تسييس متصاعد:

الأبعاد "غير الاقتصادية" لانهيار العملات الوطنية في الإقليم

13 September 2018


لا يطرح الانهيار الذي لحق بالعملات المحلية لعدد من دول الشرق الأوسط، مثل السودان واليمن وتركيا وإيران، مؤشرات خاصة بالأزمات الاقتصادية الداخلية بقدر ما يحمل أبعادًا سياسية تتمثل في اندلاع احتجاجات شعبية في مختلف المحافظات الجنوبية اليمنية، بسبب ممارسات الميلشيات الحوثية المستمرة في المضاربة بالعملة الصعبة واكتنازها للأغراض غير المشروعة، وتصاعد دعوات لـ"ثورة جياع" ضد الميلشيات المسلحة في اليمن، وتوتر العلاقات بين المؤسسات الرسمية في إيران، وخاصة الخلافات الحادة داخل البرلمان حول التدابير الحكومية المتخذة. 

وكذلك برز "تسييس" انهيار العملات في تزايد حدة توتر العلاقات الإيرانية- الأمريكية، على خلفية تجديد العقوبات الأمريكية على طهران، وتفاقم الخلافات التركية- الأمريكية، بسبب التباين في السياسات المتبعة إزاء الأزمة السورية وعدم إفراج أنقرة عن القس الأمريكي أندرو برنسون بدعوى دعمه حركة "خدمة" التابعة لفتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية، وخطط أنقرة لشراء نظام الدفاع الصاروخي الروسي (إس-400)، فضلاً عن دعم قطر لليرة التركية، وبدء التفاهمات الاقتصادية التركية الجديدة مع روسيا والصين وإيران للاستغناء عن الدولار في المعاملات التجارية في إطار التصدي لسياسات واشنطن. 

وثمة حالات دالة على التأثير الذي أحدثه تراجع أو انخفاض أو انهيار العملات المحلية على الأوضاع الداخلية والتفاعلات الشرق أوسطية الدولية، خلال الأسابيع القليلة الماضية، يمكن تناولها على النحو التالي:

مراجعة ضرورية:

1- تحديد أولويات نظام البشير في السودان: والتي تتمثل في مراجعة هياكل السلطة الاتحادية والولايات، وتقليص البعثات الدبلوماسية لخفض الإنفاق الحكومي، ومراجعة الاقتصاد الكلي جذريًا، بما يؤدي إلى إقرار سياسات تفصيلية، لا سيما أنه منذ إقرار موازنة عام 2018 يواجه الاقتصاد أزمة هيكلية، أحدثت تدهورًا حادًا في سعر العملة الوطنية (الجنيه)، وارتفاعًا ملحوظًا في أسعار السلع الاستهلاكية، وأزمات في الوقود والخبز.

وتجدر الإشارة إلى أن العملة المحلية تواجه تدهورًا في السوق الموازية أمام الدولار، في ظل ارتفاع عجز الموازنة وتجاوز التضخم السنوي لمستوى 60 في المئة. ونظرًا لأن الأسواق المالية تعاني من شح حاد في السيولة، أمر البنك المركزي، في 16 أغسطس الماضي، المؤسسات والهيئات الحكومية بإغلاق حساباتها بالعملة الأجنبية والمحلية في البنوك التجارية، وتحويلها للبنك المركزي.

نتائج عكسية:

2- توتر العلاقات بين المؤسسات الرسمية: وهو ما ينطبق على حالة إيران بعد تراجع قيمة العملة الوطنية (الريال) أمام العملات الأجنبية، لا سيما الدولار واليورو، إلى أدنى المستويات، على نحو دفع السلطات الرسمية إلى إغلاق بعض محلات الصرافة، وشن حملة اعتقالات في صفوف العاملين في قطاع الصرافة، فضلاً عن القيام ببيع الذهب في الأسواق الخارجية لتحقيق التوازن في أسعار صرف العملات الأجنبية. ولم تساهم تلك الإجراءات في حل اللأزمة بل قادت إلى خلافات حادة داخل البرلمان حول التدابير الحكومية المتخذة.  

تظاهرات غاضبة:

3- اندلاع احتجاجات في المحافظات الجنوبية اليمنية: مثل عدن ولحج، في 2 سبتمبر الجاري، على خلفية تراجع الريال، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع الأسعار وخاصة أسعار السلع الأساسية والوقود، بسبب ممارسات ميلشيا الحوثيين، والمتمثلة في قيامها بالمضاربة في العملة والاستحواذ على العملات الصعبة واقتصار التعامل مع شركات الصرافة الموالية لها والتضييق على التجار عبر التعسف في فرض الضرائب والإتاوات واحتكار تجارة الوقود، الأمر الذي ساهم في عدم استقرار العملة المحلية وتزايد أزمة عدم الثقة فيها.

لذا، شرعت الحكومة اليمنية، في 9 سبتمبر 2018، في اتخاذ التدابير التنفيذية لمنظومة الإصلاحات التي أقرتها اللجنة الاقتصادية برئاسة الخبير الاقتصادي والمالي حافظ معياد، ومنها عدم منح تراخيص الاستيراد للسلع باستثناء شحنات الوقود وخمس سلع أساسية، هى القمح والأرز والسكر والحليب وزيت الطعام، ضمن المساعي الرامية إلى توفير العملة الصعبة والحد من استنزافها في استيراد السلع الكمالية، وكذلك إغلاق محلات الصرافة غير المرخصة التي ساهمت في عدم استقرار سعر الريال وتراجعه.

فضلاً عن إجراءات أخرى تتمثل في تفعيل العمل في قطاعات الضرائب والجمارك وغيرها من الموارد المحلية الأخرى ورفع الطاقة الإنتاجية في حقول النفط في مأرب وشبوة وحضرموت عبر مينائي النشيمة والضبة، والبدء بتصدير الغاز عبر بلحاف، وتوفير الضمانات الأمنية لاستئناف التصدير، وتفعيل أجهزة الرقابة على المال العام. هذا بخلاف دعوة رئيس الحكومة أحمد بن دغر إلى الاعتماد على التحويلات المالية الآتية من الخارج عبر المصارف الحكومية، لضمان توفر النقد الأجنبي لديها، ومنعه من الوصول إلى ميلشيا الحوثيين.

ثورة جياع:

4- تصاعد دعوات لـ"ثورة جياع" ضد الميلشيات المسلحة في اليمن: دعا ناشطون في العاصمة صنعاء، في 9 أغسطس الماضي، إلى ثورة جياع ضد الحوثيين نظرًا لمسئوليتهم عن تدهور أوضاع البلاد منذ الانقلاب على الشرعية في سبتمبر 2014، بحيث استمر التدهور في قيمة العملة اليمنية أمام العملات الأجنبية وتواصل عدم صرف رواتب الموظفين على الرغم من الإجراءات التي تبنتها الحكومة الشرعية والبنك المركزي في عدن من أجل إعادة الاستقرار لسعر الصرف ووضع حد للتلاعب بالسوق المصرفية.

عقوبات واشنطن:

5- توتر العلاقات الإيرانية- الأمريكية: وذلك بسبب تجدد العقوبات الأمريكية على طهران في 7 أغسطس الماضي (الحزمة الأولى)، الذي فرض تداعيات داخلية عديدة، منها انهيار سعر العملة الوطنية (الريال)، حيث تخطى سعر الدولار حاجز الـ140 ألف ريال، كما وصل اليورو إلى 160 ألف ريال، على نحو يفسر تفاقم الأزمة الاقتصادية والصعوبات المالية في البنوك المحلية وشركات توظيف الأموال، وكلها عوامل قادت إلى تجدد الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها عدة مدن في توقيتات مختلفة خلال العامين الماضي والجاري.

قضايا خلافية:

6- تفاقم الخلافات التركية- الأمريكية: وجهت أنقرة اتهامات لواشنطن بالتسبب في تفاقم انهيار العملة المحلية (الليرة) التي خسرت 43 في المئة من قيمتها مقابل الدولار خلال العام الحالي. إذ أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 10 أغسطس الماضي، مضاعفة الرسوم على واردات الألومنيوم والصلب من تركيا، لا سيما في ظل تصاعد الأزمة بين واشنطن وأنقرة بشأن القس الأمريكي أندرو برنسون المحتجز في تركيا بتهم تتعلق بالإرهاب والتجسس، فضلاً عن خلافات ترتبط بالسياسات المتبعة تجاه سوريا، وخطط أنقرة لشراء نظام الدفاع الصاروخي الروسي (إس-400)، ومطالبة الولايات المتحدة الأمريكية بوقف مشتريات النفط من إيران، وهى مصدر رئيسي لواردات الطاقة التركية.

لذا، هاجم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في كلمته خلال منتدى الأعمال التركي- القيرغيزي، في 2 سبتمبر 2018، الوكالات الدولية للتصنيف الائتماني بسبب تقييماتها المتدنية للاقتصاد والبنوك، وتحذيراتها من تأثير الانهيار في سعر صرف الليرة أمام العملات الأجنبية، حيث اعتبر أن هناك تلاعبًا في أسعار الصرف، وأن الغاية منه هى إثارة الشكوك حول الاقتصاد التركي، والذي وصفه بـ"القوي"، في حين أن مؤسسات التصنيف الائتماني العالمي، وفقًا له، "مسيسة ولا تتحلى بالصدق" لا سيما بعد تصنيف اقتصاد تركيا ضمن الفئة "المُعرًّضة للخطر الشديد".

وردت تركيا بفرض رسوم إضافية على عدد من البضائع الأمريكية المنشأ، منها الفحم والورق والجوز واللوز والتبغ والأرز والسيارات ومواد التجميل والمنتجات البتروكيماوية. ولجأت أنقرة إلى هذه الخطوة بعد فشل محاولاتها مع مكتب الممثل التجاري الأمريكي لاستثناء المنتجات التركية من الرسوم الإضافية التي فرضت على الواردات من الدول الأوروبية والمكسيك وكندا أيضًا. وقدمت من جهة أخرى شكوي إلى منظمة التجارة الدولية ضد هذه الرسوم التي فرضتها واشنطن.

ومؤخرًا، أصدرت الرئاسة التركية مرسومًا يلزم المصدرين بتحويل معظم إيراداتهم من النقد الأجنبي إلى الليرة. ويتعين، وفقًا للمرسوم الجديد، على المصدرين تحويل 80 في المئة من إيراداتهم من النقد الأجنبي إلى الليرة في غضون 180 يومًا من تلقيهم المدفوعات. وعلى الرغم من أن الحكومة ترى أن هذا الإجراء قد يدعم الليرة، إلا أنه قد تتمخض عنه تداعيات سلبية نتيجة عدم التشاور مع المصدرين قبل إصدار المرسوم. وطبقًا لإحصاءات رسمية تركية، بلغ إجمالي قيمة الصادرات التركية خلال عام 2017 نحو 157 مليار دولار، وقد يكلف هذا الإجراء المصدرين ما يتراوح بين 3 إلى 4 مليار دولار، بما في ذلك تكاليف تحويل العملة.

مبادلة العملات:

7- تدخل قطر لدعم الليرة التركية: وذلك بعد التراجع المتتالي في قيمة الأخيرة. إذ أبرم البنك المركزي التركي اتفاقية مع نظيره القطري حول مبادلة العملات، في 19 أغسطس الفائت، والتي تعد خطوة أولى لتنفيذ حزمة استثمارات بين أنقرة والدوحة تبلغ 15 مليار دولار. ووفقًا لما ذكرته تقارير عديدة، فإن هذه الاتفاقية تهدف إلى تسهيل عمليات التجارة بين البلدين بالعملة المحلية، مع توفير السيولة والدعم اللازمين للاستقرار المالي. ومن المنتظر أن تصل قيمة الدفعة الأولى إلى 3 مليار دولار. لكن رغم ذلك، فإن هذه الخطوة لن تساهم في معالجة الانكشاف المالي الذي تواجهه تركيا.

مواجهة الدولار:

8- بدء التفاهمات الاقتصادية التركية الجديدة: دعا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خلال منتدى الأعمال التركي- القيرغيزي، في 2 سبتمبر الجاري، إلى تفعيل التعاون تجاه الخطط الاستراتيجية التي يجري اتخاذها، بهدف تخليص التجارة العالمية بشكل تدريجي من ما أطلق عليه "تسلط الدولار"، حيث قال في هذا السياق: "إن الولايات المتحدة الأمريكية تتصرف مثل ذئب ضار متوحش.. فلا تصدقوها"، وأشار إلى أن بلاده بصدد التفاوض مع روسيا بشأن الاستغناء عن الدولار في مبادلاتهما التجارية، وتسعى أنقرة لتطبيق الأمر نفسه مع الصين وإيران.

أزمات متراكمة:

خلاصة القول، إن الإجراءات التي اتخذتها دول عدة بالإقليم لم تفلح في كبح جماح التهاوي الذي شهدته قيمة العملات المحلية، أو منع تراجع الثقة في استقرار الاقتصاديات الوطنية، لا سيما أن هناك متغيرات سياسية غير قابلة للسيطرة عليها. إلا أن هناك إجراءات سياسية واقتصادية انتهجتها بعض تلك الدول ساهمت في تراكم الأزمات كنتيجة لعجز الميزان التجاري والتوسع في الديون السيادية وارتفاع نسبة التضخم، الأمر الذي يفرض إجراء إصلاحات داخلية هيكلية.