إيران والعرب وأميركا: أخطار العام الجديد

28 December 2017


ترتفع حدة التداخل بين إيران والعالم العربي مما يثير جدلاً باتجاهات عدة. إيران، تلك الدولة الممتدة عبر حدود مترامية في كل من آسيا والخليج والعراق، تحمل من التاريخ والحضارة أوزاناً متناقضة كما تسعى لترتيب أوراقها بحيث تكون عاملاً إستراتيجياً في مستقبل الإقليم العربي. إن السبب الأكبر لقدرة إيران على تطوير نفوذها في العقد ونصف العقد الأخير ارتبط بوجود فراغات هائلة نتجت من فشل النظام العربي في تطوير نفسه وقيام تنمية شاملة سياسية واقتصادية وثقافية.

بدأت قصتنا الجديدة مع إيران مع الثورة الإيرانية التي غيرت التوازنات الإقليمية بما لا يقل عن التغيير الذي جاء به الرئيس جمال عبد الناصر في العام ١٩٥٢. إذ ألهمت الثورة الإيرانية عام ١٩٧٩ الحالة الشعبية والإسلامية في العالم العربي بشقيها السني والشيعي، وحرك نموذجها الإسلام السياسي وشكل بداية نهوض التيار الإسلامي العربي، بينما عزز في الوقت نفسه انحسار التيار العربي القومي. ولهذا وبحكم ذلك التأثير تحولت إيران إلى ثورة محاصرة في محيطها العربي الرسمي، بينما خشيت الولايات المتحدة من شعاراتها حول الاستقلالية ومواجهة السيطرة الأميركية والصهيونية. بيّنت الثورة الإيرانية مدى فشل السياسة الأميركية التي استثمرت على مدى عقود عدة في دور شاه إيران الإقليمي. لقد شكلت إيران بحكم موقعها الجغرافي وملاصقتها لمنطقة الخليج وقربها من إسرائيل خطراً على المصالح الأميركية. وهكذا كان الصراع المحموم بين إيران والولايات المتحدة ثم إسرائيل نتيجة طبيعية لسياق تاريخي.

لكن هذا لا يعني أن إيران لم تكن مخيفة لمحيطها، فكل ثورة تثير مخاوف جمة في دول الجوار كما تثير تطلعات بين السكان والشعوب، خصوصاً في منطقة لا توجد فيها آليات سياسية للتغيير السياسي والمشاركة الشعبية. لهذا خشيت دول الجوار من النموذج. ويقول لنا التاريخ إنه لم تقع ثورة من الثورات الكبرى لم تصنع من محيطها مجالاً حيوياً لها، فكل ثورة بطبيعة الحال تتصارع في شكل موسع مع النظام الدولي والإقليمي المهيمن لتفتح لنفسها مجالاً حيوياً. فالثورة الفرنسية دخلت في حروب شتى مع النظام الأوروبي المحيط بها، بينما الاتحاد السوفياتي انتشر نحو أوروبا الشرقية وتصارع مع النظام الرأسمالي العالمي، أما الصين فدعمت الثورات في الدول المحيطة وتحدت النظام الدولي على كل صعيد، بل حتى كوبا ونيكاراغوا اصطدمتا بالنظام العالمي والأميركي.

لهذا يمكن التأكيد أن إيران الراديكالية لم تأت من فراغ. فالراديكالية الإيرانية نتاج طبيعي لمنع إيران من خط طريق خاص بها خارج بعض أسوار المنظومة الدولية والإقليمية المسيطرة. إن النظام الدولي لا يحبذ الاستقلالية، وبروز قوى لا تخضع للتأثير العالمي والأميركي، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط. فهذه التوجهات أكانت إيرانية أم تركية أو ناصرية أم إسلامية تثير مخاوف بخاصة في منطقة إستراتيجية كمنطقتنا العربية التي تتضمن الطاقة وتنوعاً كبيراً في الجغرافيا والشعوب وبسبب وجود إسرائيل والصهيونية في قلبها. لهذا اقتنعت إيران أن هدف النظام الدولي والأميركي المتداخل مع إسرائيل هو تغيير النظام الإيراني.

إن سياسة تغيير النظام الإيراني والتي طرحت تحت مسميات مختلفة كالاحتواء أنتجت مخاوف إيرانية دفعتها للاستثمار بزخم في المشروع النووي، ودفعتها في الوقت نفسه لاستغلال كل فرصة لاختراق العالم العربي وجغرافيا المحيط. إن إستراتيجية تغيير النظام الإيراني لم تكن حكراً على إدارة أميركية بعينها، إذ استمرت عبر إدارات عدة ديموقراطية وجمهورية كإدارات ريغان وكلينتون وبوش. ربما كان الرئيس أوباما الذي استوعب بعض مخاوف إيران، أقل الرؤساء سعياً لتغيير النظام الإيراني، بل أكثرهم إدراكاً لضرورة إيقاف المشروع الإيراني النووي من خلال التفاوض والتسوية.

لكن قدرة إيران على كسر الطوق المحيط والتعامل مع الدول العربية ارتبط بضعف الإستراتيجية العربية، فهي لم تحاور إيران حيث يجب، ولم تطمئنها حيث يمكن طمأنتها، ولم تتصارع معها في مواقع تستحق ذلك. إن اختراقات إيران في العالم العربي لم تأت من جراء قدرات السياسة الإيرانية وحدها، بل تطورت بسبب سياسات عربية أخطأت الهدف، فقد استفادت إيران من غزو صدام حسين للكويت عام ١٩٩٠، فبالنسبة إلى إيران عبّر غزو الكويت عن انهيار جبهة العرب الموحدة (دول الخليج والعراق). مثّل ذلك بداية سقوط النظام العربي. لقد بدأت إيران تستعد لسيناريوات تعظيم نفوذها واختراق الإقليم منذ احتلال صدام للكويت ومنذ أن بدأ الحشد الدولي لإخراجه من الكويت.

لكن إيران لم تكن تتوقع في أحسن أحلامها أن عدوتها الولايات المتحدة ستسهل عليها عملية اختراق العالم العربي. فقد نتج من هجمات 11 أيلول (سبتمبر) ٢٠٠١ (عملية «القاعدة») أن غزت الولايات المتحدة أفغانستان في العام ٢٠٠٢ ثم العراق في عام ٢٠٠٣. هذا بحد ذاته خلق فرصاً جديدة لإيران، لكنه أيضاً أثبت أن الولايات المتحدة لم يعد يهمها استقرار الإقليم العربي والخليجي. فالعملية الأميركية في العراق كانت أكثر مغامرة من عمليات أميركية شبيهة في أميركا اللاتينية وغيرها. إن حرب الولايات المتحدة لتغيير النظام العراقي عام ٢٠٠٣ كانت تهدف للانتقام من أحداث 11 سبتمبر، وفي الوقت نفسه إحكام السيطرة على منطقة الخليج من خلال العراق ونظرية نشر الديموقراطية بالقوة.

وما زال اللغز يصاحبنا إلى اليوم: لماذا حلّت الولايات المتحدة بعد غزوها العراق الجيش العراقي والدولة العراقية؟ فهل من كان يريد نشر الديموقراطية يحل الدولة التي ستنمو فيها التجربة؟ فالولايات المتحدة لم تستطع استيعاب معنى حل الجيش العراقي وأثره في علاقات القوة في الإقليم، وهي لم تتعمق في معرفة طبيعة العلاقات بين الطوائف التي يتشكل منها العراق. يبدو أنه لم يعنيها سوى الانتقام من 11 سبتمبر، ومن هنا خطورة العمل الأميركي في عام ٢٠٠٣. لقد ساهم حل مؤسسات الدولة العراقية في الفشل الأميركي وفي خسائر أميركية كبيرة، لكن الأخطر أن هذا العمل قدم العراق لقمة سائغة لإيران.

علينا أن نتساءل بالتالي عن السياسات التي إن اتبعناها ستقوي إيران في الإقليم وعن تلك السياسات التي لو اتبعناها ستؤدي إلى السلم والاستيعاب؟ الواضح بعد كل ما حققته إيران في الإقليم، بخاصة منذ ثورات ٢٠١١ وقيامها بمناصرة نظام الأسد في ظل الثورة المضادة التي عمّت الإقليم، أن الحوار ضرورة. فنحن وإيران من الدائرة الحضارية نفسها، ونلتقي في المسألة الفلسطينية، ونلتقي حول القدس، كما وفي الحاجة إلى الأمن، كما نلتقي في مجال التبادل الاقتصادي ونتائجه. لكننا نختلف في أمور عدة أهمها أن إيران رافضة للديموقراطية في الإقليم، وتدخلت في سورية ضد طموحات الشعب السوري، واستخدمت الطائفية في صراعها ودعمها النظام السوري وغيره من القوى والتيارات. هذا لا يعني أن إيران هي الوحيدة التي استخدمت الورقة الدينية والتحريض الطائفي. إن العلاقة مع إيران لا يمكن أن تكون خاضعة لمنطق الأسود والأبيض، أو لمنطق الحرب، بل لمنطق التدرج الذي يحتوي على تداخل كما وتناقض المصالح.

لكن التوترات مع إيران أخذت منحى جديداً في عهد الرئيس ترامب، فالولايات المتحدة في عهده ترى في الأمم المتحدة عبئاً، وقدمت القدس على شكل اعتراف سياسي عاصمة لإسرائيل، وهي تدفع نحو التوتر الإقليمي، وتعتبر إيران خطراً على المصالح الأميركية بحكم طبيعة تنسيقها الكبير مع الصين وروسيا، وبحكم توسعها في الإقليم العربي ووجودها على حدود إسرائيل من أكثر من جانب وموقع. بل ترى الولايات المتحدة في إيران خطراً يكاد يكون مباشراً على المصالح الأميركية مما يستدعي بناء تحالفات وتحريك آفاق استخدام القوة العسكرية. الترامبية مدرسة متكاملة في التطرف وهي أكثر راديكالية من مدرسة المحافظين الجدد لأنها تمثل سعي الولايات المتحدة لاستخدام القوة بصورة أحادية في ظل تحجيم الإجماع الدولي والشرعية الدولية ومبادئ حقوق الإنسان والديموقراطية. وهذا بحد ذاته يفرض علينا أن نتوقع غير المتوقع في العام ٢٠١٨. هل تنجح السياسة الأميركية؟ يبدو أنه بسبب تسرع ترامب وطبيعة تطرف أفكاره سيدفع الولايات المتحدة نحو مزيد من العسكرة والعزلة، وربما نحو العمل العسكري، لكن هذا بدوره سيؤدي إلى إضعاف الولايات المتحدة تماماً كما أدى تصرف بريطانيا وفرنسا (وإسرائيل) المتطرف في عام ١٩٥٦( العدوان الثلاثي) إلى بداية تراجع نفوذ بريطانيا وفرنسا الإقليمي بل والعالمي. للتاريخ منطق يتناقض مع شعارات وأحلام الدول.

*نقلا عن صحيفة الحياة