حدود الحركة:

هل تستطيع إيران تهديد المصالح الأمريكية؟

27 July 2017


 يبدو أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بدأت في التعامل مع الاتفاق النووي الذي توصلت إليه إيران ومجموعة "5+1" في 14 يوليو 2015، والذي أنهى عامه الثاني منذ أيام، عبر الفصل بين جانبه الفني وشقه السياسي. وقد بدا ذلك جليًا في إقرار الإدارة الأمريكية، في 17 يوليو الجاري، بأن إيران ملتزمة ببنود الاتفاق، بما يعني أنها تقوم بتخفيض مستويات تخصيب اليورانيوم إلى 3.5% وتقليص عدد أجهزة الطرد المركزي من الطراز الأول التي تستخدمها في عمليات التخصيب إلى نحو 5060 جهاز، ونقل كميات المياه الثقيلة التي أنتجهتا إلى الخارج وغيرها من الالتزامات.

لكن بالتوازي مع ذلك، بدأت الإدارة في توجيه إشارات عديدة بأن المشكلة مع إيران لا تكمن في الجانب الفني للاتفاق، وإنما في تعمد إيران استغلاله من أجل دعم حضورها في المنطقة وتعزيز تمددها داخل دول الأزمات، وهو ما يفسر حرصها على اتهام إيران بأنها "تخل بروح الاتفاق".

هذا الموقف تحديدًا يشير إلى أن الرؤية الأمريكية للاتفاق تتأسس على أن الدول التي توصلت إليه مع إيران كانت تسعى إلى استثماره من أجل تعزيز جهود تحقيق الاستقرار في المنطقة ودعم فرص تسوية الأزمات الإقليمية المختلفة، وهو ما لم يحدث بسبب السياسة التي تبنتها إيران، والتي أدت إلى تصاعد حدة الاضطرابات داخل دول الأزمات وعرقلة المساعي التي بذلت في هذا السياق.

وقد عبرت الإدارة الأمريكية عن تلك الرؤية بتوجيه اتهامات لإيران باستغلال الأموال المفرج عنها في الخارج بمقتضى الاتفاق من أجل دعم الإرهاب وتطوير ترسانتها من الأسلحة المتطورة وخاصة الصواريخ الباليستية، التي بدأت في استخدامها خارج حدودها عبر إطلاق العديد منها على دير الزور في سوريا في 19 يونيو 2017.

وفي هذا السياق، قال مايك بومبيو مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، في 20 يوليو الجاري، أن "إيران تنتهج سياسة توسيعية تسعى من خلالها إلى الهيمنة على الشرق الأوسط"، وهى إشارة أخرى إلى أن الإدارة الأمريكية الحالية لم تعد تمنح الأولوية في تفاعلاتها مع إيران للاتفاق النووي فحسب، وإنما أيضًا للأدوار التي تقوم بها إيران في دول الأزمات، على غرار سوريا والعراق واليمن. 

وقد استندت واشنطن لتلك الاتهامات لتبرير اتجاهها، في 18 يوليو الجاري، إلى إدراج 18 كيانًا وشخصًا على قائمة العقوبات المفروضة ضد إيران، بسبب دورها في دعم التوتر الإقليمي وتطوير برنامج الصواريخ الباليستية، حيث تضمنت العقوبات سبعة كيانات وخمسة أفراد لتورطهم في أنشطة يقوم بها الحرس الثوري إلى جانب منظمة إجرامية دولية مقرها إيران وثلاثة أشخاص يرتبطون بعلاقات معها. كما أن ذلك مثل دافعًا لمجلس النواب الأمريكي لإقرار عقوبات جديدة على إيران وروسيا في 25 من الشهر ذاته.

تهديدات استباقية:

إيران بدورها اعتبرت أن إقرار الولايات المتحدة بالتزامها ببنود الاتفاق النووي لا يوحي بتغير إيجابي في موقف الإدارة الأمريكية، بل ربما يكون مقدمة لتحرك أمريكي جديد يهدف إلى التأثير سلبيًا على استمرار العمل بالاتفاق الذي لا تخفي تلك الإدارة امتعاضها منه، والدخول في صراع إقليمي مفتوح مع طهران، لا سيما أن هذه العقوبات قد لا تكون الأخيرة، حيث يحتمل أن تتعرض مؤسستها العسكرية، وخاصة الحرس الثوري، لعقوبات أشد وطأة خلال المرحلة القادمة.

ومن هنا، اتجهت طهران بدورها إلى تصعيد حدة تهديداتها لواشنطن. إذ جددت تلميحها إلى إمكانية انسحابها من الاتفاق من جانب واحد، في حالة استمرار تلك الإجراءات الأمريكية، وهو ما عكسه تأكيد وزير الخارجية محمد جواد ظريف، في حواره مع موقع "ناشيونال انترست"، في 17 يوليو الحالي، على أن "خيار الانسحاب من الاتفاق مطروح في حالة ما إذا لم تفي الولايات المتحدة بالتزاماتها في الاتفاق".

 لكن التهديدات الأهم جاءت على لسان قادة المؤسسة العسكرية، وكان آخرهم قائد الحرس الثوري محمد علي جعفري، الذي دعا، في 19 يوليو الجاري، الولايات المتحدة إلى "إبعاد قواعدها العسكرية القريبة من حدود إيران في حالة ما إذا استمرت في قضية العقوبات المفروضة على إيران".

خيارات محدودة:

 ومع ذلك، لا يمكن القول إن إيران في وارد المغامرة بالدخول في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة. إذ أن خياراتها المتاحة في هذا السياق لن تكون متعددة، بما يعني أنها ربما تواجه مأزقًا حرجًا في المرحلة الحالية بسبب الاتفاق النووي، حيث أنها لا تستطيع بسهولة تنفيذ تهديدها بالانسحاب من الاتفاق والعودة مرة أخرى إلى المستويات السابقة التي كان عليها البرنامج النووي قبل الوصول للاتفاق. 

 كما أنها في الوقت نفسه لا تستطيع ممارسة ضغوط على واشنطن من أجل دعم فرص استمرار العمل بالاتفاق وتهيأة المجال أمام تعزيز جهود حكومة الرئيس حسن روحاني في الحصول على أكبر قدر من العوائد الاقتصادية للاتفاق. 

 فضلا عن أن تهديداتها للمصالح الأمريكية لا تتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض، التي تشير إلى أنها لا تحبذ المواجهة المباشرة، ولن تغامر بتكليف حلفاءها بتوجيه ضربات ضد تلك المصالح، باعتبار أنها ستُتهم من قبل واشنطن بأنها المسئولة عن ذلك، خاصة في ظل تركيز الأخيرة على العلاقات القوية التي تؤسسها إيران مع الميليشيات الإرهابية والمسلحة الموجودة في دول الأزمات، والتي تسعى من خلالها إلى تأسيس "الهلال الشيعي" الذي أصبح مصطلحًا دارجًا في تصريحات بعض المسئولين الأمريكيين على غرار مدير وكالة الاستخبارات المركزية مايك بومبيو، الذي قال، في 15 أبريل 2017، أن "إيران تقترب من الهلال الشيعي الذي لا يصب في مصلحة الولايات المتحدة". 

 وتكمن المفارقة هنا في أن تأكيد الإدارة الأمريكية على التزام إيران بالاتفاق النووي ربما يزيد من حدة المأزق الذي تواجهه الأخيرة في المرحلة الحالية، خاصة أن ذلك يمنع المتشددين داخل إيران، لا سيما في تيار المحافظين الأصوليين والحرس الثوري، من انتهاز الفرصة للانقلاب على الاتفاق، أو وضع مزيد من العراقيل أمام استمرار العمل به، خاصة أن إيران لا تبدو حاليًا في وارد تحمل المسئولية الدولية عن توقف العمل بالاتفاق، والتي ستترتب عليها تداعيات وخيمة على مصالحها وأمنها.

 من هنا، فإن المسار الأكثر ترجيحًا يتركز على استمرار حالة الشد والجذب الحالية بين الطرفين خلال المرحلة القادمة، طالما أن العقوبات التي تفرضها الإدارة الأمريكية على إيران مازالت في الحدود التي لا تفرض تأثيرات قوية على الأخيرة على غرار تلك التي سبق أن تعرضت لها إيران قبل الوصول للاتفاق. 

 واللافت في هذا السياق، هو أن حكومة روحاني ورغم انتقاداتها المستمرة لتلك السياسة التي تتبعها الإدارة الأمريكية، إلا أنها قد ترى أن الفرصة ما زالت قائمة من أجل فتح قنوات تواصل مع الأخيرة، على أساس أن ذلك ربما يدفعها إلى عدم الإقدام على خطوات أكثر قوة قد تكون كفيلة بتعزيز احتمالات انهيار الاتفاق.

وقد عبر وزير الخارجية جواد ظريف عن هذا التوجه، بإشارته، خلال مشاركته في جلسة بمجلس العلاقات الخارجية بنيويوك في 17 يوليو الحالي، إلى أنه "لم يتم أى اتصال بينه وبين وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون لكن ذلك لا يعني أنه لا يمكن أن تجري اتصالات"، مضيفًا أن "المسئولين الإيرانيين يجرون اتصالات منتظمة مع مسئولين أمريكيين في شأن الاتفاق النووي".

تهديدات متبادلة وتحركات متشابكة كلها تعني أن التوتر سوف يتواصل بين طهران وواشنطن خلال الفترة القادمة، بشكل ربما يفرض تداعيات قوية في النهاية على الصفقة النووية التي تواجه تحديات حالية لا تبدو هينة.