا بهذه العملية، باعتبار أن الأخيرة هى الطرف الأساسي الذي أثر على مسار الصراع بتدخله العسكري والسياسي، وذلك عبر إقناع الدول الأوروبية بأهمية إشراكها فيها، وعدم التعويل على تفاهمات ثنائية محتملة مع روسيا في هذا الصدد، وهى تفاهمات قد لا تعرقلها الخلافات الروسية- الأوروبية حول بعض الملفات الأخرى، على غرار الملف الأوكراني.

3- صفقة مؤجلة: قد ترى إيران، في مرحلة ما، أن الضغوط التي تتعرض لها، بسبب العقوبات، أو تزايد احتمالات الاستناد للخيار العسكري في التعامل معها، تفرض عليها الانخراط في محادثات مع الولايات المتحدة الأمريكية. وهنا، فإن الرفض الحالي الذي تبديه كل مؤسسات النظام الإيراني لهذا الخيار، ليس نهائيًا، وقد تجد القيادة في طهران مبررات عديدة لتغييره أو تحويله إلى "قبول مشروط"، من أجل تفادي وصول العقوبات الحالية إلى مستويات لا يمكن استيعابها أو الانخراط في مواجهة عسكرية مع واشنطون، وهى المواجهة التي تحرص إيران على تقليص احتمالات نشوبها بأى شكل رغم مزاعمها المستمرة باستعدادها لها.  

وهنا، فإن "النقاشات" التي تجري مع الدول الأوروبية قد تكون مدخلاً للوصول إلى "تفاهمات" مع واشنطن، خاصة أنها لا تفرض على إيران أية التزامات تتعلق بأدوارها في الملفات التي تجري تلك "النقاشات" حولها، بما يعني أن أهميتها ربما تتزايد في حالة ما إذا قررت طهران الوصول إلى "صفقة" أخرى مع إدارة الرئيس دونالد ترامب في إطار اتفاق جديد تسعى الأخيرة للوصول إليه عبر الضغوط التي تمارسها حاليًا على الأولى.

وعلى ضوء ذلك، ربما يمكن القول في النهاية إن إيران سوف تعمد إلى تبني مواقف مزدوجة إزاء الجهود التي تبذلها بعض القوى الدولية لدفعها إلى الانخراط في محادثات إقليمية جديدة، على أساس أن تلك المحادثات قد تكون هى الخيار الأخير الذي يمكن أن تلجأ إليه طهران بعد أن تستنفد كل خياراتها التصعيدية الحالية.