إعادة تموضع:

رسائل أمريكية بعد الانسحاب من سوريا

11 February 2019


رغم مرور ما يقرب من شهرين على إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانسحاب العسكري من سوريا، إلا أن هذا القرار ما زال يثير جدلاً واسعًا على الساحتين الإقليمية والدولية. فمع أن الوجود العسكري الأمريكي في سوريا ليس كبيرًا مقارنة بالأطراف الأخرى المنخرطة في الصراع السوري، إلا أن أهميته تكمن في دلالاته السياسية التي يتمثل أبرزها في أن الولايات المتحدة الأمريكية طرف رئيسي في الترتيبات السياسية والأمنية التي يجري العمل على صياغتها في سوريا، وأن لديها من المصالح ما يدفعها إلى مواصلة إبداء اهتمام خاص بالملفات المرتبطة بهذا الصراع تحديدًا، وعلى رأسها الحرب ضد الإرهاب ومواجهة نفوذ إيران.

وعلى ضوء ذلك، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية في توجيه رسائل عديدة إلى القوى الإقليمية والدولية المعنية بالتطورات السياسية والميدانية في سوريا مفادها أن اتخاذ خطوات إجرائية لتفعيل إعلان الرئيس دونالد ترامب الانسحاب من سوريا ليس معناه ترك الساحة للأطراف الأخرى المنخرطة في الصراع لملء الفراغ الذي سوف ينتج عن ذلك، باعتبار أن هذا الانسحاب "ما هو إلا مرحلة جديدة في معركة قديمة" حسب تصريحات وزير الخارجية مايك بومبيو، على نحو يوحي بأن واشنطن سوف تسعى إلى تبني آليات جديدة لاحتواء التداعيات المحتملة التي قد ينتجها هذا الانسحاب، وإن كان ذلك لا ينفي أن ثمة عقبات عديدة ربما تواجه محاولات واشنطن تفعيل آليات بديلة للوجود العسكري في سوريا.

خطوات موازية:

اتجهت إدارة الرئيس ترامب إلى اتخاذ خطوات موازية لسحب القوات من سوريا، حيث بدأت في التأكيد على أن دورها مستمر في الحرب ضد تنظيم "داعش" رغم الضربات القوية التي تعرض لها وفقد بسببها القسم الأكبر من المناطق التي كان يسيطر عليها في الأعوام الأربعة الماضية. وفي هذا السياق، تحرص واشنطن على مواصلة إجراء مباحثات مع تركيا حول المنطقة الآمنة في شمال سوريا والموقف من الميليشيات الكردية إلى جانب الحرب ضد الإرهاب، على نحو بدا جليًا في اللقاء الذي عقد بين مساعدى وزير الخارجية للشئون السياسية الأمريكي ديفيد هيل والتركي سيدات اونال بواشنطن في 5 فبراير 2019.

كما استضافت العاصمة الأمريكية اجتماعًا لوزراء خارجية الدول المشاركة في التحالف الدولي ضد "داعش" في 6 من الشهر نفسه، حيث كان لافتًا أن الملف السوري حظى بأهمية خاصة، بدت جلية في سعى واشنطن إلى رفع مستوى التنسيق مع الدول المشاركة للتعاطي مع المسارات المحتملة للأزمة السورية خلال المرحلة القادمة، خاصة في ظل الجهود التي يبذلها المبعوث الأممي غير بيدرسون من أجل تدشين مرحلة جديدة من العملية السياسية.

عقبات محتملة:

ومع ذلك، فإن هذه الخطوات لم تنجح، وفقًا لاتجاهات عديدة، في تقليص حدة القلق الذي انتاب قوى عديدة إزاء التداعيات المحتملة التي قد يفرضها إنهاء الوجود العسكري الأمريكي في سوريا. إذ أن هذا الوجود، في رؤية تلك القوى، لا يمكن تقييمه بحجم القوات الأمريكية المستقرة داخل سوريا، وإنما بالثقل الذي يفرضه ذلك، باعتبار أنه يؤكد أن واشنطن معنية بالمسارات المحتملة التي قد تنتهي إليها الأزمة، والتي يمكن أن تؤثر، بشكل أو بآخر، على مصالح تلك القوى.

ووفقًا لذلك، فإن محاولات واشنطن توجيه رسائل تفيد استمرار اهتمامها وانخراطها بوسائل أخرى في الملف السوري تواجه عقبتين رئيستين: تتمثل الأولى، في المحاولات التي تبذلها أطراف أخرى منخرطة بشكل مباشر في الصراع السوري، لتبني مسارات أخرى بديلة للمسار الأممي الذي يتولاه بيدرسون، على غرار مسار سوتشي الذي سيتم تعزيزه مرة أخرى مع قرب عقد قمة ثلاثية جديدة بين الرؤساء الروسي فيلاديمير بوتين والإيراني حسن روحاني والتركي رجب طيب أردوغان في 14 فبراير الجاري.

إذ كان لافتًا أن الدول الثلاث استبقت انعقاد القمة بتأكيد منح الأولوية لملف العملية السياسية السورية، ولا سيما ما يتعلق باللجنة الخاصة بوضع الدستور، على نحو يوحي بأنها تسعى إلى فرض أمر واقع ربما يقلص من أهمية ما يمكن أن تصل إليه الجهود التي يبذلها بيدرسون من نتائج.

فيما تتعلق الثانية، باستمرار الخلافات مع تركيا حول المنطقة الآمنة والموقف من الميليشيات الكردية، خاصة أن أنقرة ترى أن السياسة الأمريكية إزاء المنطقة الآمنة غير واضحة، على نحو يدفعها إلى الإبقاء على خياراتها مفتوحة في حالة ما إذا لم تتوافق مع واشنطن حول هذا الملف.

ويبدو أن أنقرة تحاول عبر مواصلة تفاهماتها مع طهران وموسكو توجيه رسالة إلى واشنطن بأنها يمكن أن تنخرط بشكل أكبر في المحاولات التي تبذلها تلك الأطراف من أجل البحث عن صيغة لبدء عملية سياسية في سوريا بمعزل عن الدور الذي تسعى الأمم المتحدة إلى تفعيله خلال المرحلة القادمة.

وتطرح اتجاهات عديدة عقبة ثالثة، تنصرف إلى عدم وضوح السياسة الأمريكية إزاء الوجود الإيراني في سوريا الذي يعتبر أحد أهم أسباب تفاقم أزمتها وعرقلة جهود تسويتها. فرغم تأكيد وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو على ضرورة سحب كل القوات الإيرانية والميليشيات الموالية لها من سوريا خلال اجتماع وزراء خارجية دول التحالف الدولي ضد "داعش"، وهو ما توازى مع الهجوم الذي شنه الرئيس ترامب ضد إيران في خطاب "حالة الاتحاد" الذي ألقاه في 6 فبراير الجاري، والتي اعتبرها "ديكتاتورية فاسدة" معلنًا التزامه "منعها من الحصول على السلاح النووي"، إلا أن القوى المعنية بالتداعيات السلبية التي يفرضها الوجود الإيراني في سوريا ما زالت تعتبر أن واشنطن لم تبلور بعد رؤية واضحة إزاء الآليات التي يمكن استخدامها لتفعيل هذه الالتزامات، على نحو يوجه، وفقًا لهذه الاتجاهات، "رسائل خاطئة" لإيران، التي تحاول في الوقت الحالي حشد قواتها في شرق الفرات تمهيدًا لملء الفراغ الذي سوف يفرضه سحب القوات الأمريكية.

ومن هنا، يبدو أن هذه الاعتبارات في مجملها سوف تدفع واشنطن خلال المرحلة القادمة إلى اتخاذ مزيد من الخطوات الإجرائية الكفيلة بتحقيق أهدافها الخاصة بالقضاء على "بقايا" تنظيم "داعش" وتحجيم الأدوار السلبية التي تقوم بها إيران في سوريا، في إطار سياسة "إعادة تموضع" تفرضها مرحلة ما بعد الانسحاب العسكري من الأخيرة.