تحولات تركيا:

إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية بعد فشل الانقلاب

03 August 2016


منذ الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا منتصف شهر يوليو الماضي، يسعى الرئيس رجب طيب أردوغان بكل ما يملك من قوة سياسية ودستورية إلى إحكام سيطرته الكاملة على المؤسسة العسكرية، تلك المؤسسة الوطنية الأقدم والأعرق في حياة تركيا منذ تأسيس الجمهورية التركية في عام 1923. ومع أن مسألة إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية وعلاقتها بالسلطة السياسية في أي بلد، هي قضية مطروحة في إطار الإصلاحات السياسية وترسيخ التحولات الديمقراطية وتغير مهام هذه المؤسسة في ضوء التحديات الأمنية على المستويين الوطني والقومي، إلا أنها في الحالة التي تشهدها تركيا هذه الأيام، تأخذ شكل الانتقام من هذه المؤسسة عقب المحاولة الانقلابية الفاشلة، وفي الوقت نفسه تثير مخاوف داخلية وخارجية من أن تؤدي هذه الخطوة إلى تغير عقيدة الجيش التركي ودوره في المنظومة الإقليمية والدولية، لاسيما أن تركيا دولة عضو في الحلف الأطلسي، وتقع في موقع جيوسياسي مهم عالمياً.

تغييرات شاملة وجوهرية

إلى جانب حملة الاعتقالات المتواصلة، والتي طالت نصف قيادات الجيش التركي تقريباً، ونحو عشرة آلاف جندي وضابط صف وعنصر أمن، اتخذت القيادة التركية خلال أقل من أسبوعين سلسلة قرارات شاملة، ستكون نتائجها مدوية على المؤسسة العسكرية في المرحلة المقبلة؛ إذ إنها ستنقلها إلى مرحلة جديدة مختلفة كلياً لجهة الدور والوظيفة والعلاقة مع المؤسسة السياسية، وتحديداً مؤسسة الرئاسة التي ستصبح لها كلمة الفصل في مُجمل عمل هذه المؤسسة. ولعل من أبرز هذه الخطوات والقرارات ما يلي:

1- إلحاق قيادات القوات الجوية والبرية والبحرية بوزارة الدفاع بعد أن كانت تابعة لهيئة الأركان العامة.

2- توسيع بنية المجلس العسكري الأعلى (مجلس الشورى العسكري) ليشمل نواب رئيس الوزراء ووزراء الداخلية والعدل والخارجية، على أن يكون المجلس برئاسة رئيس الوزراء، ويعقد اجتماعاته في مجلس الوزراء بعد أن كانت في رئاسة الأركان العامة.

3- إغلاق الكليات والمدارس والمعاهد العسكرية، وبناء جامعة باسم جامعة الدفاع الوطني تتولى مهام تدريب عناصر الجيش بدلاً من هذه الكليات والمدارس والمعاهد، على أن يكون تعيين رئيس تلك الجامعة من صلاحية الرئيس رجب طيب أردوغان.

4- مرسوم يُخول رئيسي الجمهورية والوزراء حق الحصول على معلومات مباشرة عن قيادات القوات العسكرية ومدى ولاء أفرادها للحكومة، وحق إعطاء أوامر لهذه القوات وتنفيذها من دون الحصول على موافقة أي سلطة أخرى.

5- جميع قادة الجيوش مسؤولون أمام وزير الدفاع مباشرةً، وليس كما كان في السابق أمام رئيس الأركان العامة للجيوش.

6- إعلان أردوغان السعي إلى وضع هيئة الاستخبارات التركية العامة وهيئة الأركان العامة تحت سلطة رئيس الجمهورية مباشرة.

7- إنشاء جهاز أمني جديد مرتبط برئاسة الجمهورية، مهمته معاقبة ومتابعة المناوئين لسياسة الحكومة التركية في مختلف مؤسسات الدولة، لاسيما جماعة الداعية فتح الله غولن، حيث يعتقد أردوغان بوجود أنصار لغولن مخفيين في مؤسسات الدولة ويحرصون على إخفاء أنفسهم وعدم ممارسة أي نشاط حتى الآن في إطار خطة سرية للمرحلة المقبلة.

8- إلحاق جميع المؤسسات العسكرية الصحية، من أكاديميات ومستشفيات ومعاهد طبية، بوزارة الصحة بعد أن كانت تابعة لقيادة الجيش.

تغييرات في ظل حالة الطوارئ

من الواضح، أن هذه التغييرات الكبيرة تجري في إطار خطة شاملة، تتجاوز أهدافها وضع آليات جديدة للعلاقة بين المؤسستين العسكرية والسياسة إلى قضايا تتصل بعقيدة الجيش التركي ومنظومته الأمنية، إذ إنها تجري في ظل ظروف استثنائية، لعل أهمها الآتي:

1- أنها تجري في ظل حالة الطوارئ المُعلنة لمدة ثلاثة أشهر، وليست في ظل ظروف عادية، حيث إن مثل هذه الخطوات تكون من صلاحية البرلمان باعتباره المؤسسة التشريعية التي عادة تتولى عملية الإصلاح القانوني والدستوري والسياسي.

2- هذه الخطوات تصدر بأوامر من الرئيس أردوغان وتأخذ شكل قوانين في ظل حالة طوارئ، وليس البرلمان ومن ثم المحكمة الدستورية التي تعد موافقتها على أي مرسوم أو قرار ضروري لجهة دستورية أو قانونية القرار.

3- هذه الخطوات تصدر في مرحلة ما بعد فشل المحاولة الانقلابية، وفي ظل هواجس من تكرار المحاولة من جديد.

4- أحزاب المعارضة الممثلة في البرلمان تبدو خارج حسابات إصدار هذه القرارات الاستثنائية، على الرغم من تسجيل بعض هذه الأحزاب ملاحظات وانتقادات لم تأخذ حكومة حزب العدالة والتنمية بها، لاسيما لجهة تقزيم دور المؤسسة العسكرية إلى حد المس بكرامتها.

5- إن الحكومة التركية، وفي سعيها إلى إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية، رفضت كل الانتقادات الغربية، لاسيما الأمريكية، حيث أعلن العديد من قادة المؤسسة العسكرية الأمريكية خشيتهم من أن تؤدي مثل هذه الخطوات إلى التأثير سلباً على العلاقات العسكرية بين البلدين وعلى التعاون العسكري بينهما، فضلاً عن تداعيات سلبية على الحرب الجارية ضد تنظيم "داعش" في سوريا والعراق.

في كل الأحوال، وبغض النظر عن الانتقادات الداخلية والخارجية للخطوات التي يقوم بها أردوغان من أجل إخضاع المؤسستين العسكرية والأمنية لسلطته مباشرة، وبغض النظر عن الإشكاليات القانونية المتعلقة بدستورية هذه الخطوات كونها تجري في ظل حالة الطوارئ وليس من خلال إصلاحات من داخل البرلمان، فإنه من الواضح أن إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية باتت مسألة أكيدة ولن تحتاج إلى المزيد من الوقت، خاصةً أن أردوغان يبدو وكأنه في سباق مع الزمن لإعادة ترتيب بنية النظام السياسي في تركيا، وبما يتيح كل ما سبق الانتقال من النظام البرلماني إلى الرئاسي.

مخاوف غريبة عميقة  

من المعروف عن الجيش التركي تاريخياً أنه أناط لنفسه دور حماية الأسس العلمانية للجمهورية التركية، وقد نص على هذا الأمر الدستور التركي في عدد من مواده وبنوده، وهي مواد وبنود حصَّنت شخصية المؤسسة العسكرية دستورياً، وفق قاعدة قديمة تقول (الجيش يحمي الدستور، والدستور يحمي الجيش). لكن الثابت أن ما يحدث حالياً من تغيرات شاملة، لن يغير فقط من هذه القاعدة، بل ويغير دور المؤسسة العسكرية وحتى عقيدتها العسكرية. وفي هذا الإطار، ينبغي النظر إلى جملة من القضايا المرتبطة بعقيدة الجيش التركي، وهي: 

1- مع اعتقال نحو عشرة آلاف ضابط وعنصر، وإقالة مثلهم تقريباً من المؤسستين العسكرية والأمنية، ثمة سؤال جوهري يطرحه الجميع عن هوية هؤلاء الذين سيحلون محلهم. في الواقع، مع القول إن الحملة الجارية تستهدف تطهير العناصر المناوئة لسياسة أردوغان من المؤسسة العسكرية، فإن الحقيقة التي يجب أن تُقال هنا، هي أن الذين سيشغلون أماكن هؤلاء سيكونون من أنصار حزب العدالة والتنمية، ولعل هذا الأمر يثير مخاوف عديدة، خاصةً أن هؤلاء الجدد لهم أيديولوجية دينية واضحة تعتمد الإسلام السياسي الذي يتبعه الحزب بعد أن كان مثل هذا الأمر ممنوعاً في الجيش التركي. وتصل المخاوف إلى حد الخشية من إبدال الهوية العلمانية للجيش التركي بهوية أصولية، لاسيما في ظل الإشارة إلى (جيش محمد) الذي تحدث عنه العديد من مسؤولي حزب العدالة والتنمية في إشارة إلى اسم الجيش التركي خلال العهد العثماني.

2- يعد الجيش التركي ثاني أكبر الجيوش في الحلف الأطلسي بعد الجيش الأمريكي، ومنذ أن انضمت أنقرة مبكراً إلى الحلف في عام 1952 انخرطت في عقيدة الحلف وميثاقه ومهامه. وفي هذا الإطار، شاركت تركيا في العديد من الحروب والمهام الخارجية، كما أقامت واشنطن سلسلة قواعد عسكرية في تركيا، لعل أهمها قاعدة إنجرليك التي تخزن فيها واشنطن أسلحة استراتيجية بما فيها أسلحة نووية.

ومع خطوات أردوغان المتسارعة لإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية، ثمة خشية أمريكية عميقة، تجلت في تصريحات كل من مدير المخابرات الوطنية الأمريكية جيمس كلابر، وقائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال جوزيف فوتيل، في منتدى أسبن الأمني بولاية كولورادو، إذ أكدا أن عملية التطهير شملت الكثير من الضباط الأتراك الذين تعاملوا مع الولايات المتحدة، في إشارة إلى أن إجراءات أردوغان تمس بطبيعة العلاقات القوية بين المؤسستين العسكريتين في البلدين.

3- لا يحتاج المرء إلى الكثير من الجهد، للقول إن ثمة مخاوف أمريكية وأوروبية مشتركة تتعمق يوماً بعد آخر، بأن تركيا في عهد أردوغان بدأت تنفك عن الغرب تدريجياً منذ أن رفض البرلمان التركي السماح للقوات الغربية باستخدام الأراضي التركية في غزو العراق عام 2003، ثم جاءت بعدها سلسلة الخطوات التي اتخذها أردوغان تجاه العديد من القضايا في المنطقة. لكن النقطة الأخطر في هذه التحولات التركية بالنسبة للإدارة الأمريكية، تتلخص في مسألة مصيرية، تتعلق بالخوف من أن تؤدي التحولات الجارية في تركيا إلى انفتاح تركي غير مسبوق على روسيا وإيران قد يصل إلى درجة التحالف، خاصةً أن ثمة مصالح اقتصادية مشتركة بين هذه الدول الثلاث في مجالات الطاقة، وكذلك قضايا أمنية وسياسة تتعلق بكيفية تسوية الأزمة السورية والتعاطي مع الصعود الكردي في المنطقة. فعلى الأقل باتت تركيا مقتنعة بأنه لم يعد من الممكن مواجهة سعي الكرد إلى إقامة دولة مستقلة في المنطقة من خلال الاعتماد على الحليف الأمريكي، بل إن مثل هذا الأمر بات يتطلب تعاوناً وثيقاً مع روسيا وإيران.

وبانتظار نتائج زيارة أردوغان المقررة إلى روسيا في التاسع من الشهر الجاري، فإن الغرب بشقيه الأمريكي والأوروبي ينظر بعين الارتياب إلى التقارب التركي – الروسي وتداعياته على موقع أنقرة في منظومة العلاقات الدولية، وموقفها من أزمات الشرق الأوسط، لاسيما الأزمة السورية.

في جميع الأحوال، ما يجري اليوم في تركيا يدخلها في مرحلة جديدة، وهي مرحلة مليئة بالمتغيرات على شكل إعادة تأسيس بنية النظام السياسي وفقاً لرؤية أردوغان وتطلعه للتخلص نهائياً من إرث جمهورية أتاتورك وإقامة نظام رئاسي يعطيه صلاحيات مطلقة، وفي الخارج تفكيك الارتباط بالغرب لصالح التقارب مع روسيا وإيران وربما سوريا في مرحلة لاحقة، ليبقى السؤال، هل سيسمح الغرب، الذي يعطي أهمية حيوية لتركيا في استراتيجيته، لأردوغان بالذهاب في مخططه حتى النهاية؟