إنذار باريس:

لماذا انتفض الشارع الفرنسي ضد سياسات "ماكرون"؟

29 November 2018


تشهد فرنسا موجة احتجاجية واسعة النطاق بعد رفع الحكومة الضرائب على المحروقات، وهو ما اعتبره المتظاهرون "خيانة للوعود الانتخابية" التي أطلقها الرئيس الفرنسي "ماكرون" أثناء ترشحه. وتكشف هذه التظاهرات عن مجموعة من الدلالات، يتمثّل أبرزها في إخفاق السياسات التقشفية التقليدية التي يتم تبنيها لتجاوز المشكلات الاقتصادية، وهو ما يُمثل انتصارًا رمزيًّا لليمين المتطرف.

تظاهرات "السترات الصفراء":

اندلعت الاحتجاجات الفرنسية التي أُطلق عليها "السترات الصفراء" في نوفمبر في مختلف أنحاء فرنسا، لا سيما في المدن الكبرى مثل باريس وبوردو وتولوز وليون، احتجاجًا على إعلان الحكومة عن زيادات في أسعار المحروقات، وخصوصًا الديزل، وهو الأكثر استعمالًا في السيارات الفرنسية، وذلك بهدف تشجيع المواطنين على التحول لاستخدام وسائل نقل أقل ضررًا للبيئة، وقدَّمت الحكومة حوافز لشراء سيارات كهربائية أو صديقة للبيئة.

وقد أعلنت وزارة الداخلية الفرنسية أن ما يقدر بحوالي 288 ألف شخص قد شاركوا في الأيام الأولى للتظاهرات، ثم بدأت الأعداد تتراجع تدريجيًّا، وردد بعض المحتجين النشيد الوطني ولوَّحوا بعلم البلاد، بينما رفع آخرون لافتات كُتب عليها "ماكرون.. استقالة" و"ماكرون.. لص". ووقعت اشتباكات عنيفة بين الشرطة والمتظاهرين، خصوصًا في ساحة الشانزليزيه في العاصمة باريس، استخدمت خلالها الشرطة الفرنسية الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه لتفريق المتظاهرين، الأمر الذي خلَّف خسائر مادية كبيرة.

ومع تزايد حدة الاشتباكات، تصاعدت مطالب المحتجين، حيث لم تعد تقتصر على خفض أسعار المشتقات البترولية، بل تجاوزت ذلك إلى رفض السياسات الاقتصادية التي ينتهجها "ماكرون" عمومًا؛ إذ طالب المحتجون بخفض جميع الضرائب، وحل الجمعية الوطنية "مجلس النواب".

كذلك لم يتوقف الاحتجاج عند حدود التظاهر فقط، بل قام المحتجون بإغلاق الطرق السريعة والمطارات ومحطات الوقود بحواجز محترقة وقوافل من الشاحنات بطيئة الحركة، الأمر الذي عرقل الوصول إلى مُستودعات الوقود ومراكز التسوق وبعض المصانع.

وقد حظيت الحركة بدعم أحزاب من اليمين (مثل: الجمهوريين)، واليمين المتطرف (مثل: التجمع الوطني)، إلى جانب حزب "فرنسا الأبية" اليساري بقيادة النائب "جان لوك ميلينشون"، بالإضافة إلى زعيم حركة "الجيل سين" اليسارية "بونوا هامون" الذي أعلن دعمه لمطالب المعتصمين، لكنه رفض الانضمام إليهم في الشوارع، حيث أشار إلى أن حركته اليسارية "لا تشارك بتحركات يستغلها اليمين المتطرف لمصلحته الخاصة".

وتقترح حركة "السترات الصفراء" إدراج جميع المطالب للتصويت عليها في استفتاء شعبي، ويؤكد ممثلو الحركة، الذين شكَّلوا وفدًا يمثلهم، أنهم يريدون أن يتواصلوا جديًّا مع ممثلين في الحكومة التي قالت إنها مستعدة للحوار وفق شروط معينة، منها التراجع عن المطالبة بحل الجمعية الوطنية أو استقالة رئيس الجمهورية.

وعلى الرغم من عدم التواجد الكثيف للأحزاب في هذه التظاهرات، إلا أن الحكومة الفرنسية اتهمت اليمين المتطرف بإشعال هذه المظاهرات. حيث اتهم وزير الداخلية "كريستوف كاستانير" زعيمةَ اليمين المتطرف "مارين لوبان" بتأجيج الاحتجاجات في العاصمة، مؤكدًا أن "اليمين المتطرف كان محتشدًا جدًّا في الشانزليزيه".

وسارعت "لوبان" إلى نفي هذه الاتهامات، مؤكدة أنها لم تدعُ للعنف إطلاقًا، بل حمَّلت وزير الداخلية المسئولية عن وقوع أعمال عنف خلال الاحتجاجات، لأنه سمح للمتظاهرين غير السلميين بالدخول إلى الشانزليزيه، مشيرة إلى أنها "استراتيجية من كاستانير لإشعال التوتر، ومحاولة لتشويه سمعة الحركة الاحتجاجية".

دلالات الاحتجاجات:

يمكن الإشارة إلى أبرز الدلالات التي كشفتها احتجاجات "السترات الصفراء" والتي تتمثل فيما يلي: 

1- إخفاق السياسات التقشفية: منذ تولي "ماكرون" السلطة رسميًّا في مايو 2017، لم تتوقف الاحتجاجات ضد سياساته الإصلاحية بين العديد من القطاعات، وقد اعتبر المحتجون سياساته تصبّ في صالح الطبقات الغنية وتزيد من أعباء الطبقات المتوسطة والفقيرة داخل المجتمع الفرنسي، بيد أن أغلب الاحتجاجات السابقة كانت تتميز بالطابع الفئوي وتواجد العمال وموظفي القطاع العام بها بنسب كبيرة، إذ كان يتم تنظيمها من قِبَل النقابات العمالية. لكن احتجاجات "السترات الصفراء" أوضحت حجم الاستياء الشعبي العام ضد سياسات "ماكرون" الاقتصادية، نظرًا لاشتراك مختلف فئات الشعب الفرنسي فيها دون تمييز فئوي أو حزبي.

كما تتمتع "حركة السترات الصفراء" بدعم شعبي واسع النطاق، وهو ما أظهرته نتيجة استطلاع الرأي الذي أجراه معهد "إيلاب" الفرنسي، والتي أشارت إلى أن حوالي ثلثي المشاركين في الاستطلاع دعموا "السُترات الصفراء"، بينما أبدى 70% منهم رغبتهم في تراجع الحكومة عن قرار رفع أسعار الوقود، فضلًا عن أن 50% من المشاركين في المسح من الذين صوتوا لماكرون يدعمون هذه الاحتجاجات. من ناحية أخرى، لم يتوقف الاحتجاج هذه المرة عند حد رفض القرارات أو السياسات فقط أو حتى طلب التراجع عنها، بل وصل إلى حد المطالبة الصريحة وربما للمرة الأولى باستقالة الرئيس الفرنسي "ماكرون"، وهو ما يوضح مدى الاستياء الشعبي ضد "ماكرون".

2- انتصار اليمين المتطرف: إذ تدل المظاهرات الأخيرة بشكل واضح على فشل القادة المعتدلين في تقديم حلول أو بدائل جديدة لتحسين الأوضاع الاقتصادية غير اللجوء للسياسات التقشفية التي تعاني منها دومًا الطبقات الفقيرة والمتوسطة. فلم تعد تلك الطبقات قادرة على تحمل عبء هذه الإصلاحات، وفي ظل غياب حلول غير تقليدية للأوضاع الاقتصادية الفرنسية، يُمكن القول إن الاحتجاجات الأخيرة تُعد دليلًا رمزيًّا على انتصار اليمين المتطرف في طرح أفكار وحلول مبتكرة على عكس الأحزاب المعتدلة التي يمثلها نموذج "ماكرون".

3- فشل السياسات الاحتوائية: وقد تمثل ذلك في عدة مظاهر، أهمها: زيادة حجم المظاهرات وأعداد المتظاهرين بشكل غير مسبوق، فبحسب بيانات الداخلية الفرنسية، جرت التظاهرات في أكثر من ألفي مدينة وقرية في جميع أنحاء البلاد. وتزايدت حدة الاشتباكات بين الشرطة والمحتجين، فضلًا عن إعلان المتظاهرين في باريس رغبتهم في اقتحام قصر الشانزليزيه لتوصيل رسالة مباشرة للحكومة تعبر عن مدى غضبهم من تلك السياسات. بالإضافة إلى استمرار المظاهرات حتى الآن رغم تراجع التعبئة، ومن المحتمل أن تتزايد الأعداد مرة أخرى في حال فشل الحكومة في الوصول لحل مع حركة "السترات الصفراء".

ومن الجدير بالذكر أن هذه الاحتجاجات تأتي قبيل الاحتفالات برأس السنة في فرنسا بما يستدعي من الحكومة ضرورة إيجاد مخرج لذلك المأزق قبل أن تدفع تطورات الأوضاع إلى تفاقم الأزمة في ظل التخوف من أن تتحول احتفالات الكريسماس إلى احتجاجات أكثر خطورة ضد "ماكرون" والحكومة الفرنسية.

تداعيات محتملة:

يثير الحراك الجديد في فرنسا تخوف الأحزاب التقليدية الفرنسية في ظل استمرار هذه الموجة الاحتجاجية دون توقف، وحتى في حالة نجاح الحكومة الفرنسية في التوصل إلى حل ينهي هذه الاحتجاجات، فإنه ستظل هناك مجموعة من التداعيات على "ماكرون" وحكومته لعل من أبرزها ما يلي: 

1- تراجع شعبية "ماكرون": إذ يرى المتظاهرون أن "ماكرون" أخلَّ بوعوده الانتخابية فيما يتعلق بمراعاة حقوق الطبقات الوسطى والفقيرة، بل وأطلقوا عليه لقب "رئيس الأثرياء" في تعبير واضح عن الشعور بالظلم الاجتماعي من التفاوت بين الطبقات، وهو ما تكشفه نتائج استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة BVA، والتي أكدت أن شعبية "ماكرون" قد تراجعت إلى مستوى منخفض، حيث بلغ حجم المؤيدين للرئيس ما يقدر بحوالي 26%.

ومن ثمّ يمكن القول إن تلك الاحتجاجات على المستوى السياسي قد أثرت على شعبية "ماكرون"، أما على المستوى الاقتصادي فإن معالجة أسباب الأزمة يتجاوز مجرد الزيادة في الرسوم على المحروقات إلى مراجعة الخيارات الاقتصادية الفرنسية برمتها، وضرورة العودة إلى رأسمالية اجتماعية توفق بين قواعد السوق وبين احترام أوضاع الطبقات الاجتماعية المتضررة.

2- أولوية قضايا الداخل: إذ إن تركيز "ماكرون" على أوروبا والقضايا العالمية أكثر من فرنسا ساهم في تأجيج النزعات القومية الداخلية، في ظل شعور المواطنين بأن مطالبهم واحتياجاتهم لا تأتي في أولويات اهتمام الرئيس. وقد انعكس ذلك في تصريحات "لورانس سارييه" (المتحدثة باسم حزب الجمهوريين) التي أكدت خلالها أن "الفرنسيين يقولون: سيدي الرئيس نعجز عن تأمين معيشتنا، ويجيبهم الرئيس سنقوم بإنشاء مجلس أعلى للمناخ. هل ترون كم هو بعيد عن الواقع؟". ومن ثمَّ فإن الاحتجاجات تعد بمثابة جرس إنذار لماكرون بضرورة إيلاء مزيد من الاهتمام للداخل الفرنسي.

3- دعم اليمين المتطرف: تؤكد غالبية التحليلات أن هذه الاحتجاجات تقوّي من موقف اليمين بعد إخفاق السياسات التقليدية في حل الأزمة، وتذهب أكثر التحليلات تشاؤمًا إلى أنه من المحتمل الضغط على "ماكرون" لتقديم استقالته والدعوة لانتخابات رئاسية جديدة، فيما يذهب أكثرها تفاؤلًا إلى تأكيد أن الانتخابات القادمة ستشهد صعودًا واضحًا لليمين المتطرف.

4- صعود التهديدات الإرهابية: إذ يحاول تنظيم "داعش" اختراق هذه التظاهرات، فوفقًا لما ذكرته صحيفة "ذا صن" البريطانية، فإن مجموعتين تابعتين لتنظيم "داعش" نشرتا ملصقات تحرض فيها "الذئاب المنفردة" على استغلال احتجاجات "السترات الصفراء" وتنفيذ هجمات ضد المدنيين، الأمر الذي قد يزيد من توتر الأوضاع الأمنية الداخلية في فرنسا ويُعجِّل بضرورة إنهاء تلك الأزمة من جانب الحكومة الفرنسية في أسرع وقت.

ختامًا، يمكن القول إن المستفيد الأكبر من هذه الاحتجاجات اليمين المتطرف الفرنسي، فيما سيخرج "ماكرون" من هذه الأزمة خاسرًا، ففي حالة استجابته لمطالب المواطنين فإن الإصلاحات التي يتطلبها الاقتصاد الفرنسي ستتوقف، وفي حالة عدم الاستجابة فإن شعبيته ستستمر في التراجع، لكنه قد يتحكم في مدى تراجعها إذا تمكَّن من إيجاد مخرج سياسي للأزمة يراعي حقوق الطبقات الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة.